كتاب مايك كرانغ "الجغرافيا الثقافية، أهمية الجغرافيا في تفسير الظواهر الإنسانية"، الذي نقله إلى العربية الدكتور سعيد منتاق وصدر ضمن سلسلة "عالم المعرفة" في الكويت، شديد الغنى والثراء. فهو أشبه بدليل حيويّ وجذّاب يدمج الجغرافيا بالفكر والثقافة، يجرّد الجغرافيا من معناها العام المبتذل، الجافّ، أي من كونها أمكنة خالية من الأرواح، ويدرجها في صلب الحياة اليوميّة، العاديّة، البسيطة والفاتنة في آن.
يكتشف القارىء، وهو يتقدّم في قراءة الكتاب، أهميّة أن ينظر إلى العالم نظرة غير مألوفة، فيرى الفضاءات والمنازل والحدائق والمتاجر ومباني الأرياف أماكن مسكونة بدلالات ثريّة وناطقة لأنها تنطوي على خصائص إخباريّة.
يرينا "مايك كرانغ" كيف أنّ كلّ ما يدبّ حولنا هو مسألة ثقافيّة، بحكم أن الثقافة ليس مجرّد فكرة هلاميّة، وإنما هي تحتاج إلى مكان تنزل فيه وتؤثر وتتأثر وأحيانا تتحكّم به. نادرة جدا الأماكن الخالية من المعنى، أيْ التي تشبه ورقة بيضاء أو لوحة عذراء.
ينظر المؤلف إلى الجغرافيا على أنها نصّ دسم، متعدّد الفصول، قابل للتأويل والقراءة كأي نصّ مكتوب. ولعلّ نظرته الخصبة هذه هي وليدة معرفة بدراسات حديثة في السيميولوجيا أي علم العلامات، العلم الذي يأبى إخراس الدلالات في الأشياء أو محو المعنى عنها. أيْ عدم اعتبار الأمور تسير بلا دلالات، فكلّ الأشياء كالسلحفاة من حيث إنها تحمل دلالاتها على ظهرها وفي مسالكها.
وثمّة في الكتاب معلومات كثيرة، لم يكن لينتبه لها ربما رجالات الجغرافيا أنفسهم. وهو هنا ينتقد عددا كبيرا منهم، ولا سيّما أولئك الذين لا يبنون جسورا وقناطر بين العلوم. لأنّ كلّ فصل بين أيّ علم والجغرافيا هو خسارة أو نقص ما في صلب الدراسة نفسها. فيطلب من الجغرافيّ أن لا يغضّ النظر عن الأدب ولا سيّما الروائي، وان لا ينظر إلى الجغرافيا كتجليّات مكانيّة وفضائيّة بكماء، بل أن يستعين بالروائيّ. فالنصوص الروائيّة بأغلبها نصوص مكانيّة أيْ جغرافيّة بامتياز بل يرى أنّ المدن والمنازل والأرياف والمعامل والمتنزهات كلها أماكن روائيّة أو جغرافيّة مجازيّة، ولا ينسى كيف أن المجاز كثيرا ما ينقذ الحقيقة.وكلامه ليس تنظيرا، أو حربا بالنظارات بل هو يعتمد على عينات وشرائح واقعية كثيرة ليثبت قوله. فأفكاره مبنيّة على معرفة شموليّة متعدّدة الأوجه تضمّ في باقة واحدة علم النفس وعلم الاجتماع وأدب الرحلات والأدب المحْض والفنّ الإعلانيّ المصوّر والمكتوب. ويشير إلى أهميّة الرواية ليس في تصوير الأماكن وعلاقة الناس الحميمة أو المتوتّرة معها بل يشير إلى احتمال أن تنقذ الرواية أماكن مهددة بالانقراض فيذكر بما حدث لإحدى روايات شتاينبك "شقّة تورتييا" حيث وصف بشكل تفصيلي أماكن كانت قد فارقت الحياة بعوامل التدمير وتحديث الأمكنة، فأصدرت الغرفة التجاريّة للمدينة بيانا تقول فيه ان المكان الذي وصفة شتاينبك مكان خياليّ، ولكن فيما بعد أذعنت الغرفة التجارية لكلام شتاينبك وأعادت شكل المكان كما صوّره الروائيّ ليس حبّا بالمكان القديم ولكن كاستثمار سياحيّ إذ كان كثير من القراء يحلمون برؤية الأماكن التي تصوّروها بأذهانهم بفضل قلم شتاينبك. كما يلفت نظر نقّاد الأدب أيضا إلى عدم إسقاط النظرة الجغرافية الثقافية في دراستهم للروايات لما تمثله هذه النظرة من إثراء لعملية الإمساك بمتْن المعنى، ومن مقدرة في تبيان أثر الأمكنة والفضاءات في صقْل الشخصيّات وبلورتها. وهو من خلال تطبيقات وقراءات يكشف عن أمور ما كانت ربّما لتخطر ببال لولا هذا الاقتران الخصب بين أكثر من علم أيْ سبْك وجهات نظر متعدّدة في وجهة نظر جغرافيّة مفتوحة.وهنا يتناول جملة من الأمور والتفاصيل حول تفاعل الأمكنة مع البشر ورغباتهم ويدرس صورا سياحية ترويجية وكيف أن هذه الصور تقوم بدور المراقب الحذق الذي يردع من تسوّل له نفسه إزالة أصولها حتى لا تتعارض الجغرافيا مع الصور.كما يتناول أيضا بالدرس الصور السياحية لبلدان مختلفة، ويكشف عن المخبوء الإيديولوجي فيها، أو النظرة إليها، فالشرق مثلا لا يزال إلى اليوم واقعا تحت تأثيرات سحرية معينة، هي وليدة نصوص الاستشراق ورسوماتهم وتقوم المؤسسات السياحيّة بالضرب على هذا الوتر لتحفيز السائح والرغبة معا. إن المكان أياً كان شكله هو مكان مثخن بالدلالات بحسب تعبيره. فالمنزل على بساطته وألفته لا يفتقد المعنى على الإطلاق: فتوزيع غرفه يظهر العلاقات الاجتماعية التي يحتضنها هذا المكان أو الانتماءات العقائدية بل انه بالإمكان دراسة الجغرافيّات الأخلاقية أيضا عبر الزمن من خلال التغيّرات التي تطرأ على التقسيمات الداخليّة للبيت.
ويشير المؤلف إلى الفنّ السينمائيّ وعلاقته بالأماكن وتسويقها أيضا والدلالات والمواقف التي يدرجها المخرج في ثنايا المشهد، والتوزيع الضوئي ودوره في تأويل المشهد.ويتوقف عند مجموعة من الأفلام التوثيقية والخيالية منها فيلم "برلين: سيمفونية مدينة" لوولتر روتمان وكيف أن المخرج يصور المدينة بأسلوب يكشف عن موقف إيديولوجي من خلال حركة الكاميرا وانتقاء المشاهد وزوايا التصوير.ومن الأماكن التي يدرسها الكاتب تحت عنوان" كتابة القوة على الأرض" القصر الصيفي الصيني العتيق لتشاندي ، وكيف أنّ الجغرافيا تنبسط كرموز فإزاء الجبال التي تحيط بموقع القصر وهي جبال تحمل دلالات ذكورية ثمة بحيرات وحدائق تشكل توازنا أنثويّاً للمشهد العام. ولكن وجود ثماني بحيرات وتسع جزر اصطناعية أمام القصر إنّما هي محاولة أيضا لإعادة تشكيل المشهد وفقا للمعتقد البوذيّ الذي يرى أن العالم يتكوّن من تسعة جبال وثمانية بحار.كما يدرس الحدائق وهي أفضية جغرافية إلا أنها معبأة بالمعتقدات والرموز. ويقول الكاتب ان اعتبار المشاهد مجرد معالم مادية يعدّ نظرة جائرة ومشوّهة للأمكنة والفضاءات.لان الأماكن عبارة عن ساحات تتصارع فوقها الدلالات، ومعانيها مرنة متغيرة تتبدل بتبدل العهود والمواقف الإيديولوجية.
كما يدرس الأبراج أو ناطحات السحاب من حيث هي رموز في الولايات المتحدة عن تراكم الثروات الذي يتخذ من العلو مكانا دالاّ عليه، ويشير إلى تناقضات الرموز، الرمز الفارغ والرمز الملآن أي الرمز الفعلي والآخر الذي يحاكي الرمز دون أن يكون مرّ بالتجارب نفسها، أي انه ليس أكثر من رمز أجوف أو مزيّف. والزيف يستغلّ جغرافيّاً لأغراض سياحية وغيرها، ويمدّنا الكاتب بأمثال متعددة عن هذا الزيف الذي يضرب على وتر الأوهام عند الناس منها خلق فضاءات وهميّة كعالم "ديزني لاند".
ويتوقّف الكاتب عند قراءة المتاجر الكبرى ويدرس وظائفها الاجتماعيّة، فهي تلعب الدور الذي كانت تلعبه قديما ساحة البلدة. " فالمتجر ليس فقط المكان المفضل للتسوق وإنما هي كذلك أماكن مألوفة شعبية بالنسبة إلى المراهقين ومناطق للمواعيد بالنسبة إلى العزاب في بحثهم عن الفريسة. أصبحت المراكز التجارية مدن خيالنا الجامح." إنها مراكز جديدة للطقوس والمعنى بدلا من الكنيسة أو العائلة.ويدرسها من باب كونها أيقونات حديثة ومن باب جغرافية الاستهلاك ولكن أيضا من حيث هي أشبه بصندوق الفرجة، المكان الذي يطلق عنان النظر، فيقوم بإشباع رغبات من لا يمتلك القدرة على شراء الرفاهية فتكون وظيفتها تخديرية لنقمات من لا يملك. وهذا ما دفع بالعالم السوسيولوجي بيار بورديو إلى اعتبار الذهاب إلى المتاجر أشبه " بأماكن الحج إلى البضاعة الصنم". ودرس المعارض التجارية التي تتحول إلى جغرافيات مصغرة أو قرية كونية تختصر في مكان واحد حضارات وشعوبا مختلفة. وكيف تتحول الغرابة إلى سلعة، فضلا عن كونها متعة. ومن هنا يدلف إلى ما يسميه جغرافيات الاستهلاك وثقافة الاستهلاك. فنحن نستهلك الأشياء ولكن نستهلك معها الجغرافيا لأنّ مصادر الاستهلاك كما هو معروف تنتمي إلى أماكن جغرافية متعدّدة. ويلفت النظر إلى المحلات التي تستعير شكلها من حضارات أخرى، زيادة في التأثير، بل أن المزيّف يبدو أحيانا وكأنّه حقيقيّ أكثر من الأصليّ.
كما يدرس الطعام من حيث هو حيّز جغرافي ويدرس وصف الطعام في الصحف فيرى النظرة الثقافية إلى بعض أصناف الطعام، وكيف أن الأكل الأجنبي يتحوّل إلى بديل رمزيّ للمكان الذي تأتي منه هذه الأكلات فيقول: " إذا لم تستطع الذهاب إلى الأماكن الفاتنة التي كنت تقرأ عنها فيمكنك، على الأقل، أن تضع قليلا من الجوّ في منزلك الخاصّ. مع وصفات لم تحلم بها قطّ، مستعملا مقوّمات نادرة اقتلعت مباشرة من المناطق الاستوائية". ولا ريب أن سبر هذا الكلام يشي بالإغواءات الجغرافية، مع ما تضمره كلمة "استوائية" في أذهان الغربيين من إيحاءات غرائبية فاتنة، فالكاتب يرى أن العالم اليوم يكاد يصبح عصيرا من الثقافات يشتمل على ضروب الفاكهة.
إنّ كتاب "مايك كرانغ" يحوّل الجغرافيا بكل بساطة إلى نصّ جميل تندسّ في تضاعيفه دلالات تجعل المكان في نظر الرائي أكثر من مجرّد مكان أعزل، وتفتح له آفاقا تسهم في فهم أعمق لمعنى "الهويّة الثقافية" المرنة والمفتوحة على التحوّلات على غرار الجغرافيا.
يكتشف القارىء، وهو يتقدّم في قراءة الكتاب، أهميّة أن ينظر إلى العالم نظرة غير مألوفة، فيرى الفضاءات والمنازل والحدائق والمتاجر ومباني الأرياف أماكن مسكونة بدلالات ثريّة وناطقة لأنها تنطوي على خصائص إخباريّة.
يرينا "مايك كرانغ" كيف أنّ كلّ ما يدبّ حولنا هو مسألة ثقافيّة، بحكم أن الثقافة ليس مجرّد فكرة هلاميّة، وإنما هي تحتاج إلى مكان تنزل فيه وتؤثر وتتأثر وأحيانا تتحكّم به. نادرة جدا الأماكن الخالية من المعنى، أيْ التي تشبه ورقة بيضاء أو لوحة عذراء.
ينظر المؤلف إلى الجغرافيا على أنها نصّ دسم، متعدّد الفصول، قابل للتأويل والقراءة كأي نصّ مكتوب. ولعلّ نظرته الخصبة هذه هي وليدة معرفة بدراسات حديثة في السيميولوجيا أي علم العلامات، العلم الذي يأبى إخراس الدلالات في الأشياء أو محو المعنى عنها. أيْ عدم اعتبار الأمور تسير بلا دلالات، فكلّ الأشياء كالسلحفاة من حيث إنها تحمل دلالاتها على ظهرها وفي مسالكها.
وثمّة في الكتاب معلومات كثيرة، لم يكن لينتبه لها ربما رجالات الجغرافيا أنفسهم. وهو هنا ينتقد عددا كبيرا منهم، ولا سيّما أولئك الذين لا يبنون جسورا وقناطر بين العلوم. لأنّ كلّ فصل بين أيّ علم والجغرافيا هو خسارة أو نقص ما في صلب الدراسة نفسها. فيطلب من الجغرافيّ أن لا يغضّ النظر عن الأدب ولا سيّما الروائي، وان لا ينظر إلى الجغرافيا كتجليّات مكانيّة وفضائيّة بكماء، بل أن يستعين بالروائيّ. فالنصوص الروائيّة بأغلبها نصوص مكانيّة أيْ جغرافيّة بامتياز بل يرى أنّ المدن والمنازل والأرياف والمعامل والمتنزهات كلها أماكن روائيّة أو جغرافيّة مجازيّة، ولا ينسى كيف أن المجاز كثيرا ما ينقذ الحقيقة.وكلامه ليس تنظيرا، أو حربا بالنظارات بل هو يعتمد على عينات وشرائح واقعية كثيرة ليثبت قوله. فأفكاره مبنيّة على معرفة شموليّة متعدّدة الأوجه تضمّ في باقة واحدة علم النفس وعلم الاجتماع وأدب الرحلات والأدب المحْض والفنّ الإعلانيّ المصوّر والمكتوب. ويشير إلى أهميّة الرواية ليس في تصوير الأماكن وعلاقة الناس الحميمة أو المتوتّرة معها بل يشير إلى احتمال أن تنقذ الرواية أماكن مهددة بالانقراض فيذكر بما حدث لإحدى روايات شتاينبك "شقّة تورتييا" حيث وصف بشكل تفصيلي أماكن كانت قد فارقت الحياة بعوامل التدمير وتحديث الأمكنة، فأصدرت الغرفة التجاريّة للمدينة بيانا تقول فيه ان المكان الذي وصفة شتاينبك مكان خياليّ، ولكن فيما بعد أذعنت الغرفة التجارية لكلام شتاينبك وأعادت شكل المكان كما صوّره الروائيّ ليس حبّا بالمكان القديم ولكن كاستثمار سياحيّ إذ كان كثير من القراء يحلمون برؤية الأماكن التي تصوّروها بأذهانهم بفضل قلم شتاينبك. كما يلفت نظر نقّاد الأدب أيضا إلى عدم إسقاط النظرة الجغرافية الثقافية في دراستهم للروايات لما تمثله هذه النظرة من إثراء لعملية الإمساك بمتْن المعنى، ومن مقدرة في تبيان أثر الأمكنة والفضاءات في صقْل الشخصيّات وبلورتها. وهو من خلال تطبيقات وقراءات يكشف عن أمور ما كانت ربّما لتخطر ببال لولا هذا الاقتران الخصب بين أكثر من علم أيْ سبْك وجهات نظر متعدّدة في وجهة نظر جغرافيّة مفتوحة.وهنا يتناول جملة من الأمور والتفاصيل حول تفاعل الأمكنة مع البشر ورغباتهم ويدرس صورا سياحية ترويجية وكيف أن هذه الصور تقوم بدور المراقب الحذق الذي يردع من تسوّل له نفسه إزالة أصولها حتى لا تتعارض الجغرافيا مع الصور.كما يتناول أيضا بالدرس الصور السياحية لبلدان مختلفة، ويكشف عن المخبوء الإيديولوجي فيها، أو النظرة إليها، فالشرق مثلا لا يزال إلى اليوم واقعا تحت تأثيرات سحرية معينة، هي وليدة نصوص الاستشراق ورسوماتهم وتقوم المؤسسات السياحيّة بالضرب على هذا الوتر لتحفيز السائح والرغبة معا. إن المكان أياً كان شكله هو مكان مثخن بالدلالات بحسب تعبيره. فالمنزل على بساطته وألفته لا يفتقد المعنى على الإطلاق: فتوزيع غرفه يظهر العلاقات الاجتماعية التي يحتضنها هذا المكان أو الانتماءات العقائدية بل انه بالإمكان دراسة الجغرافيّات الأخلاقية أيضا عبر الزمن من خلال التغيّرات التي تطرأ على التقسيمات الداخليّة للبيت.
ويشير المؤلف إلى الفنّ السينمائيّ وعلاقته بالأماكن وتسويقها أيضا والدلالات والمواقف التي يدرجها المخرج في ثنايا المشهد، والتوزيع الضوئي ودوره في تأويل المشهد.ويتوقف عند مجموعة من الأفلام التوثيقية والخيالية منها فيلم "برلين: سيمفونية مدينة" لوولتر روتمان وكيف أن المخرج يصور المدينة بأسلوب يكشف عن موقف إيديولوجي من خلال حركة الكاميرا وانتقاء المشاهد وزوايا التصوير.ومن الأماكن التي يدرسها الكاتب تحت عنوان" كتابة القوة على الأرض" القصر الصيفي الصيني العتيق لتشاندي ، وكيف أنّ الجغرافيا تنبسط كرموز فإزاء الجبال التي تحيط بموقع القصر وهي جبال تحمل دلالات ذكورية ثمة بحيرات وحدائق تشكل توازنا أنثويّاً للمشهد العام. ولكن وجود ثماني بحيرات وتسع جزر اصطناعية أمام القصر إنّما هي محاولة أيضا لإعادة تشكيل المشهد وفقا للمعتقد البوذيّ الذي يرى أن العالم يتكوّن من تسعة جبال وثمانية بحار.كما يدرس الحدائق وهي أفضية جغرافية إلا أنها معبأة بالمعتقدات والرموز. ويقول الكاتب ان اعتبار المشاهد مجرد معالم مادية يعدّ نظرة جائرة ومشوّهة للأمكنة والفضاءات.لان الأماكن عبارة عن ساحات تتصارع فوقها الدلالات، ومعانيها مرنة متغيرة تتبدل بتبدل العهود والمواقف الإيديولوجية.
كما يدرس الأبراج أو ناطحات السحاب من حيث هي رموز في الولايات المتحدة عن تراكم الثروات الذي يتخذ من العلو مكانا دالاّ عليه، ويشير إلى تناقضات الرموز، الرمز الفارغ والرمز الملآن أي الرمز الفعلي والآخر الذي يحاكي الرمز دون أن يكون مرّ بالتجارب نفسها، أي انه ليس أكثر من رمز أجوف أو مزيّف. والزيف يستغلّ جغرافيّاً لأغراض سياحية وغيرها، ويمدّنا الكاتب بأمثال متعددة عن هذا الزيف الذي يضرب على وتر الأوهام عند الناس منها خلق فضاءات وهميّة كعالم "ديزني لاند".
ويتوقّف الكاتب عند قراءة المتاجر الكبرى ويدرس وظائفها الاجتماعيّة، فهي تلعب الدور الذي كانت تلعبه قديما ساحة البلدة. " فالمتجر ليس فقط المكان المفضل للتسوق وإنما هي كذلك أماكن مألوفة شعبية بالنسبة إلى المراهقين ومناطق للمواعيد بالنسبة إلى العزاب في بحثهم عن الفريسة. أصبحت المراكز التجارية مدن خيالنا الجامح." إنها مراكز جديدة للطقوس والمعنى بدلا من الكنيسة أو العائلة.ويدرسها من باب كونها أيقونات حديثة ومن باب جغرافية الاستهلاك ولكن أيضا من حيث هي أشبه بصندوق الفرجة، المكان الذي يطلق عنان النظر، فيقوم بإشباع رغبات من لا يمتلك القدرة على شراء الرفاهية فتكون وظيفتها تخديرية لنقمات من لا يملك. وهذا ما دفع بالعالم السوسيولوجي بيار بورديو إلى اعتبار الذهاب إلى المتاجر أشبه " بأماكن الحج إلى البضاعة الصنم". ودرس المعارض التجارية التي تتحول إلى جغرافيات مصغرة أو قرية كونية تختصر في مكان واحد حضارات وشعوبا مختلفة. وكيف تتحول الغرابة إلى سلعة، فضلا عن كونها متعة. ومن هنا يدلف إلى ما يسميه جغرافيات الاستهلاك وثقافة الاستهلاك. فنحن نستهلك الأشياء ولكن نستهلك معها الجغرافيا لأنّ مصادر الاستهلاك كما هو معروف تنتمي إلى أماكن جغرافية متعدّدة. ويلفت النظر إلى المحلات التي تستعير شكلها من حضارات أخرى، زيادة في التأثير، بل أن المزيّف يبدو أحيانا وكأنّه حقيقيّ أكثر من الأصليّ.
كما يدرس الطعام من حيث هو حيّز جغرافي ويدرس وصف الطعام في الصحف فيرى النظرة الثقافية إلى بعض أصناف الطعام، وكيف أن الأكل الأجنبي يتحوّل إلى بديل رمزيّ للمكان الذي تأتي منه هذه الأكلات فيقول: " إذا لم تستطع الذهاب إلى الأماكن الفاتنة التي كنت تقرأ عنها فيمكنك، على الأقل، أن تضع قليلا من الجوّ في منزلك الخاصّ. مع وصفات لم تحلم بها قطّ، مستعملا مقوّمات نادرة اقتلعت مباشرة من المناطق الاستوائية". ولا ريب أن سبر هذا الكلام يشي بالإغواءات الجغرافية، مع ما تضمره كلمة "استوائية" في أذهان الغربيين من إيحاءات غرائبية فاتنة، فالكاتب يرى أن العالم اليوم يكاد يصبح عصيرا من الثقافات يشتمل على ضروب الفاكهة.
إنّ كتاب "مايك كرانغ" يحوّل الجغرافيا بكل بساطة إلى نصّ جميل تندسّ في تضاعيفه دلالات تجعل المكان في نظر الرائي أكثر من مجرّد مكان أعزل، وتفتح له آفاقا تسهم في فهم أعمق لمعنى "الهويّة الثقافية" المرنة والمفتوحة على التحوّلات على غرار الجغرافيا.