الثلاثاء، 20 ديسمبر 2016

ميتالغة الكلام أو ما وراء اللغة


اللغة العربية  كغيرها من اللغات تعتمد عدّة طرق لتوليد كلمات جديدة تلبية لحاجات السوق اللغويّ، وسوق الكلمات مثلُ أيّ سوق متطلّب، وخاضع، في آن، لإرادة العرض والطلب. هناك كلمات جديدة تفرض نفسها بقوّة الأمر الواقع، تأتي مدحّجة بسلطانها، وهناك كلمات شخصيتها ضعيفة تسحقها أفواه المارّة في سوق اللغات. كلمات تجدها في الكتب والمجلات ولكنّها تبقى في حيّز التخصّص، وأنا أفضّل عليها الكلمات التي تنزل إلى السوق وتمشي في أفواه الناس وتكون في الوقت نفسه من كلمات أهل التخصّص. الكلمات التي تبقى حبيسة تخصصها كلمات تعاني من السمنة والترهّل وجسدها يحتاج إلى تمارين كثيرة لتحظى بالرشاقة البدنيّة، وقوامها الممشوق.
هناك كلمات يحاول البعض إنزالها إلى سوق التداول ويختلف ردّ فعل الناس حولها، سواء لغرابة الصيغة مثل بعض المفردات التي يمجّها ذوقي اللغوي - وقد أكون مخطئا- من قبيل " الفكرانية"، و" التاريخانيّة" وما جرّ مجراهما من كلمات لا تعيش إلاّ بالتنفّس الاصطناعيّ، فاللغة كالأكل واللبس أذواق، ولا اعتراض في عالم المذاقات والأذواق!
والنحت باب ضيّق، وواطىء عربياً بحيث إنّ المفردة العربية المنحوتة تزحف زحفاً للوصول إلى أهدافها بخلاف اللغات الهندو الأوروبية التي مهرت في تطويع النحت واستخدامه .
كلامي تمهيد للكلام على كلمة منحوتة. ليس من السهل ايجاد معادل عربي لها من كلمة واحدة. عالم المصطلحات عالم معقد لغوياً، ويبلبل أقلام الكتّاب ما بين تعريب وترجمة، وما بين ترجمة حرفية أو دلالية. ويعاني العربيّ أزمة عارمة في هذا المجال، فالعالم العربي ممزّق جغرافيا وآيديولوجيا( عدد المجامع اللغوية في العالم العربي عدد يظهر هذا التمزّق على الصعيد اللغوي أيضاً، والجامعة العربية ممزقة بين الانتماءات الايديولوجية لأقطابها ما بين تابع ومتبوع، والمجمع اللغوي شكل من أشكال السلطة، وكلّ مجمع يغنّي على ليلاه!).
الكلمة هي ( ميتالغة)، وهذه الكلمة هجينة، بنت الزواج المختلط، ولا نكران في أن الزواج المختلط جيّد على مستوى الصحّة للأجسام، ولكنه زواج غالباً ما يُسلَّط فوق رقبته سيفٌ اجتماعيّ أو دينيّ رهيف الشفرة، بتّار!
ميتالغة هي زواج بين كلمة أو بادئة غربية يونانيّة الأصل لا علاقة لها بالموت! ( ميتا ليست غريبة شكلاً عن اللغة العربية فهي على ألفة مع الموت، والشكل مراوغ يلعب بالدلالات!) ولاحقة هي كلمة "اللغة".
ويضاف إلى المقطع الغربيّ مقطع عربيّ! كلمة من منبعين، وعرقين، ولغتين! فالطريف في هذه الكلمة هو طريقة سبكها الدامج بين نظامين لغويين ( عربي/غربيّ) ، لكلّ منهما طريقته في التعامل مع الأصوات والمفردات والجمل.
فما المقصود بهذه الكلمة وهي كلمة يستعملها أكثر من باحث في شؤون علم اللغة الحديث أو ما يعرف بالألسنيّة؟
المقصود هو ما سمّاه الكاتب العبّاسيّ الكبير أبو حيّان التوحيدي ( الكلام على الكلام) وهي إحدى الوظّائف اللغوية التي لا يمكن للغة أن تستقيم أو تنوجد من دونها بحسب ما يرى العالم الألسنيّ الفذّ ياكبسون. وكلنا نستعمل الكلام على الكلام، نستعمله مع أولادنا ونستعمله في التعليم، ونستعمله في محتلف مجالات الحياة، فلولا الكلام على الكلام لانقطع خيط التواصل، وتعذّر فهم الناس لبعضهم البعض، فحين يسألك طالب مثلاً:  ما معنى هذه الكلمة أو تلك وتقوم بتفسيرها له، يكون كلامك كلاماً على هذه الكلمة، وعليه فالمعجم هو كلام على الكلام، وحين يقول لك شخص ما إعراب هذه الكلمة في هذه الجملة أو تلك فأنت حين تعربها له يكون إعرابك لها كلاماً على الكلام،  فالنحو، من هذا المنطلق، كلام على الكلام، وحين تشرح بيت شعر غامض فأنت حين تشرح تلبس عباءة الكلام على الكلام، وحين تكون تحكي ثمّ يقول لك قائل: ماذا تقصد بقولك؟ فأنت، وقت شرح مقصودك، تكون في حيّز الكلام على الكلام، وأنت حين تضع إصبعك على موطن الجمال أو المجاز او الاستعارة في جملة ما، فأنت تكون في عالم الكلام على الكلام. وعليه، لا مفرّ من الكلام على الكلام، والكلام على الكلام مجبور عليه كلّ لسان، لسان العلماء ولسان الجهلاء على السواء، إذ كلّ عالم هو في مكان ما جاهل، وكلّ جاهل هو في مكان ما عالم.
 والبعض لا يستهويه هذا النحت المركّب من كلمتين ولغتين لا تربط بينهما صلة رحم، ويفضل وضع معادل مركّب من كلمتين عربيتين هما ( اللغة الشارحة)، ومن يتأمّل كلامه أو كلام غيره يعرف أن لا غنى لهذه الوظيفة الحيوية.
وميتالغة هي مرادف لكلمة métalangue
وméta هي بادئة لغوية نراها في اللغات اللاتينية والإنكليزية، وتعنى "وراء" أو "ما وراء" ومن هذه البادئة ولدت " الماورائيات" العربية من حيث هي مصطلح من مصطلحات الفلسفة الميتافيزيقية!
وأختم هذا المقال بالفقرة التي وردت فيها عبارة " الكلام على الكلام"، في الليلة الخامسة والعشرين من كتاب أبي حيّان التوحيديّ " الإمتاع والمؤانسة"، وهي ليلة يدور فيها الحديث عن مراتب النظم والنثر وأـشكال البلاغات، يقول التوحيديّ:
قال- أدام الله دولته- ليلة: أحبّ أن أسمع كلاماً في مراتب النّظم والنّثر، وإلى أيّ حدّ ينتهيان، وعلى أيّ شكل يتّفقان، وأيّهما أجمع للفائدة، وأرجع بالعائدة، وأدخل في الصّناعة، وأولى بالبراعة؟؟
فكان الجواب: إنّ الكلام على الكلام صعب. قال: ولم؟ قلت: لأنّ الكلام على الأمور المعتمد فيها على صور الأمور وشكولها التي تنقسم بين المعقولـ وبين ما يكون بالحسّ ممكن، وفضاء هذا متّسع، والمجال فيه مختلف. فأمّا الكلام على الكلام فإنّه يدور على نفسه، ويلتبس بعضه ببعضه، ولهذا شقّ النّحو، وما أشبه النّحو من المنطق."

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق