الخميس، 17 مارس 2022

طريق الحرير اللغويّة

 

تحية طيبة، وبعد

بداية أشكر الدكتورة الفاضلة شيماء كمال على الدعوة الكريمة للمشاركة في هذا المؤتمر الموقّر   الذي يعقده قسم اللغات والترجمة في جامعة بدر تحت عنوان  " المثاقفة والمبادلة، دراسات بينيّة في الإنسانيّات".

كما وأشكر المشاركين الذين لا ريب سيمتعني سماع مداخلاتهم التي ستغني معرفتي حول ما ستنتجه مبادرة الحزام والطريق التي أطلقها في العام 2013 الرئيس الصينيّ شي جين بينغ، وهي مبادرة يصحّ فيها ما قيل في أبي الطيب المتنبّي، مالئ الدنيا وشاغل الناس، فمبادرة الرئيس الصينيّ ملأت الدنيا وشغلت الناس، حقا، مبادرة تشبه المغامرة، وتاريخ الإنسان، في أيّ حال، هو تاريخ المغامرين والمبادرين.

مداخلتي هي بعنوان: لغات طريق الحرير، وكان يمكن لهذه المداخلة أن تكون باسم "طريق الحرير اللغويّة"، وهو اسم حديث نسبيّاً وجذّاب. ومن الطريف أن تأتي التسمية من الغرب، ومن ألمانيا تحديداً، لتعني بضاعة اكتشفت صناعتها الصين، وبقيت سرّا محيّرا إلى زمن طويل، حتّى أنّ فرجيل كاتب الملحمة الرومانيّة الإنياذة ظنّ أنّ الحرير مصنوع من مادّة نباتيّة على غرار القطن.

لعلّ أوّل من لفت نظري إلى فكرة لغات طريق الحرير هو ابن بطّوطة الرحّالة الشهير والذي ترجمت رحلته إلى لغات عديدة ومنها اللغة الصينيّة، لم تواجهْه خلال تجواله المديد في عالم الشرق أو في عالم آسيا مشكلة لغويّة ، فحيثما حلّ عصا الترحال كان يجد من يتكلّم معه اللغة العربيّة، وكانت اللغة تحلّ مشاكله اليوميّة في أغلب البلدان التي زارها ومنها الصين، حيث سجّل مشاهداته وانطباعاته ودهشته، وخصوصاً حين رأى صورته مرسومة على الكاغد أي الورق الصينيّ ومعروضة في الطريق. ولا أعرف إن كانت صورته هي أوّل صورة مرسومة لإنسان عربيّ، ولا أعرف إن كان في الأرشيف الصينيّ لذلك العهد نسخة من هذه الصورة، والبحث عنها يستحقّ العناء الفنّيّ والعلميّ.

عدّة كتب عربيّة تراثيّة تناولت الصين كان لها الفضل في أن تولد في رأسي فكرة دراسة لغات طريق الحرير وتفاعلها فيما بينها. ومنها كتاب بعنوان أخبار الهند والصين يعود تاريخ كتابته إلى العام 237 للهجرة، نشره في العام 1948 المستشرق الفرنسيّ جان سوفاجيه مرفقاً بترجمة فرنسيّة، وشروحات مستفيضة. استوقفتي أمور كثيرة في الكتاب، واستوقفني بشكل خاصّ كلمة، كلمة صينيّة، لو لم يقم ناشر الكتاب بشرحها لظلّت مجهولة الدلالة بالنسبة لي، وشروحات الكاتب وحدها لا يمكنها تزويدك بالجزم حول دلالتها، وهي كلمة "ساخ"، وهنا أستشهد بالفقرة : "ويختصّ الملك من المعادن بالملح، وحشيش يشربونه بالماء الحارّ ويباع منه في كل مدينة بمال عظيم ويقال له الساخ. وهو أكثر ورقاً من الرَطْبة، وأطيب قليلاً، وفيه مرارة، فيغلى الماء ويذرّعليه فهو ينفعهم من كلّ شيء. وجميع ما يدخل بيت المال الجزية والملح وهذا الحشيش".

كلمة الشاي لم تدخل إلى اللغة العربيّة من باب كلمة الشاي، وإنّما من باب كلمة " الساخ"، وإلى اليوم لا أعرف من أي لهجة من لهجات اللغة الصينيّة أخذها الكاتب، كما أنّ المترجم نفسه لا يعرف من كتب هذا الكتاب، فهو عثر على المخطوطة، تنقصها بعض الأوراق، وخصوصا الصفحات الأولى التي تعرّف باسم الكاتب، وناشر الكتاب ينسب الكتاب طورا للمسعودي صاحب كتاب " مروج الذهب ومعادن الجوهر"، وطورا آخر للتاجر سليمان.

كانت هذه الكلمة " ساخ" وراء اهتمامي بالكلمات المهاجرة، والكلمات المهاجرة في اللغات تغري بكتابة سيرها الغنيّة، ووراء الكلمات التي يكون للتجّار ، تحديداً، فضل شيوعها وانتشارها وتبنّها من قبل  لغات أخرى. والكتاب الذي وردت فيه هذه الكلمة، في أي حال، كتاب منسوب إلى من كانت التجارة مهنته.

وللتجارة فضل لغوي لا ينكر، وكثيراً ما قلّلنا من شأن التجّار في ترويج الأفكار، وغالباً ما نظرنا إلى الجانب السلبيّ من التجارة، بحيث إنّنا نجد كثيراً من الأمثال تتناول التاجر بالسوء، وتدين التجارة، وليس دائماً بسبب الجنّاس الخنّاس، فنقول: التاجر فاجر. وهكذا أعمانا فجور التجّار عن دورهم الجميل، والضروريّ، والحيويّ في نشر الأفكار. ومن الدالّ جداً أن يمتهن الرسول محمّد عليه السلام التجارة قبل أن ينزل عليه الوحي، وهناك أوصاف عدّة يتّصف بها الرسول عليه السلام، وهي أوصاف منحته إياها ممارسته التجارية، ومنها: الصادق الأمين، وهما، في الأصل، من صفاته التجاريّ قبل أن تلحق بصفاته النبويّة.

وهنا بخصوص التجارة أحبّ الاستشهاد بحكاية صغديّة، وشعب الصغد من الشعوب الذين مارسوا التجارة على ضفاف  طريق الحرير، وكانت بلادهم في الوقت نفسه تستقبل التجّار الذي يسلكون طريق الحرير بحفاوة بالغة، تقول الحكاية: إنّ الصغديين يمسحون شفتي الطفل أوّل ما يولد بالسكّر حتّى لا يخرج من بين شفيه إلاّ الكلام الحلو كالسكّر، ولهذا تحوّلوا، بحسب ما تقول الحكاية، إلى تجّار بالفطرة، - فالتجارة لسان حلو وملقى أحلى- وهنا، كما نرى نجد رابطاً طريفاً ودالاً على العلاقة الحميمة بين اللغة والتجارة من جهة، وبين اللغة وطريق الحرير من جهة ثانية.

 وأخذتني هذه الفكرة، أو هذه الروابط بين أضلاع هذا المثلّث، وهي: اللغة والتجارة وطريق الحرير إلى تساؤل حول علاقة اللغة العربية الفصحى بطريق الحرير.

التجارة واللغة على صلات عميقة، هذا ما يقوله لنا العصر الجاهليّ بشكل من الأشكال وإن بطريقة مواربة.

التجارة واللغة في حياتها اليوميّة،

والتجارة واللغة في وجهها الأدبيّ،

دارس نشأة اللغة الفصحى يتوقّف عند لهجة قريش. فالشائع لدى الدارسين أن العربيّة الفصحى هي لهجة قريش.

لهجة ارتقت إلى مستوى الفصاحة الناصعة لسببين:

-        سبب دينيّ

-        سبب تجاريّ 

 

سأتوقف في كلمتي، هنا، عند السبب التجاريّ، والذي يمكن اختصاره بكلمة قرآنيّة، أي الكلام على السبب التجاريّ بمفردات دينيّة، وبالتحديد قرآنيّة، وهي مفردات وردت في سورة قريش:

 

"لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)".

 

دلالات كثيرة يمكن أن يستخرجها القارئ من هذه الآيات، ولكن أكتفي بالدلالة التجارية الموجزة في عبارة " إيلاف قريش"، التي تحمل في طيّاتها فكرة الاستيراد والتصدير.

ما هو الدور الذي لعبه "إيلاف قريش " في تعزيز حضور لهجة قريش، ومن ثمّ في تبنّيها كلغة جامعة لقبائل العرب، ولهجات العرب؟

حين نسبر دلالات عبارة " إيلاف قريش" وأبعادها الجغرافيّة يتبيّن لنا، في جزء منها على الأقلّ، أنّها على صلة حميمة مع طريق الحرير.

طريق الحرير جعلت من قريش محجّة تجاريّة، ومَحجّة لغويّة ومحجّة أدبيّة ومحجّة نقديّة، بقدر ما جعل وجود الكعبة من قريش محجّة دينيّة، وجعل من الكعبة شاهداً أدبيّاً تعلّق على جدرانها قصائد العرب الخالدة وقصدت " المعلّقات" .

 

وأختم ببعض الكلمات من كتاب بيتر فرانكوبان Peter Frankopan  الموسوم : طرق الحرير، واختار صيغة الجمع في عنوان الكتاب، ولكن عناوين الفصول تبنّت صيغة المفرد، وهي عناوين معبّرة جدّا عن الأدوار التي لعبتها طرق الحرير، وأكتفي ببعض منها:

 

طريق الأيمان،

طريق الثورة،

طريق الوفاق،

طريق الفرو،

طريق السماء،

طريق الذهب،

طريق الفضّة،

طريق الذهب الأسود،

طريق القمح،

طريق القوى العظمى.

 

ولكن ليس من بين هذه العناوين عنوان باسم: طريق اللغة أو طريق اللغات.

 

أشكركم، وعلى أمل لقاء لا ينتمي على الواقع الافتراضيّ.

 

د. بلال عبد الهادي

رئيس قسم اللغة العربية

كلّية الآداب والعلوم الأنسانية

الجامعة اللبنانية- الفرع الثالث

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق