ببغاء الفتى الهنديّ
يحضر في ذاكرتي بيتان من الشعر العربيّ كلما رأيت ببّغاء، بيتان قديمان
عمرهما أكثر من ألف عام، يصفان حال الخليفة العربية الأسير، الألعوبة بين يدي
الفرس طورا، والأتراك طورا آخر. ومن يقرأ في سير الخلفاء العبّاسيين على سبيل
المثال، وأكتفي هنا بالإحالة الى كتاب الإمام جلال الدين السيوطيّ "تاريخ
الخلفاء"، وهو تاريخ موجز نسبيا لسير الخلفاء، يرسم فيه السيوطي بإيجاز الخطّ
البيانيّ للخلفاء بوهاده وهضابه ومرتفعاته ووديانه، وفي هذا الكتاب كما في غيره من
الكتب نجد ذكرا لهذين البيتين حيث يشبّه الخليفة بالببغاء، وهما:
خليفة في قفص بين "وصيف" و"بغا"
يقول ما قالا له كما تقول الببغا
وصيف وبغا شخصيتان
عسكريتان كانا يرفعان ويخفضان من شاءا من الخلفاء ، ويلعبان على ذوقيهما في شؤون
الخلفاء لوقتهم. والبيتان قيلا في الخليفة العبّاسي المستعين بالله الذي ولي
الخلافة بين عامي ( 248-252 للهجرة) . ومن
أحبّ أن يعرف أكثر عن هذين البيتين فيمكنه الاستعانة بمحرّك البحث غوغل للكشف عن
أحوال وأهوال ذلك الوقت، ودور هاتين الشخصيتين في بلاط الحكم. ولكني هنا سأتناول
نقطة لها علاقة بالببغاء من باب آخر، من باب شخص هنديّ في العشرين من عمره، كان
الببغاء مدخله إلى بهو الثراء العريض.
فالشاب الهندي يعيش
في مدينة لاس فيغاس، شاب ولوع بالخوارزميّات، ولكنه يبحث في الوقت نفسه عن مصدر
دخل متوار عن الأنظار. راح يبحث عن الغائب، عن الخفيّ، عمّا يعيش بيننا ولا نراه،
قال: الغائب فرصة لا تعوّض. الغائب أشبه بأرض غير مزروعة ولكنها أرض خصبة. الشاب
فقير، ولكنّه فكّر بطريقة لاصطياد الملايين، استعان بالخوارزميات وهي سلاح فتّاك
في هذا العصر، فـ " غوغل" ، على سبيل المثال، ليس أكثر من معادلة
خوارزميّة بسيطة، ولكنّنا نعرف كيف غيّرت حياة مؤسّسَيْها
لاري بايج وسيرجي برين . وضع خوارزميّة بسيطة لتكشف له الغائب، النادر، راح يبحث في كومة
المعلومات عن إبرة الإبداع، كان يعرف انها بانتظاره.
خطرت بباله فكرة
ألغوريتميّة، معادلة رياضية بسيطة، الألغوريتم يلبي له حاجته المادية. والألغوريتم وليد سؤال بسيط، الأسئلة مفاتيح على
اللامنتظر! ما هو الشيء الذي يبحث عنه الناس في صفحات غوغل ولا يجدون عنه معلومات متوازية مع الطلب؟. السؤال الذي لا يجد عنه المرء جوابا يكون طعمه مرّ
المذاق، لذا أراد الهندي سحب المرارة من فم السائل. كشف
له الألغوريتم عن جواب لم يكن يعرف عنه شيئا، أعطاه الألغوريتم مفتاحا سحرياً
ومفاجئاً، وهو أن المعلومات عن الببغاء قليلة، نادرة، لا تشفي الغليل. لقط طرف
الخيط، وطرف الخيط يشبه الخطوة الأولى من رحلة الألف ميل كما ورد في المثل
الصينيّ. برمج خطّته، وبدأ من حديقة الحيوانات رحلته في الفضاء الرقميّ. في حديقة الحيوانات راح يبحث عن لحم وعظم لفكرته،
فتح باب قفص الفكرة ليمنح أجنحتها القدرة على الطيران. هناك التقى بالمسؤول عن " جناح" الببغاوات، وكان ذلك
المسؤول خبيرا يعرف هذا الطائر بأصله وفصله ريشةً ريشة، ولكن هذا المسؤول لا يعرف
مكانة الببغاء في الانترنت، ولا يعرف كيف يرفرف الببغاء في الفضاء الرقميّ، معرفة
المسؤول عن الببغاوات الموسوعية محصورة خلف أسوار الحديقة. طلب الهندي من المسؤول
أن يكتب له كتابا عن عالم الببغاء، لم يخطر ببال المسؤول من قبل تحويل معرفته إلى
حبر وورق، كان مكتفيا بممارسة عمله، لا غير، لا يملك أي فكرة عن الخوارزميات
ومفعولها السحريّ. نال الهنديّ منه ما ارتجى، حصل بعد وقت على كتاب، فقام بفتح
موقع على الانترنت عارضا فيه بالمجّان الفصل الأوّل من الكتاب، بينما بقية الفصول
كانت يمكن تحميلها لقاء مبلغ زهيد.
محبّو
هذا الطائر الملوّن الثرثار ليسوا قلّة في العالم، صار الكتاب مرجعاً في بابه، يقصد صفحاته من لهم صلة حميمة بالببغاء، ويسخون
بسعر الكتاب الرقميّ بعد أن أغراه الفصل الأوّل المجاني العميق والجميل.
انهالت
عليه مئات الآلاف من الدولارات في الشهر الأوّل، وواصل الكتاب اصطياد الدولارات
بنجاح منقطع النظير. صار الكتاب أشبه بالغصن الذي يرتاح عليه الببغاء في شجرة
الفضاء الرقميّ.
كانت فكرته بسيطة هي تزويد السائل بجواب كاف وشاف، جامع ومانع، لقد
اكتشف "محيطه الأزرق"، لم يكن ذلك الشخص الذي استثمر الببغاء مثل
الببغاء يكرّر ما سمع، بل راح ينصت إلى تلك الأصوات التي لا تتفوّه بها الشفاه.
أحلام كثيرة تترعرع في ربوع الفضاء الرقميّ، هذه
السوق الحرّة المفتوحة، ولكن الأحلام تحتاج إلى أجنحة، والأفكار هي الأجنحة
والعملة الصعبة.
أرض
المتنبّي
الجمع،
في العربية، جمعان: مألوف وغريب.
هذان
النوعان من الجمع يمنحان الشاعر فرصة التنويع وتوزيع الأدوار بين الصيغ الحاضنة
لحالات الجموع، وأستعين هنا بالمتنبي لتوضيح فكرتي حول هذه النقطة.
إذا سألت أي شخص عن
جمع كلمة " أرض"، ستكون كلمة " أراضي" هي أوّل ما يتبادر إلى
الذهن، وأوّل كلمة تصل إلى اللسان، جمع حاضر وناضر في الفم، جمع بديهيّ، فوريّ،
والبديهيّ قد يحجب أشياء كثيرة، البداهة متاهة!. وقد لا تخطر بالبال أو بالفم جموع
أخرى. ولكن ما الذي اختاره المتنبي؟ هناك من يقول ان الشاعر يختار هذه الكلمة بدلا
من تلك لضرورات شعرية، الضرورات الشعرية ليست في نظري ضرورات هي اختيارات أيضاً،
الشاعر يختار بملء فيه ووعيه وإرادته الضرورات ليس لأسباب عروضية وإنما لأسباب
فنية ودلالية وبلاغية.
اعتبار الشاعر انه
خاضع للضرورة ليس أكثر من انتقاص لمقدرة الشاعر اللغوية والشعرية التي تستثمر
دلالات الضرورة بل وتلعب بالضرورة كما يلعب محرّك الدمى بالخيطان!. عبارة "
للضرورة الشعرية" عبارة تعلّم الكسل والخمول، عبارة تقتل الأسئلة، وتقتل روح
البحث عن لطائف المعنى. ليس في كلامي نكران لمفهوم الضرورة الشعرية، وانما نكران للمعنى
الذي نعطيه للضرورة! المعنى الأبكم الذي لا يفصح عن معنى مفتوح. يقول المتنبي ما يلي:
أروض الناس من تــرب
وخــــوف
وأرض أبــي شجاع من
أمــان.
الغريب مريب، ومخيف. نجد ان المتنبي استعمل " أروض " ليجمع بين ما هو عاديّ وغير عاديّ. أرضٌ من تراب، وأرض أخرى
ولكنها من خوف، كما استعمل المفرد " أرض" المألوف، والمألوف أمين! أرض
مفرد أليف، بسيط، والبساطة تليق بالأمان الذي يزرعه " أبو شجاع"!
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق