#حبّة_حمّص
ثمّة مهن ترافقك مدى الحياة ليس لأنها مهنتك، وإنّما لأنّها مهنة أبيك. طبعا ثمّة وظائف لا تسمح للأبناء بالمشاركة الفاعلة، ولكن لا يمكن لابن أن يعيش بعيداً عن مهنة أبيه، أياً كانت هذه المهنة، ولكن يختلف الآباء والأبناء في علاقتهم بمهنهم. ثمّة أناس يجدون أنّ مهنة آبائهم بعيدة عن أحلامهم أو لا تليق بأحلامهم فيديرون لها ظهورهم. وثمّة أناس يفتخرون بمهن آبائهم، بالنسبة لي المهنة التي تستحق الافتخار هي أي مهنة يمارسها المرء باقتدار. لا أؤمن بالتمييز العنصري بين المهن، فقد احترم سائق سيّارة عموميّة لأنّه يمارس مهنته بمقدرة ومهارة وشغف ولا أحترم كلّ من يتأفّف من مهنته مهما علا شأن مهنته لأنّي أعتبره خائناً لها، والخيانات المهنيّة كارثة وطنيّة وأخلاقيّة واقتصاديّة ودينية.
أليس إيمانه ناقصاً من لا يسكب روحه في عمله؟
فتحت عينيّ على الدنيا ، ووالدي صاحب مطعم بسيط للحمّص والفول في #طرابلس، ومن جميل الصدف ربّما أن يكون عام مولدي ١٩٥٩ هو نفسه عام انتقال والدي من مطعمه #مطعم_الدنّون في باب الحديد الذي افتتحه في العام ١٩٤٩ ولمّا يبلغ العشرين من عمره إلى شارع #المطران بالقرب من #شارع_عزمي، والأب عادة ما يأخذ أولاده معه إلى محلّه في أوقات الفراغ، وعليه رافقت مطعم والدي من أيام الطفولة، وعشت معه مع تفتّح وعيي على الدنيا، وفي أوقات العطل في المدارس، وفي العطلة الصيفيّة كنت أنزل إلى المطعم، وهذه الحالة لم تنقطع إلاّ خلال وجودي في #باريس لنيل الماستر والدكتوراه.
اشتغلت بكلّ ما له علاقة بعمل #المطعم، كنت أرافق والدي إلى سوق الخضرة لشراء #النعنع والبقدونس والبندورة والبصل، وشراء #الفليفلة الخضراء في موسمها أو اللفت أو الخيار أو المقتي لكبسه ، كما كنت أرافقه إلى #سوق_القمح لاختيار شوالات الحمّص والفول. أمّا في المطعم فلقد عملت بكل ما يتطلبه المطعم ، فأحياناً كنت أقوم بتوصيل الطلبات إلى البيوت، كنت أوصلها في صغري سيراً على الأقدام، وحين كبرت وتعلمت ركوب الدراجة صرت أوصّل الطلبات على الدراجة، كما عملت في تقديم الأطباق إلى الزبائن في قلب المطعم، وأقوم بتقشير البصل، وتخريط الكبيس، وتحضير السرفيس، وبعد أن ننفّق كان يبدأ العمل الثاني، صوبنة الصحون، وتنقاية الحمّص والفول من العجائز والبحص والقشّ، ينقّى حبّة حبّة، وكان والدي يقوم بنفسه أحيانا في تنقاية الحمّص، يضع كميّة من الحمص في صدر ألمنيوم ويروح يمرر الحبّات من تحت أصابعه ويلتقط الحبّة السيئة، أو الحصوة الصغيرة، أو القشة، ويضعها جانباً.
رأيت مشهداً ذات يوم، يقوم به أبي، وهو مشهد بسيط، ولكنه لم يبارح ذاكرتي، نفرت حبّة #حمّص من الصدر وتدحرجت وكرجت إلى خارج المحل، فقام والدي وذهب لإحضارها وإعادتها إلى الصدر.
ماذا تعني حبّة حمّص حتّى يقوم والدي بإحضارها؟ فتنني المشهد، شعرت بإيمان أبي، بورعه، بتقاه، وهو يقوم بهذه الحركة البسيطة، تقديرا للنعمة، وما رأيت والدي على امتداد عمره رحمه الله يتجبّر على نعمة، أو يتكبّر على نعمة، أو يستصغر نعمة، أو يتكبّر على أحد أو يستصغر شأن أحد، ما طاوعه قلبه أن يترك حبّة #الحمّص على قارعة الطريق، وهو الذي يعرف أنّها ما وصلت إلى المطعم إلا بعد سلسلة طويلة من معاناة الزارع والحاصد والشاحن.
بعد مضيّ حوالي ثلاثة عقود على قصّة حبّة الحمّص قرأت قصيدة صينية عن حبّة أرزّ، عن حبّة أرزّ واحدة، يحكي #الشاعر سيرة حياتها وتقلّب المصائر عليها، فطلّت من حبّة الأرزّ الصينيّة حبّة حمّص والدي.
من يعرف والدي يعرف أنّ السخاء من طباعه، وعطفه على الفقير من خصاله، ولمّه للحبّة ليس الا امتنانا للنعمة، ولا تزال الكلمات الأخيرة التي سمعتها منه على شكل جمل متقطّعة، وهو في النزع الأخير، يرنّ صداها في أذنيّ، كان يبتسم ويقول لي: أنتم أحبابي، والفقراء أحبابي. وضع الفقراء في مصافّ أهل بيته، في مصافّ أبنائه. وكم كنت أفرح بأبي وأنا أراه يعطف على الفقراء .
كم كنت أفرح بأبي وأنا أرى الناس يقصدون مطعمنا فقط لتذوّق لقمة حمّص أو فول أو فتّة من يديه الطاهرتين، وكان مذاق لقمته، باعتراف من يتذوّق لقمته، فريداً.
عاش عاشقاً لما يقوم به، أياً كان هذا العمل، تنقاية حمّص أو بناء بناية. دقّ سنّ ثوم، أو قصّ غصن شجرة زيتون يابس، أو لمّ حبّة زيتون من الأرض.
من أبي تعلّمت الشغف بالأشياء، فهو مدرستي في الشغف، ومثالي في التفاني، ورفيقي الدائم في غيابه، وإن كنت ، إلى اليوم، أحبّ حبّة الحمّص، وأجلّ حبّة #الفول فلأنّهما روح والدي، ورائحة والدي، وجهاد أبي وحياة أبي. وإن كنت إلى اليوم لا آكل إلا الصحن الذي أحضّره بيدي فلأنّي أحاول أن أمارس ما تعلمته من يد أبي، ومن نظرتي ليد أبي وهي تدق الحمّص وتعركه في الطاسة أو تخلط حبات الفول بحبات الحمّص لتحضير طبق الفول. أشعر وأنا أحضّر صحن حمّص بيدي أنّي أتقمّص روح أبي، وأشمّ رائحة أبي وهي تفوح من مذاقات الحبّات وهي شكل من أشكال القراءة لسيرة ابي العطرة
فعلاً عدم ترك حبة الحمص هذه لها قيمة كبيرة، فحتى لا يُحاسبنا الله بإهمالنا لنعمة مهما كانت صغيرة.
ردحذفتعودت أن استغفر الله عندما أغسل صحن إذا تبقى شيء قليل في الصحن لم نأكله ولا يصلح لأن يُترك في الثلاجة لوقت آخر