الثلاثاء، 5 يونيو 2018

الرجل العنكبوت مامودو غاساما Mamoudou Gassama


الرجل العنكبوت

لا أحد يعرف من أين تأتيه الألقاب؟ ولا كيف تأتيه؟ كما لا يمكن لأحد أن يتنبّأ بما تخبئه له الأقدار. منطق الأقدار كمنطق الموت لا يمكن للعقل البشريّ أن يفقه سلوكه أو يرسم له خطّا بيانيا واضح المعالم.
كان أبو القاسم الحريريّ في مقاماته يتناول الأقدار التي تغيّر مصائر الناس ومصير بطل مقاماته أبي زيدِ السروجيّ بالتحديد، ويُدخل ذلك ضمن مصطلح " عجائب الاتفاق" الذي لا يقصد به غير الصدف التي تعترض حياة المرء في لحظة من لحظات العمر فتقلب حياته بشكل لا يتخيّله أو يتوقعه. فقانون الصدفة لا يعلمه إلاّ الله.
ما يغيّر حياتك قد يغيّر بالمعيّة حياة المحيطين بك وهذا ما يدخل في حيّز المتوقّع، ولكن ما لا يدخل ضمن المتوقّع هو أن تتغيّر حياة شخص آخر لا تعرفه ولا يعرفك. فالصدفة أشبه بأوتار آلة موسيقية لا يمكن بالسهولة حصر النغمات التي يمكن أن تخرج منها، أو تشبه أي ألفباء لا يمكن لأيّ امرىء أن يعرف ما يمكن أن يخرج من حروفها المحدودة من كلمات أو دلالات.
منذ عدّة أيام، طفل أنقذ من أنقذه. شاب من مالي اسمه مامادو غاساما وصل الى باريس منذ عدّة شهور بشكل غير قانونيّ هربا من فقر بلاده وبؤس بلاده. وكان مهددا بالطرد في أيّ لحظة. وفجأة وهو يعبر أحد الشوارع وجد طفلا في الرابعة من العمر متعلّقا بشرفة منزله، وهو على وشك السقوط. فقفز الشاب المالي من فوره وقام بتسلّق الشرفات وصولاً إلى الطفل . شاء حظّه أن ترصد عدسة الكاميرا حركاته المشوّقة كحركات البهلوان. كاميرا الهاتف الذكيّ تلقط أحيانا ما تعجز كاميرا مصوّر محترف على القيام به. والسبق الصحفيّ لم يعد حكرا على أهل الصحافة بعد أن صار الخبر والصورة في يد الهواة وغير الهواة على السواء. ومواقع التواصل الاجتماعيّ سمحت لأناس عاديين وبسطاء أن يتحوّلوا في غمضة عين إلى مراسلين سبّاقين أو نجوم غير عاديين.
كثيرون تابعوا على مواقع التواصل الاجتماعي عملية انقاذ الطفل على يد المهاجر غير القانونيّ. ومن مواقع التواصل قفزت عملية الإنقاذ إلى نشرات الأخبار الفرنسيّة والعربيّة والعالميّة. وراحت التعليقات الايجابيّة تتدفّق على المهاجر وتتعاطف معه وصولاً إلى تعاطف ماكرون رئيس فرنسا نفسه الذي دعاه إلى قصره لشكره على عمله الإنسانيّ الفذّ، كما قرّر منح المهاجر غير الشرعيّ الجنسية الفرنسيّة كمكافأة لسلوكه النبيل، وأمّن له فرصة عمل في فوج الإطفاء وهو عمل يتوافق مع قدراته الجسدية الفائقة. نسي المهاجر أمام مشهد الطفل المعرّض للخطر مأساته الشخصية وبؤسه الشخصي وفي خلال ثلاثين ثانية تسلّق عدّة طبقات من المبنى وأزال الخطر الداهم عن الولد، ولكن ، من حيث لا يدري، أزال الخطر عن نفسه، خطر الطرد الذي كان يلاحقه كالكابوس.
ربّما الطرافة ليست هنا، وإنّما في مكان آخر، فالمهاجر المالي لم ينقذ الطفل الفرنسي وحده، ولم ينقذ وضعه غير القانونيّ وحده، وإنّما أنقذ أيضا وبشكل غير مباشر شخصا تونسياً كان مهدّدا بالطرد لأنّه موجود بشكل غير شرعيّ في فرنسا.
القدر يؤمن بالمفعول الرجعيّ فيما يبدو. والإنسان يؤمن بقدرات غير المنظور. وثمّة تعبير كثيرا ما يستعمله المرء ولكن بمعناه السلبيّ وهو " مصاريف غير منظورة"، و" القرش الأبيض" في المثل المأثور ليس أكثر من وسيلة دفاعية ضدّ " المصاريف غير المنظورة" أو " التصاريف غير المنظورة" ، ولكن نادرا ما التفت المرء الى "المداخيل غير المنظورة" التي ترافقه في مراحل كثيرة من عمره.  ومن الممتع أن يقوم المرء بجردة حساب شخصية لمصاريفه غير المنظورة ومداخيله، أيضا، غير المنظورة، ثمّ يوسّع زاوية النظر الى المصادفات غير المنظورة التي غيّرت حياته. ولا تخلو حياة من مصادفات غير منظورة .
كيف أنقذ الشاب المالي المهاجر حياة التونسيّ الذي يقيم في فرنسا بصورة غير شرعية في اللحظة التي أنقذ فيها طفلا فرنسيا من خطر الموت؟
شاءت الأقدار أن تنقذ التونسي بمفعول رجعيّ . لقد أنقذ تونسيّ عائلة فرنسيّة في العام 2015 كانت مهددة بالحريق الذي شبّ في منزلها، ولكن عمله البطوليّ كان بعيداً عن أنظار الكاميرا. والكاميرا ثرثارة ومؤثّرة، لا تترك سترا مغطّى. تمّت عملية انقاذه للعائلة دون أن تعرف مواقع التواصل الاجتماعي بذلك، ودون أن يرى الناس عمله البطوليّ على شاشة اليوتيوب او تويتر أو الفايسبوك ولم تشفع له بطولته في تسوية وضعه. كان الطرد قدره المحتوم، وهو كاد أن يستسلم لقدره لو لم يطلّ عليه ذلك الشاب المالي المجهول من شاشات مواقع التواصل الاجتماعيّ. تحسّر على نفسه، وعلى سوء حظّه، وعلى هشاشة وضعه وهو يرى التكريم الذي حظي به صنوه في البطولة، ولكنّه لم ييأس، بل انتعش أمله الذابل بعد أن رأى اعتراف الرئيس الفرنسيّ بشجاعة الماليّ فقام بتقديم اعتراض على قرار المحافظ أمام المحكمة الإدارية في مدينة سيرجي-بونتواز.  وانتهزت محامية الشاب التونسي السيدة فيليبين باراستاتيس فرصة استقبال الرئيس الفرنسي للبطل المالي في قصر الإليزيه لتعيد قضية التونسي إلى الأضواء، وتطالب بعدم الكيل بمكيالين. فهل يختلف العمل البطولي للشاب التونسي الذي عرّض جسده للحرق عن العمل البطولي للشاب المالي؟ وهل يليق بفرنسا أن تعامل بطلا كما لو أنه ابن جارية وآخر كما لو أنّه ابن ستّ؟ ونقلت محامية أيمن معركتها إلى مواقع التواصل الاجتماعيّ  السحرية وإلى عالم الإعلام، وتعاطف الناس في فرنسا مع البطل التونسي المغمور، وأعيد النظر في قضيته وعلّق حكم طرده بانتظار تسوية وضعه على غرار ما حدث للشاب الماليّ الذي لقّب بالرجل العنكبوت.
ثمّة كلمة لجلال الدين الرومي يقول فيها: عندما يتراكم عليك كلّ شيء، وتصـل إلى نُقطة لا تتحمّل بعدها أيّ شيء، احذر أن تستسلم. ففي هذه النُقطة سيتمّ تغييـر قدرك إلى الأبد.
كان الطفل المعلّق على الشرفة هو النقطة أو اللقطة التصويريّة التي غيّرت مصير الشخصين وفتحت أمامها نافذة على مستقبل ميمون الطالع.  

بلال عبد الهادي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق