الثلاثاء، 26 مارس 2013

تناسخ مقال لعبد الفتاح كيليطو

 


عبد الفتاح كيليطو

بعد أن حضر وليمة تملى أثناءها بطلعة السيدة أرنو التي شغفته حباً، عاد فريديريك، بطل رواية «التربية العاطفية» لغوستاف فلوبير، إلى بيته في وقت متأخر من الليل. إثر رجوعه صادف وجهه في المرآة، «فوجد نفسه جميلاً، ولمدة دقيقة ظل ينظر إلى صورته». كان قد قرر وهو في طريقه إلى مسكنه أن موهبته وقدره أن يكون رساماً، وها هو الآن أمام رسمه على صفحة المرآة. لمدة دقيقة نسي المرأة التي يحبها وافتتن بنفسه وغرق في صورته. أليست المرآة، كما يقال، ماء جامداً؟

العودة إلى البيت، إلى النفس.. هل مازلت أنا؟ قد تسلب المرآة العقل، قد تضل وتغوي، ومع ذلك تظل صادقة، ولا سبيل لمجادلتها وإنكار ما تعرضه عليك، فقولها حاسم ونهائي. ألا تجابهك بصورتك؟ ألا يمثل برهانها أمام ناظريك؟ تطلب منها كل مرة جواباً عن السؤال المستعصي: من أنا؟ فيأتي جوابها صحيحاً منصفاً، لكن في اللحظة والحين، فلا دوام لحكمها. أجمل النساء تعرف ذلك، وإلا لماذا تعيد طرح السؤال ذاته، على غرار زوجة أب بلانش نيج في الحكاية المعروفة: أيتها المرآة خبريني، ألست الأجمل؟ لم تجاملها المرآة، فذات يوم صدعت بالحق وأعلمتها أن ربيبتها غدت أجمل منها. لا قرار للصورة في المرآة، معدن المسخ والتناسخ. كل من يقترب من مرآة يشعر بوجل خفي وقلق مكتوم، ذلك أنه معرض للموت، حقيقة أو مجازا. أوديبوس في مفترق الطرق، أوديبوس وسؤال السفنكس...

في مستهل رواية «صديقي الجميل» لموباسان، يلبي جورج ديروا دعوة إلى حفل عشاء عند صديق قديم له، الصحفي فوريستيي، وبما أنه فقير مدقع فقد اكترى كسوة ملائمة للمناسبة. وحين وصل إلى منزل صديقه حدث شيء طريف: أبصر غير بعيد عنه شخصاً غريباً أنيقاً، ثم أدرك أنه هو نفسه في مرآة على الحائط. هكذا ابتعد عن ذاته، تقمص شخصية أجنبية و صار إنساناً آخر. وإذا به يتمتم بعبارة غامضة: «ما أجمل هذا الابتكار!» أي ابتكار يا ترى ؟ المرآة، أم شخصه الجديد؟ يبهر الضيوف برشاقته ولباقته، وعند منتصف الليل يبادر بمغادرة الحفل. لا عجب أن صار فيما بعد يدعى صديقي الجميل، فالتحول الذي نتج عن لباسه الجديد شمل اسمه أيضا. في لعبة المرايا تتعدد الهويات والأسماء، وقد يطل النظير...

يموت صديقه فوريستيي فيقترن بزوجته، وأول ما فعلت هذه المرأة إجباره على تغيير اسمه، من أجل منحه صبغة أرستقراطية: عوض «جورج ديروا» صار «جورج دي روا». الانفصام الذي طرأ على اسمه، تجزيئه إلى لفظين (دي روا) عوض لفظ واحد، انفصام في كيانه. لقد تنكر لاسمه، أي لأبيه وأصله، واستعار هوية وأسرة جديدتين. لم ينحصر الأمر في الاسم، إذ بعد زواجه شغل منصب فوريستيي في الجريدة وسكن في بيته وأخذ يستعمل حوائجه وأغراضه، ثم حدث ما لم يكن في حسبانه: صار زملاؤه في الجريدة يلقبونه بفوريستيي. تعكر آنذاك صفو جوه، والأسوأ أنه وجد نفسه في صراع مع الميت، نظيره الذي لم يغفر له استحواذه على شخصه وامرأته وممتلكاته، فأخذ طيفه يلازمه ويحاصره ويزعجه أيما إزعاج. عادة ما تكتسي الأمور صبغة مأساوية عندما تنشأ عداوة مع النظير، غير أن صديقي الجميل سيفلح في عقد صلح مع فوريستيي، وسيسترجع توازنه ويستعيد اسم دي روا. ثم تمر الأيام ويواصل ارتقاءه في السلم الاجتماعي، وفي خاتمة الرواية يتزوج ثانية بابنة أحد كبار الأثرياء بباريس وتشرع أمامه - هو الذي كان في بدايته بائساً يائساً - أبواب مستقبل زاهـر.

رواية «صديقي الجميل» تعكس كنص أدبي إحدى الحكايات العجيبة، حكاية سندريون، ولعل القارئ قد اهتدى إليها من خلال بعض العناصر التي قمت بعرضها. سندريون، الخادمة المسكينة والمهانة، الحفل الذي يقيمه الأمير في قصره لاختيار الفتاة التي سيتزوجها، الحذاء السحري (صديقي الجميل شخصية «بها فتنة القدم»)، واللباس البهي الذي توفره إحدى الساحرات لسندريون بضربة عصا, إعجاب الأمير بها، ضياع فردة حذائها بسبب عودتها المتسرعة والمفاجئة إلى البيت حتى تفي بالشرط ولا تتجاوز منتصف الليل، وأخيراً العثور عليها بفضل الحذاء وزواجها بالأمير...

عندما نتحدث عن مسألة النظير يذهب تفكيرنا توا إلى الكاتب الأرجنتيني بورخيس الذي استغلها في العديد من نصوصه، وننسى أن موباسان جعل من النظير موضوعه المفضل والأثير. ما أكثر المرايا والنظائر في قصصه ورواياته !
عن مجلة الدوحة القطرية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق