لا تخلو
الدنيا من غنيّ موصول العرى ببعض الفقراء، معارف أو أقرباء، هكذا تتعامل الدنيا،
فيما يبدو، مع مفهوم العدل. كما لا تخلو الدنيا من فقير على صلة رحم مع فرد من
الأغنياء. ولا تخلو الدنيا من غنيّ آدمي أو فقير عزيز النفس. قد يقضّ فقر الفقير
مضاجع بعض الأغنياء العقلاء. ولكن للدنيا مسالك ومواقف وآراء لا يملك العقل
الإنسانيّ لها تفسيراً، وسوف تبقى حياة الناس ثريّة بالأسرار والألغاز التي تحيّر
الألباب ما بقي نبض في عرق. الدنيا لا تذعن أحياناً لرغبة غنيّ أو أحلام فقير، تسخر
من هذا وذاك على السواء، وتدير ظهرها لهما، تلطف حيناً وتعنف أحياناً. وتلعب بهما
كثيراً. ولعلّ هذا ما تجسّده الحكاية التالية: كان لأحد الأغنياء جار فقير، لا تشوب
أخلاقه الحميدة شائبة، لم يستطع الفقر أن يهزم عزّة نفسه، أو يُنبت في تضاعيف روحه
نبتة الحسد السامّة، فلم يشته مثلاً لو أنّ ثروة جاره قفزت إلى داره. قنوع ولا
قناعة الأولياء والصوفيين، كان لا يقبل مدّ اليد، أو الجأر بالشكوى من ضيقها بخلاف
كثيرين. ينطبق عليه قول الله تعالى:"يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف"(سورة
البقرة/الآية 273). إلاّ أنّ الغنيّ لم يكن جاهلاً بل كان على علم تامّ بأحوال جاره
الماديّة، كان يدهشه سلوكه النبيل، وتعفّفه الأكثر نبلاً، وراح يفكر بطريقة يساعده
فيها من غير أن يجرح كرامته، وكان يعرف أيضاً أنّ جاره لن يقبل حسنة أو صدقة،
فالقناعة تكسر الرغبات، وتقلّم من أظافر الأقدار.
أراد
الجار الميسور أن يمحو معالم الفقر من وجود جاره، دون أن يمنّ عليه، أي انّه حاول
كالرجل الصالح فعلاً، أن يكون إحسانه مجهول الهويّة، لم يرد أن يعرف أحد أن انقلاب
مصير هذا الجار الفقير يعود إليه، فآخر همّ هذا الغنيّ الظهور بمظهر المحسن الكريم.
فهم ليس من أصحاب الطموحات العابرة ولا الوجاهات الخاوية إذ يعرف أنّ منتهاها ليس
أكثر من حفنة رماد!
كان يعرف
الطريق التي يسلكها جاره صباح كلّ يوم للذهاب إلى عمله، فسبقه إليها، ثمّ وضع في
منتصفها صندوقاً من المال، على أمل أن يمرّ جاره من صوب الصندوق، فيعترض قدميه،
ويغريه فضوله الفطريّ بفتحه وقطف محتواه. واقعة القصة لا تعود إلى الزمن الراهن،
زمن تكنولوجيا العلب المفخخة، والهدايا الملغومة، فربّما كان الغنيّ قام، لو انه من
أبناء هذا الجيل، بتبديل استراتيجية العطاء، حتى لا يساء الظنّ بنواياه الكريمة.
وتوارى الغنيّ عن الأنظار ليتابع تحولات مصير جاره بعينيه، وما هي إلا دقائق
معدودات حتى ظهر جاره في الدرب، كان وهو يمشي لا يفكر بمصائبه وسوء حاله المادية،
وإنما بمصائب الآخرين التي تفوق مصيبة الفقر آلاف المرّات، ولا سيّما أولئك الذين
أنطفأت الأضواء في عيونهم، وفقدوا بهجة النظر، وتأمّل مفاتن الحياة الكثيرة، فعاشوا
في ظلام دامس عالّة على حواسّ غيرهم.
خطر ببال
الفقير أن يتخلى للحظة عن شخصيته، أن ينسى حاله وأحواله، ويقوم بتمثيل دور شخصيّة
معذّبة، فقرّر أن يجرّب طريقة الأعمى في التعامل مع السير وعوائق الطرق، ويمتحن
وعورة الظلام كنوع من التعاطف والإحساس مع المكفوفين، فأغمض عينيه وتابع طريقه
متلمّساً بعصاه وخطاه البطيئة دربه، كانت هذه التجربة القصيرة من عمر الفقير كفيلة
بتجريده من ثرائه المحتمل. قدر دفين، تعاطف، ربّما في غير وقته، مع العميان، اختلس
منه رغبة جاره الصادقة.
كان
الجار يراقب المشهد عن بعد، وما إن أغمض الفقير عينيه حتى حملق الغنيّ في سلوك جاره
مستغرباً ما يرى. ودّ لو يصرخ، بأعلى صوته، عسى الصوت يوقظ ضوء عيني جاره، ولكن لم
يشأ ذلك، أراد أن يتابع المشهد، أن يرى بأمّ عينيه ما ترسمه الأقدار لنا رغماً عن
رغباتنا أحياناً. مشى الفقير الذي يقوم بدور الضرير أمتاراً عدّة مغمض العينين، صار
الصندوق وراء ظهره، وبعدها بأمتار ضئيلة فتح عينيه على نعمة الإبصار شاكراً نور
السموات والأرض ومعترفاً بفرح غامر أنّ النظر ثروة مضمرة لا تقدّر بثمن. وتابع سيره
متّجهاً إلى عمله بعد أن استعاد بصره وملامح الفرح تطفر من عينيه وخطاه، أمّا
الغنيّ المتواري فإنّه قد اتّجه إلى صندوقه المهمل، تأبّطه وعاد أدراجه، وهو يهزّ
برأسه يميناً وشمالاً كمن أخذه الحال إلى مطارح غامضة مسكونة بألف سؤال
وسؤال!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق