أنثى القمر
الخلود رغبة إنسانيّة عصيّة الإنجاز. ولكنّ الخلود كان
في متناول يد سيّدنا آدم لو لم توسوس له نفسه بالاقتراب من تلك الشجرة التي نهاه
الله سبحانه وتعالى عن تذوّق ثمرها المحرّم. ولكنّ الإنسان، من يوم سيّدنا آدم،
مجبولة طينته فيما يبدو على الولوع بالممنوع، فالمنع يولّد رغبة لا تقاوم في خرق
الممنوعات، ومن هنا نبتت في نفس سيّدنا آدم تلك الرغبة في الاقتراب من الشجرة
المحرّمة، وقطف حبّة التفّاح الشهيّة، كان سعي آدم إلى الخلود هو وراء حرمانه من
الخلود. ومن الدالّ أنْ يكون اسم الشجرة الفردوسيّة، بحسب ما ورد في القرآن الكريم،
"شجرة الخلد" ( يَا آدَمُ
هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى
شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ
لا يَبْلَى
) [سورة طه :
120] إنّ الشجرة
تحمل من خلال تسميتها القرآنيّة وصيغتها الاستفهاميّة الإغوائية كما نرى، وظيفتين
فتنتا آدم وأغرتاه بارتكاب المعصية الأولى، هما: الخلود والملك الدائم، فالخلود
بلا ملك لا يبلى خلود لا يغري حاسّة المذاق.
لا تخلو حضارة، فيما أظنّ، من حكايات مشابهة حول الرغبة
الآدميّة المستعرة في الخلود. ويأس الإنسان من الخلود لا يمنعه من البحث العبثيّ والحثيث
عنه، فاليأس ليس من صلب الفطرة الإنسانيّة. هل الأهرامات غير صورة كنائيّة حجريّة
شامخة ومعبّرة عن تلك الرغبة المسعورة؟ فالأهرامات ليست أكثر من أضرحة مؤقّتة في
نظر الفراعنة المحنّطين بانتظار العودة إلى الحياة الأبديّة. والتحنيط رغبة غير مكنونة
عن السعي إلى إبقاء الجسد بمنأى عن عالم الفساد والاضمحلال، ولا يزال التحنيط
يداعب كثيراً من الأجساد. وكنت قد قرأت حكايات واقعية عن أناس مرضى يختارون الموت
قبل أن يفتك بهم المرض ويطلبون الاحتفاظ بأجسادهم لقاء مبالغ ماليّة طائلة على أمل
أن تتحسّن، ذات يوم، القدرات الطبيّة وتصحّح الخلل الذي طرأ على أجسادهم لتستعيد
حياتُهم المعلّقة على مشجب الأمل سيرتَها الأولى.
وفي الحضارة الصينيّة حكاية من الفلسفة الطاويّة طريفة،
لا تزال عالقة بأذهان كثير من الناس خاصّة أنها ارتبطت بعيد الحصاد، عن امرأة تسكن
في القمر بعد أن هربت من الأرض، ولقد قامت الآلهة بمساعدتها على الوصول إلى القمر
واتّخاذه مسكناً لها، والضوء التي نراه حين اكتمال بدر الدجى ليس أكثر من وجه تلك
المرأة النورانيّة التي تطلّ من علوّها البهيّ إلى الأرض كلّما راودها الحنين إلى
مسقط رأسها ولتطمئنّ إلى أحوال الصينيين!
ولكن كيف وصلت المرأة إلى القمر؟ وما السبب الذي دفعها
إلى السكن في ذلك المكان الفضّي النائي؟ تقول الحكاية إنّ ملكاً من ملوك الصين
القدامى ضرب به جنون العظمة حدّاً لا يطاق، وكان طاغية جبّاراً لا يرأف ولا يرحم،
يظنّ أنّ الله خلقه وكسر القالب كما يقال، وأراد أن يخلّد وجوده وملكه الذي لا
يبلى ويستمرّ على قيد الحياة، فأرسل مجموعة من خاصّة بلاطه وبثّهم في أرجاء البلاد
ليبحثوا له عن إكسير الخلود ويؤتونه به. وبعد فترة من الزمن عاد أحد المبعوثين وهو
يحمل في جعبته ذلك الإكسير السحريّ الذي يحمي الملك من الموت المحتوم. وأخيراً سوف
تتحقّق رغبة الملك، وسيهزأ بالموت العاجز عن خطف روحه من بين جنبيه. وهنا اغتاظ
كلّ الناس حين علموا بخبر حصول الملك على إكسير الخلود، خبر كالكارثة الماحقة. ما
هذه " البلوى المصبّرة" التي حلّت عليهم؟ كان موت الملك حلم الشعب
الذهبيّ، فالموت، أحياناً، رحمة ونعمة. وراحوا يندبون حظّهم السرمديّ مع الشقاء،
حتّى الملكة انصعقت من الخبر. فهي كانت بخلاف زوجها، ملكة محبّة لشعبها وتدرك مدى
العذاب الذي يعانيه الناس من وراء هلاوس زوجها المفتون بذاته المضعضعة. فالظلم قد
يحتمل لعهد، لفترة من الزمن أمّا أن يتحوّل إلى ظلم مقيم فهو أمرٌ أمرّ من الجحيم،
ولا يحتمله آدميّ مهما أوتي من الصبر والطاقة على التحمّل.
قرّر الملك أن يشرب إكسير الخلود في اليوم التالي، أراد
تحويل لحظة تحوّله من ملك يعيش في كنف الفناء إلى قائد خالد لا يتعتع عمره الزمان
منعطفاً في تاريخ المملكة. وأخيراً صار حلم الملك في متناول الفم، انتهزت زوجته
الفرصة وقرّرت التخلّص من هذا الشراب الخبيث لتريح الناس من هذا الخلود القاتل،
فتسلّلت إلى غرفته ليلاً لتختلس هذا الإكسير البغيض، وتخلّص الشعب من شرّ الشراب.
ولكن الملك كان قد نقزه قلبه وشعر أنّه ارتكب هفوة باهظة الأثمان بالابتعاد عن هذا
الإكسير، فعاد لإحضاره ووضعه في مكان سرّي آمن، فباغت امرأته وفي يدها تلك
القارورة، فوثب إليها كالثور الهائج إلاّ أنّها كانت حاضرة البديهة فأسرعت في
التخلّص من القارورة بكرع كلّ فيها، فجنّ جنون الملك من زوجته التي قضت على آماله،
فانقضّ عليها كالوحش الكاسر بكلّ ما أوتي من غضب، ومدّ يديه لخنقها، ولكن كان
الإكسير قد بدأ يفعل فعله في الملكة، وبدأ جسدها في تلك اللحظة بالتحوّل إلى ما
يشبه الأثير، وحلّق جسدها الهلاميّ المنفلت من يدي الملك صوب سقف القصر وانسلّ من
مسامات السقف إلى الفضاء أمام ذهول عينَي الملك، وكانت الآلهة قد سارعت إلى تسهيل
وصولها الى القمر.
ولقد انتشر خبر الإكسير كالنار في الهشيم، وعرف الناس
بحكاية الملكة التي أنقذتهم من خلود الملك، ففرحوا بهذه النهاية السعيدة فرحاً
عظيماً، وراحوا يرفعون صلاة الشكر إلى الملكة التي توارت عن الأنظار، بعد أن
تيّقنوا أنّ الملك الجائر لن يبقى طول الدهر متسلّطاً بساديّته الرعناء على
مصائرهم وأنفاسهم.
وما أكثر حكايات القمر!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق