لا ندري بالتمام والكمال مدى صحة الرؤيا
التي رآها الخليفة العباسي المأمون وغيّرت من مجرى تاريخ الفلسفة في العالم
الإسلامي، بحسب الرواية التي رواها القفطيّ في كتابه "تاريخ الحكماء". ولكن لا ريب
في أنّ رؤيا المأمون لأرسطو كبير الفلاسفة الإغريق وحواره المناميّ معه جعلته يعتني
عناية فائقة بترجمة التراث الفلسفي الإغريقي إلى العربية وإنشاء بيت الحكمة. ويا
ليته رأى من جملة من رأى هوميروس فربّما كان من شأن ذلك أن يدفعه إلى الاعتناء
أيضاً بكتب الأدب والأساطير العفيّة التي لم تنل حظوتها من الترجمة إلاّ
حديثاً.
المتتبع لدور عالم الأحلام في الحضارة العربية أو
غيرها من الحضارات يلحظ أموراً طريفة جدّا خرجت من أرحام الأحلام. فالإنسان لا
يتصرّف أحياناً بناءً لما يمليه عليه ضميره وإنما بناء لما تمليه عليه مناماته.
وربّما كانت منامات المرء تكشف عن خفاياه ونواياه أكثر مما يكشفه سلوكه اليوميّ
الذي ليس بالضرورة أن يكون صورة نقيّة عن مكنونه.
الفراق مرّ المذاق، والإنسان حين ينفصل عمن يحبّ
في الدنيا لا يطيق انتظار الآخرة لملاقاته. والميت قد يكون عاطفيّا ورقيق القلب
ويشعر بالشوق لمن غابت عنه وجوههم فيتسلل إلى أحبابه للسمر معهم من باب الأحلام
طوراً لحديث عاديّ وطورا لإسداء نصيحة أو إعطاء رأي. ويمكن قراءة أخبار الرائين
الكثيرة المتناثرة في كتب التعابير والأحلام العربية أو غير العربية ليرى المرء كمّ
التغيرات التي تحدثها الأحلام في حياة الأحياء. ويحضرني هنا كتاب العالم النفسيّ
الشهير اريك فروم الموسوم "اللغة المنسية" حيث يحاول على امتداد صفحاته بلورة
الأبجدية المنامية، ووضع صرف ونحو إذا صحّ التعبير لمادّة المنام الهلاميّة أو لهذه
اللغة المنسيّة كما أحبّ أن يسميها باعتبارها لدى بعض من ينسب نفسه إلى العقلانيّة
من قبيل الأباطيل أو الترّهات. وسواء كانت المنامات من هذيانات خيال محموم أم لا،
فهي غيرت سلوك أشخاص كثيرين لعبوا أدواراً حاسمة في التاريخ كالاسكندر أو تيمور
لنك.
في المنامات ما يخطر وما لا يخطر على بال، ولعلّ
من أطرف ما في المنامات، هو ما ترويه عن الموتى الذين يلبسون في فترة المنام لباس
الأحياء، ويتصرفون كما كانوا يتصرفون في حياتهم اليومية الغابرة، بل ربما ينشطون
أكثر! وما من حيّ إلا وله تجربة ولو عابرة مع من فارق الدنيا. ومن الطريف حقّاً رصد
ما يقوله الأموات عن الأحياء، وسماع تعليقاتهم على أحداث الدنيا الساخنة التي
يرونها من بعيد، والنظرة عن بعد تكون في أي حال بانورامية أكثر. ليس للميت من وسيلة
دنيوية للتعبير عن نفسه أو للتواصل مع الأحياء إلاّ هذه الوسيلة، كلّ ما قاله في
حياته الدنيا من كلام أو كتابات ينتسب إلى الماضي، وإعطاء كلامه القديم دلالة
مستجدّة من قبيل التأويل الذي لا يصحّ إلا بمباركة أو مشاركة مباشرة منه عن طريق
ظهوره في رؤيا ما! وهذا كثير الحدوث في التاريخ، وكتب الأدب والتاريخ تزخر بمواقف
الشعراء الموتى أو المتصوفة من تفسيرات وتآويل لأقاويلهم لا تنال استحسانهم
فيتدخلون مناميّاً لإعادة معنى القول إلى مجراه الطبيعيّ.
ولا يمكن لأحد أنْ يجرؤ على نكران الأحلام
وفعاليتها، ففي كلّ الكتب السماوية أو ما يقوم مقامها في حضارات غير سماويّة أحاديث
عن المنامات. وما قصة يوسف المنامية ببعيدة عن ذهن القارىء فيما أتصور، والميت
يتدخل في أحداث الساعة ليس فقط في الرسم الكاريكاتوري كما نرى في رسومات فنانين على
صفحات الجرائد حيث يرسمون الميت وهو جالس على غيمة بيضاء يخاطب الأحياء ويعلّق على
أحداث الساعة من عليين، ولعلّ هذه الصور الكاريكاتورية ليست إلاّ ترجمة حرفية
لأحلام الرسّام.
ولكن الميّت لا يستطيع أن يحقق أهدافه إلا بمساعدة
الأحياء فهم من يترجمون رغباته ويحققون أحلامه إن كان للميت من أحلام منعه فيض
الروح من تحقيقها. وقد يساهم منام ما في إنشاء غرض أدبيّ ما كان له أن يوجد بالصورة
التي هو عليها الآن لولا منام عابر في ليل الأحياء. تروي لنا كتب التاريخ الأدبي
حكاية الشاعر البوصيريّ (1212-1296)الذي اشتهر بمدائحه النبوية ولا
سيما مطولته "البُرْدة" (160 بيتاً) التي قام أكثر من شاعر بمعارضتها والنسج على
منوال بردتها ووزنها وقافيتها، ولم يكن آخرهم أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته
"نهج البردة" التي مطلعها:
رِيْمٌ على
القاع بين البانِ والعَلَمِ أحلَّ سفكَ دمي في الأشهر
الحُرُمِ
ورد في سيرة حياة البوصيريّ انه كان مقعدا، فرأى
الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام وهو يحثّه على الوقوف على رجليه والسير بشكل
طبيعيّ. قام البوصيري من نومه ووقف على رجليه وكأنه لم يكن فيما مضى مقعداً لا
تطاوعه قدماه. عبّر عن شكره وفرحته بإنشاء مدحته النبوية التي صارت غرضاً شعرياً
بامتياز، ومطلعها للتذكير ليس أكثر:
أَمِنْ تذكّر
جيران بذي سَلَمِ مزجت دمعاً جرى من مقلةٍ بدم؟
هل كان لهذا الغرض الشعري أن يرى النور على هيئته
تلك لو لم يغمض البوصيريّ عينيه ذات ليل على منام أعاد إليه عافية
قدميه؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق