عالم اللغة عالم فاتن... ما يضع غلالة على فتنته هو الإلف والعادة، فالحكي جزء من
حياتنا، الصمت حارق.. كثيراً ما أتأمّل تلك التعابير التي نستعملها لتشير إلى مفاعيل الصمت المدمّرة: بدّي إحكي، بطق إذا ما حكيت، ما عاد فيني بدّي إحكي، ح إنفجر بدّي إحكي. والصيام عن الكلام اصعب بكثير من الصيام عن الطعام. سكوت ما تحكي. لأ بدّي إحكي. بموت إذا ما حكيت. هذه التعابير ليست من عندي، وإنّما هي تعابير أسمعها كما يسمعها غيري، وأحياناً أستعمل بعضاً منهان كما يستعمل غيري بعضا منها... ويمتعني تدوينها وأرشفتها، ودراسة دلالاتها وأوقات استعمالها، وسياقات استعمالها.
الأنسان حيوان ناطق، اي أنّه حيوان يحكي، بالحكي يمارس انسانيته حتّى ولو استعمل اللغة لمآرب حيوانيّة.زز
ما يفتنني باللغة هو مجازها، هو نطنطة الكلام من الحقيقة الى المجاز، ومن المجاز إلى الحقيقة، وكنت قد تناولت في مقال نشرته في كتابي لعنة بابل عن المجاز والحقيقة وتبادل الأدوار فيما بينهما من طريق استعارة الرمز الصيني الين واليانغ، مع أمثلة من واقع اللغة، ومن طريف الكلمات أن المعنى الحقيقي كلمة ما قد يصير مجازا، إلى هنا المسألة طبيعية، ولكن المعنى المجازي يتحوّل مع الوقت والاستعمال إلى معنى حقيقيّ، ولكن هذا المعنى الحقيقي يستعين بالمعنى الحقيقي الأوّل ليؤدّي دورا مجازيا. فتصير الحقيقة مجازا، ويصير المجاز حقيقة، وهكذا دواليك في حركة دائرية ولولبيّة لا تنتهي، على غرار الحركة الدائرية المستمرة لدائرة الين يانغ...
كيف يتعامل الدماغ مع الحقيقة ومع المجاز؟
كنت قد قرأت عن شخص ولد وفي شقّ دماغه الأيمن فجوة، فجوة غابت فيها المنطقة التي تعالج المجاز، بمعنى أنّه كان عاجزا عن استعمال المجاز، وعاجزا عن فهم المعنى المجازي، فإن قال له أحدهم: أعرني أذنيك ، خاف وارتعب إذ كيف بإمكانه أن يستغني عن أذنيه.
في حياتنا اللغوية هناك تواصل لغوي مستمر بين شقيّ الدماغ، حين نسمع عبارة مجازية ، يتبلبل الشق الأيسر، لا يمكن له أن يفهمها إلا بمعناها الحرفي، هنا يتدخل الشقّ الأيمن ويوضح للشقّ الأيسر الأيسر، فيطمئنّ بال الشقّ الأيسر.
النغمة التي ترافق الكلمة وتقلب معناها من جد الى هزل، أو من جد إلى سخرية، لا يمكن للشقّ الأيسر أن يستوعبها، لأنها من المهمات الملقاة على عاتق الشقّ الأيمن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق