الثلاثاء، 20 ديسمبر 2016

رسالة الغريب لأبي حيان التوحيدي الواردة في كتابه الإشارات الإلهية



يقول أبوحيان التوحيدي:

سألتني ـ رفق الله بك, وعطف على قلبك ـ أن أذكر لك الغريب ومحنه, وأصف لك الغربة وعجائبها, وأمر في أضعاف ذلك بأسرار لطيفة ومعان شريفة, إما معرضا, وإما مصرحا, وإما مبعدا, وإما مقربا. فكنت على أن أجيبك إلى ذلك. ثم إني وجدت في حالي شاغلا عنك, وحائلا دونك, ومفرقا بيني وبينك. وكيف أخفض الكلام الآن وأرفع, وما الذي أقول وأصنع, وبماذا أصبر, وعلى ماذا أجزع؟ وعلى العلات التي وصفتها والقوارف التي سترتها أقول:


إن الغريب بحيث ما حطت ركائبه ذليل
ويدُ الغريب قصيرة ولسانه أبدا كليل
والناس ينصر بعضهم بعضا وناصره قليل


وقال آخر:

وما جزعاً من خشية البين أخضلت دموعي ولكن الغريب غريب

يا هذا! هذا وصف غريب نأى عن وطن بني بالماء والطين, وبعد عن أُلاَّف له عهدهم الخشونة واللين, ولعله عاقرهم الكأس بين الغدران والرياض, واجتلى بعينه محاسن الحدق المراض, ثم إن كان عاقبة ذلك كله إلى الذهاب والانقراض, فأين أنت عن قريب قد طالت غربته في وطنه, وقل حظه ونصيبه من حبيبه وسكنه!؟ وأين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان, ولا طاقة به على الاستيطان!؟ قد علاه الشحوب وهو في كن, وغلبه الحزن حتى صار كأنه شن. إن نطق نطق حزنان منقطعا, وإن سكت سكت حيران مرتدعا, وإن قرب قرب خاضعا, وإن بعد بعد خاشعا, وإن ظهر ظهر ذليلا, وإن توارى توارى عليلا, وإن طلب طلب واليأس غالب عليه, وإن أمسك أمسك والبلاء قاصد إليه, وإن أصبح أصبح حائل اللون من وساوس الفكر, وإن أمسى أمسى منتهب السر من هواتك الستر, وإن قال قال هائبا, وإن سكت سكت خائبا, قد أكله الخمول, ومصه الذبول, وحالفه النحول, لا يتمنى إلا على بعض بني جنسه, حتى يفضي إليه بكامنات نفسه, ويتعلل برؤية طلعته, ويتذكر لمشاهدته قديم لوعته, فينثر الدموع على صحن خده, طالبا للراحة من كده.

وقد قيل: الغريب من جفاه الحبيب. وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب, بل الغريب من تغافل عنه الرقيب, بل الغريب من حاباه الشريب , بل الغريب من نودي من قريب, بل الغريب من هو في غربته غريب, بل الغريب من ليس له نسيب, بل الغريب من ليس له من الحق نصيب. فإن كان هذا صحيحا, فتعال حتى نبكي على حال أحدثت هذه النفوة, وأورثت هذه الجفوة:

لعل انحدار الدمع يُعقب راحة من الوجد أو يشفى نجي البلابل

يا هذا! الغريب من غربت شمس جماله, واغترب عن حبيبه وعذاله, وأغرب في أقواله وأفعاله, وغرب في إدباره وإقباله, واستغرب في طمره وسرباله. يا هذا! الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة, ودل عنوانه على الفتنة عقب الفتنة, وبانت حقيقته فيه في الفينة حد الفينة. الغريب من إن حضر كان غائبا, وإن غاب كان حاضرا. الغريب من إن رأيته لم تعرفه, وإن لم تره لم تستعرفه. أما سمعت القائل حين قال:

بم التعلل!؟لا أهل ولا زمن ولا نديم, ولا كأس, ولا سكن

هذا وصف رجل لحقته الغربة, فتمنى أهلا يأنس بهم, ووطنا يأوي إليه, ونديما يحل عقد سره معه, وكأسا ينتشى منها, وسكنا يتوادع عنده. فأما وصف الغريب الذي اكتنفته الأحزان من كل جانب, واشتملت عليه الأشجان من كل حاضر وغائب, وتحكمت فيه الأيام من كل جانب وذاهب, واستغرقته الحسرات على كل فائت وآئب, وشتته الزمان والمكان بين كل ثقة ورائب, وفي الجملة, أتت عليه أحكام المصائب والنوائب, وحطته بأيدي العواتب عن المراتب, فوصف يخفى دونه القلم, ويفنى من ورائه القرطاس, ويشل عن بجسه اللفظ, لأنه وصف الغريب الذي لا اسم له فيذكر, ولا رسم له فيشهر, ولا طي له فينشر, ولا عذر له فيعذر, ولا ذنب له فيغفر, ولا عيب عنده فيستر.

أيها السائل عن الغريب ومحنته! إلى ههنا بلغ وصفي في هذه الورقات. فإن استزدت زدت, وإن اكتفيت اكتفيت, والله اسأل لك تسديدا في المبالغة, ولي تأييدا في الجواب, لنتلاقى على نعمته, ناطقين بحكمته, سابقين إلى كلمته.

يا هذا! الغريب في الجملة من كله حرقة, وبعضه فرقة, وليله أسف, ونهاره لهف, وغداؤه حزن, وعشاؤه شجن, وآراؤه ظنن, وجميعه فتن, ومفرقه محن, وسره علن, وخوفه وطن.

الغريب من إذا دعا لم يجب, وإذا هاب لم يُهب. الغريب من (إذا) استوحش استوحش منه: استوحش لأنه يرى ثوب الأمانة ممزقا, واستوحش منه لأنه يجد لما بقلبه من الغليل محرقا. الغريب من فجعته محكمة, ولوعته مضرمة. الغريب من لبسته خرقة, وأكلته سلقة, وهجعته خفقة.

دع هذا كله! الغريب من أخبر عن الله بأنباء الغيب داعيا إليه. بل الغريب من تهالك في ذكر الله متوكلا عليه, بل الغريب من توجه إلى الله قاليا لكل من سواه. بل الغريب من وهب نفسه لله متعرضا لجدواه.

يا هذا! أنت الغريب في معناك.

أيها السائل عن الغريب! اعمل واحدة ولا أقل منها, وإذا أردت ذكر الحق فانس ما سواه, وإذا أردت قربه فابعد عن كل ما عداه, وإذا أردت المكانة عنده فدع ما تهواه لما تراه, وإذا أردت الدعاء إليه فميز مالك مما عليك في دعواه. طاعاتك كلها مدخولة, فلذلك هي ليست مقبولة. هممك كلها فاسدة, فلذلك ليست هي صاعدة. أعمالك كلها زائفة, فلذلك ليست نافعة. أحوالك كلها مكروهة, فلذلك ليست هي مرفوعة. ويلك! إلى متى تنخدع, وعندك أنك خادع؟ وإلى متى تظن أنك رابح, وأنت خاسر؟ وإلى متى تدعي, وأنت منفي؟ وإلى متى تحتاج, وأنت مكفي؟ وإلى متى تبدي القلق, وأنت غني؟ وإلى متى تهبط, وأنت علي؟ ما أعجب أمرا تراه بعينك, ألهاك عن أمر لا تراه بعقلك. الحمار أيضا يرى بعينه ولا يرى بغيرها. أفأنت كالحمار فتعذر؟ فإن لم تكن حمارا, فلم تتشبه به؟ وإن كنت, فلم تدعي فضلا عليه؟ وإذا لم تكن حمارا بظاهر خلقك وصبغتك, فلا تكنه أيضا بباطن نيتك وجليتك. قد والله فسدت فسادا لا أرجوك معه لفلاح, ولذلك ما أدري بأي لسان أحاورك, وبأي خلق أجاورك, وفي أي حقيقة أشاورك, وبأي شيء أداورك؟ سرك كفران, ولفظك بهتان, وسرورك طغيان, وحزنك عصيان, وغناك مرح وبطر, وفقرك ترح وضجر, وشبعك كظة وتخمة, وجوعك قنوط وتهمة, وغزوك رياء وسمعة, وحجك حيلة وخدعة, وأحوالك كلها بهرج وزيف, وأنت لا تحاسب نفسك عليها: هلم, ولا: بلم وكيف. أ هـ

ما أسعد من كان في صدره وديعة الله بالإيمان فحفظها حتى لا يسلبها منه أحد! أتدري ما هذه الوديعة؟

هي والله وديعة رفيعة هي التي سبقت لك منه وأنت بدد في التراب لم تجمعك بعد الصورة, ولم يقع عليك اسم, ولم تعرف لك عين, ولم يدل عليك خبر, ولا يحويك مكان, ولم يصفك عيان, ولم يحطك بيان, ولم يأت عليك أوان. أنت في ملكوت غيب الله ثابت في علم الله, عطل من كل شيء إلا من مشيئة الله. ترشح لمعرفته, وتلحظ في صفوته, وتؤهل لدعوته. فما أسعدك أيها العبد! فهذه العناية القديمة من ربك الكريم الذي نظر لك قبل أن تنظر لنفسك, وأيدك بما لم تهتد إليه همتك, حتى إذا نشر مطويك ورتق مفتقك, وجمع مفترقك, وقوم منأدك, وسوى معوجك وفتح عينك, وطرح شعاعها على ملكوته التي جعلها قبالة بصرك, وعرفك نفسك, ودعاك باسمك, وشهرك بحكمته فيك, وأظهر قدرته عليك, وعجبك وعجب غيرك منك, ولاطفك ولطف لك, وبين لك مكانتك إذا أطعت, ومهانتك إذا عصيت. وثبت على شهواتك فتناولتها, وعلى لذاتك فانهمكت فيها, وعلى معاصيك (لمن هذا حديثه معك) فركبت سنامها, ولم تفكر فيما خلفها وأمامها. ولما قيل لك: اتق الله! أخذتك العزة بالإثم, وبؤت فيما فيك من نعم الله عليك تهر على ناصحك, وتهزأ بالمشفق عليك, وتحاجه بالجهالة, وتقابله بالكبرياء والمخيلة. إنك عندي لمن المسرفين, بل من المجرمين, بل من الظالمين, بل من الفاسقين, بل من المطرودين, بل ممن قد تعرض لأن يسلبه الله ما أعطاه, ويجعل النار مأواه, حتى يصير عبرة لمن وراه. أ.هـ.

يا هذا! أحجر أنت؟ فما أقسى قلبك! وما أذهبك فيما يغضب عليك ربك! أبينك وبين نفسك ترة أو كيد؟ هل يفعل الإنسان العاقل بعدوه ما تفعله أنت بروحك؟ لا ينفعك وعظ وإن كان شافيا, ولا ينجع فيك نصح وإن كان كافيا! اللهم تفضل علينا بعفوك إن لم نستحق رضاك.

ياذا الجلال والإكرام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق