الاثنين، 6 أغسطس 2018

مطبخ الشاعر ابن الروميّ من مقالات كتاب لعنة بابل

اهداء بخط  يد عباس محمود العقاد لكتابه عن  ابن الرومي

دراسة المآكل وآداب الطعام عمل حضاريّ جادّ لا يجوز الاستخفاف به، هذا ما أدركه الباحث الكندي ديفيد وينز( David Waines) من خلال كتابه الصادرة ترجمته عن دار رياض الريّس بعنوان" في مطبخ الخليفة، العصر الذهبي للمائدة العربية"، وهو كتاب طريف جدا ليس بسبب المآكل التي يتضمنها وهي أطباق فاتحة، حكماً، للشهية، ولا سيما أنها أطباق ملوكية مرت على موائد هارون الرشيد والمأمون وغيرهما من الخلفاء وإنما بسبب الفكرة المبتكرة التي كانت وراء تأليفه هذا الكتاب الغنيّ والشهيّ . قرر ديفيد وينز أن يعيد المنقرض من المآكل العبّاسية، أو في الأقلّ المنقرض من أسماء المآكل، أي أنّ عمله يشبه عمل العلماء الذين يسعون إلى إعادة إحياء الديناصور من خلال بقاياه المتحجرة، لعلّ الأمر حلم! ولكن أليس الكثير من أحلام الأمس تحوّل إلى وقائع راهنة مرئيّة نابضة بالحياة؟. الكاتب قرر إعادة إحياء الأطباق التي كانت تؤكل في الزمن العباسي، ويظهر من عمله الجهد الكبير الذي قام به في التنقيب في تضاعيف كتب التاريخ والجغرافيا والرحلات والطبخ وآداب السلوك والملوك وغيرها من الكتب التراثيّة التي ساعدته في العثور على مكونات وتوابل تلك المآكل.

ولكن لا اعرف لماذا قفز إلى ذهني ديوان الشاعر العبّاسي ابن الرومي وأنا أتصفح كتاب:" في مطبخ الخليفة". كنت قد اقترحت، سابقاً، على أحد طلاّبي الباحثين عن موضوع للماجستير أن يكون "مطبخ ابن الرومي" محور دراسته. ومطبخ ابن الرومي كان قد لفت، من قبل، نظر الرحّالة والجغرافيّ المسعوديّ الذي كرس للشاعر صفحات طوالاً في كتابه الغنيّ "مروج الذهب ومعادن الجوهر".

قد يتساءل شخص ما، وهل تسدّ مائدة ابن الرومي نهم الدارس وجوعه؟ الإجابة من وجهة نظري بالإيجاب، فانا أرى انه من المهم لمعرفة أي حضارة معرفة راقية ودقيقة أن تدرس الأمور الصغيرة التي فيها، الأمور التي لا تملأ عين أحد. لماذا نرى الدول المتحضرة لا تترك شأنا مهما صغر أو حقر إلا وتتناوله تناولا جادا ورصينا، ويقوم بذلك علماء أجلاء من طراز  الفيلسوف الأنتروبولوجيّ "كلود ليفي استروس" الذي كرس أكثر من كتاب شيّق لدراسة أكل الناس وطرائق وضع الأطباق على الموائد واستخرج من ملاحظاته الثاقبة " المثلث الغذائي" الذي اعتبره العمدة في تباين الحضارات والثقافات. وهذا المثلث هو المعادل الغذائي لـ"مثلث الصوائت" أي الفتحة والضمة والكسرة، إذ كلّ الحركات الأخرى ليست إلا تنويعات صوتيّة( أو نكهات إضافيّة) على هذه الحركات الثلاث، ويقوم المثلث الغذائي على اعتبار أن كل ثقافة غذائية لشعب من الشعوب تتشكّل من النيئ (كالكبّة النيئة) والمطبوخ والمعفّن( كالجبنة المعفنّة)، ومن السهل الوصول إلى اختلاف الحضارات من خلال اختلاف نسب مكوّنات هذا المثلّث.

ديوان ابن الرومي ضخم جدا ولعلّه من أكثر الشعراء غزارة شعرية ولا اعرف شاعرا عربيا قديما يفوقه إنتاجا. وكان الناقد ابن رشيق قد أدرك مسألة التطويل في قصائده وردّ ذلك إلى مزاج ابن الرومي الولوع بالتفاصيل فيقول عنه في كتابه" العمدة" : "إنّه يقلب المعنى ظهرا لبطن فلا يترك زيادة لمستزيد"، أي انه إذا أردنا الاستعارة من الميدان الذي نحن فيه "كان يقحّط صحنه" على الأخير. حين بدأت تصفح ديوانه لأعرف بشكل تقريبي نسبة الأبيات الغذائيّة الدسمة ذات الصلة بالطعام وأسماء المآكل وأدوات الطبخ ، لاحظت أنّه يفتتح قصيدته الأولى ببيت يتحدّث فيه عن "فواكه أيلول"،  كنوع من المقبّلات الشعرية، فيقول:

لولا فواكه أيلول إذا اجتمعت  من كلّ نوع، ورقّ الجوُّ والماء...

ورأيت في هذا البيت فاتحة خير تبشّر بأطايب الطعام ضمن أجواء صافية برفقة الماء الرقراق! ولكن الأطرف من ذلك أن القصيدة الأخيرة في الجزء السابع والأخير من ديوانه ذات دلالة خاصّة فهي متينة الصلة،أيضاً، بالطعام. وهي قصيدة "مزدوجة" تتناول "مجمع اللذّات"، أي الطعام باعتباره نصّاً فنيّاً يجب إتقان كتابته ووضع النقاط والحركات ( أي الإعجام والشكْل كما ورد في قصيدته) على مفرداته. وهو يعترف بأن لا أحد يفوقه قدرة أو خبرة في الكلام عن  لذيذ الطعام فيقول:

يا سائلي عن مجْمع اللذّات        سألت عنه أنعت النعّات

وهي قصيدة ينهيها بهذا البيت الشيطانيّ من الشعر:

لهفي عليها وأنا الزعيم    لمعدة شيطانُها رجيم.

ويبدو أن شيطان معدته كان رجيماً عن حقّ وحقيق، لأن الموت كان له بالمرصاد في أحد الأطباق وفق ما يقوله الرواة، فلقد رأى الوزير القاسم بن عبد الله أن لسان ابن الرومي "أطول من عقله" لكثرة هجائه وبذاءته، فوضع له السمّ في طبق "لوزينجة" للتخلّص من سلاطة لسانه وحين أحسّ ابن الرومي بسريان السمّ في جسده وهو في مجلس الوزير همّ بالانصراف، فقال الوزير: إلى أين تذهب؟ قال: إلى الموضع الذي وجهتني إليه، قال الوزير: سلّم على والدي، فقال ابن الرومي: ليس طريقي على النار.( ويبدو أنّ ابن الروميّ تخلّى، من خلال جوابه، عن تطيّره المزمن في اللحظات الأخيرة!).

ولعلّ من مصادفات ترتيب الديوان الغريبة أن تكون "معدته" (بيت الداء والطعام) وشيطانها الرجيم  خاتمة ديوانه وأيّامه!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق