الخميس، 14 يونيو 2018

عشْ بسيطاً تعش مبسوطاً


كتبها بلال عبد الهادي
يفصح عنوان كتاب المؤلفة الفرنسيّة "دومينيك لورو" " فنّ البساطة" الصادر حديثاً عن دار" روبير لافون"، في باريس، عن مكنونه. كتبته المؤلفة بأسلوب بسيط، وسلس، وجذّاب، وهو يتناول مختلف وجوه الحياة اليوميّة: اللبس، الأكل، السكن، السفر، العمل، التسلية. لم تترك الكاتبة تفصيلاً من تفاصيل الحياة إلا وسلّطت عليه الأضواء، لأن أيّ شيء، مهما كان ضئيلاً، قادرٌ أن يكون قذى أو ذرّة غبرة تعقّد أيّامك.
علاقة الإنسان مع الأشياء مهما كانت غير ذات قيمة، للوهلة الأولى، هي عند إمعان النظر على قدر كبير من الأهميّة، لأنّ هذه الفتافيت قد تكون، من غير أن تدري، وراء شعورك بأنّك لست على بعضك، وتعديل طفيف أحياناً، وطفيف جدّاً في أماكن الأشياء قد يغيّر من نفسيّتك. إنّ زهرة منفردة ووحيدة في مزهريّة موضوعة في مدخل البيت، تستقبلك بمنظرها وعطرها قد تزيل عنك لا شعوريّاً إرهاق عمل النهار.
قد يشعر المرء، وهو يتصفّح العنوان، إنّ الكتاب يتناول المواضيع اليوميّة باستخفاف لكنّ المتعمّق في تركيب العنوان يدرك تماماً أنّ إدخال عنصر الفنّ يعني حكماً أنّ الإنسان لا يصل ببساطة إلى البساطة، فهي تحتاج إلى مران، وإلى قراءة متأنيّة وثاقبة لكلّ فلذة من فلذات السلوك. وقد يظنّ القارىء وهو يقلّب صفحات الكتاب أن مكوّناته ومكنوناته قد تزيد حياته تعقيداً على تعقيد! ولكن مع الوقت، وحين يلمس استراتيجية الكاتبة يدرك أن في طوايا الصفحات نظرات عميقة قادرة على إضفاء مسحة من الفرح والراحة، ومنح الشعور بأنّ الإنسان يمكن له أن يعيش بامتلاء إلى آخر لحظة من العمر.
لم تتوصّل الكاتبة إلى وضع كتابها إلا بعد تجربة غنيّة ومتنوّعة، وتقلّب في عدد من البلدان، فالكاتبة فرنسيّة عاشت شطراً من عمرها في بريطانيا وآخر في أميركا قبل أن يستقرّ بها الترحال في اليابان. وهناك، في جزر الشمس المشرقة تفتّحت أفكار الكتاب بتأثير من "فلسفة الزنّ" التي تغذّيها روح البساطة والتناغم والانسجام بين مكوّنات النفس وعناصر الطبيعة.
تشير "دومينيك لورو" في مفتتح كتابها إلى أنّ وسائل الإعلام تنتهك فكرة البساطة نفسها حين تستدرج الإنسان إلى الاقتناع بأنّ الانتماء إلى العصر يعني التنعّم بالاستهلاك، والركض خلف آخر صرعات الموضة والعصر. ولا تنكر مهارة الإعلان في الإيهام وتحسين القبيح، واللعب بحواسّ الإنسان وخيالاته. ولكن كم شخص انتابتْ روحه عذابات كثيرة لأنّه يلهث خلف فكرة الاستهلاك التي تنتهك سعادته وهو لا يدري؟ من هنا تعترف الكاتبة أن ممارسة البساطة ليس بالأمر السهل، لأنّها تحتاج إلى نوع من التمرّد والمقاومة والنحت المستمرّ والحصيف للذات.
الكاتبة تروي لنا ما يعانيه الإنسان الغربي من ضيق وتبرّم رغم كلّ التسهيلات التكنولوجية والرقمية، والسبب في ذلك هو انه يبحث عن السعادة في الأمكنة الخطأ، ويذهب إليها عبر الدروب الضالّة، والمعايير البرّاقة لكن الخاوية. فهو يظنّ أنّ الامتلاك معيار السعادة فيشتري ويكدّس الممتلكات التي تغزل كثرتُها شرنقةً خانقة حوله وهو لا يراها.
البساطة تقول الكاتبة أن تحرّر ذهنك من الأفكار المسبقة والأفكار السوداء، وتحرّر بيتك من الحشو، وجسدك من كلّ لباس يظلم جسدك. فكم من جسد يتشاجر مع لباسه، ويترك هذا الشجار توتّرات خفيّة في النفس. وتقول الكاتبة إنّ البساطة كأي نصّ مكتوب يحتاج إلى حذف وتقديم وتأخير وتعديل وتنقيح. إنّ البساطة لا تعني رمي هموم الدنيا وراء ظهرك، وإنّما مواجهتها باستراتيجية فاعلة وسيّالة كالماء. ليس من السهل تغيير العادات، وتشير المؤلفة إلى مقولة يبدو أنها متداولة في أكثر من حضارة وهي أن تغيير العادة تقليل للسعادة. ولكن - تتساءل المؤلّفة- أيّ خسران يجنيه الإنسان في الإصرار على التقيّد بحرفيّة العادات ومسارها؟ أليس "التقيّد" بالعادات، أيّاً كانت، هي (وضع قيود) وإصرار مضمر على تجميد العين على مشهد واحد، وعليه خسارة لمشاهد مستجدّة؟ وتقول الكاتبة ان الفترة الزمنية المطلوبة لتغيير عادة مستحكمة أو اكتساب عادة جديدة لا تزيد عن الشهر. أليس من المستحبّ تحمل مرارة شهر من أجل اكتساب مذاقات أطيب وأحلى؟ والكاتبة ترصد كلّ شؤون الحياة الإنسانية من روحية وفكرية وجسدية. أي أنها سلطت الضوء على جزئيات بسيطة في الحياة، قد لا يلتفت إليها المرء أو يعيرها أيّ اهتمام بسبب سلطان البداهة القاتلة ولكن الانتباه إليها يجلب الراحة النفسية، تخيّل ما تفعله بأعصابك أمور بسيطة وآليّة ربما، كتقشير تفّاحة بسكين غير مسنونة جيّداً!
تشير الكاتبة إلى ضرورة عدم التعلّق بالأشياء، أن لا نسقط في فخّ الذاكرة ولا في أحابيل الذكريات، وخصوصاً الحزين منها. يقال إنّ الأسى لا يُنسى، بينما الكاتبة تلحّ على ضرورة نسيان الأسى لأنّه يرخي بظلاله السوداء على المتبقّي من العمر، ويعكّر صفو اللحظة التي أنت فيها. وتروي كيف أنّ بعض الناس في لحظة حزن مثلاً يميلون إلى مشاهدة أفلام تؤجّج أحزانهم بدلاً من مشاهدة أفلام تريح أعصابهم، فيقدمون لأرواحهم عن غير وعي منهم طبقاً مسموماً.
تعتبر الكاتبة أنّ على المرء أن يتقن ممارسة أسلوب الإيجاز غير المخلّ، وكما أن الإيجاز مهارة لغويّة فهو أيضاً مهارة حياتية، والإيجاز يتبدّى في عناصر البيت بحجراته وأثاثه وألوان حيطانه وخزائن الثياب. تتكلّم على "البيت السيّال"، المنساب. وكلمة السيولة من المصطلحات الكثيرة التداول في الفكر اليابانيّ، وهي المستلّة من طبيعة الماء، السيّالة، المرنة، المتحرّكة باستمرار. وكثرة الاستعارات المائيّة في التعابير اليابانيّة لا تخلو دلالاتها من صبغة روحيّة.
وللكاتبة ميل نحو اختزال الألوان المستعملة، حيث تشرح انعكاس الألوان على أحاسيس المرء وكيف أنّ اكتظاظها يشعر بالصخب. إن الألوان تجتاحنا في الشوارع، وهي ألوان صاخبة صارخة تعتدي على العين، فتدعو إلى إقامة التوازن عبر تخفيفها في البيت وفي اللباس أيضاً وتشير إلى غلبة اللونين الأبيض والأسود في الرسومات اليابانيّة. اختر اللون الأسود مع الأبيض والرمادي فهي ألوان، بحسب المؤلّفة، تريح النظر لأنها غياب وحضور، في آن، لكل الألوان. وبدلاً من أن يركض الإنسان وراء الموضة عليه أن يسعى لبناء أسلوب ذاتي له. اللباس قصيدة تخنقها الزخرفة اللفظيّة. وتقول الكاتبة لاعبة بالكلام إن استخدام الأبيض والأسود والرمادي يجعل حياة الإنسان ملونة. وتقتبس من كلام مصمّم الأزياء اليابانيّ "يوجي ياماموتو" رأيه بالألوان حيث يقول:" إن إعجابه باللون الأسود والأبيض لا حدّ له، إن الألوان التي تجعل من جسد المرآة شجرة ميلاد تزعج العين وتخطف النظر وتغتال جمال المرأة لأنها لا تسمح للون الشعر والبشرة والعينين والمجوهرات بتبيان دلالاتها". وتشير الكاتبة إلى أن المرأة عليها الالتفات إلى بناء أسلوب في اللباس بدلا من طمر شخصيتها في خليط الألوان، فالألوان الكثيفة تعيق التواصل لأنها تشتت الذهن وتبلبل النظر، فالإنسان يعرف من هندامه كما يعرف من كلامه والألوان الكثيرة أشبه بالثرثرة.إن الكلام الذي لا يقول أفكارك، ونظرتك للحياة، لباس مخادع. وكم من كآبة مصدرها الشرخ العميق بين الشخص ولباسه!
وتخصّص المؤلفة فقرات طوالاً عن مفهوم "الفراغ"، أو فلسفة "الخلاء" وهي من لبّ "الزنّ"، والفكر "التاويّ" كما يتجلّى في كتاب الحكيم الصينيّ "لاو تسو". وللتحكّم بالخلاء في اليابان ثمّة جدران داخليّة متحرّكة، تؤمن للمرء حاجته من الفراغ. فأي قيمة لمنفضة كبيرة الحجم وثقيلة من أجل سيجارة؟ ألا يسرق حجمها من مساحة الطاولة؟ لا تستهين الكاتبة حتى بالملليمترات الضائعة، المثقلة بأشياء تقضم من فضاء البيت. إن الإحساس بفراغ المكان يمنح الساكن شعوراً بأنّه سيّد البيت.وليزيد المرء من إحساسه بالفضاء الرحب في المجال الضيق يلتفت إلى معالجة أمور صغيرة قد لا ينتبه إلى ما تسببه له من توتر، وتعتبر الكاتبة إننا في عصر يسمح لنا باستعمال "المنمنمات التكنولوجية"، كما تشير إلى أن إخفاء أسلاك الهاتف والكمبيوتر والمصابيح عبر تمريرها تحت البُسُط تحررنا من وجودها الضاغط على الأعصاب، وتعتبر الكاتبة أن اليابان يمكن أن تمدنا بعون كبير في استغلال الأمكنة الضيقة والإيحاء برحابتها من خلال خبرتها التراثية.
وتخصّص الكاتبة فصلا لدراسة الوقت، وكيفية التعامل معه. إن الإنسان لا يملك الماضي فهو امتلاك افتراضيّ، والآتي ليس ملكاً لنا. تتساءل: كم عدد الذين يفرّ يومهم من يدهم وهم يسعون إلى الغد أو يسترجعون عبر ذكرياتهم الأيام الآفلة؟ واهتمامها بإدارة الوقت لا يمنعها من النظر إلى فوائد "الكسل" عبر وظيفة الاسترخاء الذي يمكن أن يوظفه المرء في التأمل، وتوليد الأمل، وعشر دقائق من الاسترخاء تعادل، بحسب ما تقول المؤلفة، ستّ ساعات نوم.
وأنت تقرأ كتاب "فنّ البساطة" يتولّد لديك شعور فاتن بأنّ الفرح يمكن أن يكون سنّة الحياة رغم كلّ مغريات الحزن، لأنّ الحزن والكآبة والقنوط، في نظر الكاتبة، دلائل على أنّك لا تحسن التعامل مع خيالك، فالحزن والتعقيد هو بكل بساطة سوء استخدام لملكات العقل ومهارات الخيال، لأن كلّ لحظة من العمر رحم حاضنة لاحتمالات جميلة كثيرة، وبذرة تنطوي على طاقات متعددة عليك أن تحسن زرعها وقطاف ثمراتها.
نشرت في جريدة الشرق الأوسط تجدها على هذا الرابط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق