الاثنين، 11 مارس 2013

فصل لغويّ في المترادفات من الهوامل والشوامل


المسألة الأولى وهي لغوية

قلت أعزك الله: ما الفرق بين العجلة والسرعة؟ وهل يجب أن يكون بين كل لفظتين - إذا تواقعتا على معنى، وتعاورتا غرضاً - فرق، لأنك تقول: سر فلان وفرج، وأشر فلان ومرح، وبعد فلان ونزح، وهزل فلان ومزح، وحجب فلان وصد، ومنع فلان ورد، وأعطى فلان وناول، ورام فلان وحاول، وعالج فلان وزاول، وذهب فلان ومضى، وحكم فلان وقضى، وجاء فلان وأتى، واقترب فلان ودنا، وتكلم فلان ونطق، وأصاب فلان وصدق، وجلس فلان وقعد، ونأى فلان وبعد، وحضر فلان وشهد، ورغب عن كذا وزهد.
وهل يشتمل السرور والحبور، والبهجة والغبطة، والفكه، والجذل والفرح، والإرتياح، والبجح على معنى واحد أو على معان مختلفة؟ وخذ على هذا؛ فإن بابه طويل، وحبله مثنى وشكله كثير.
فإن كان بين كل نظيرين من ذلك يفصل معنى من معنى ويفر مراداً من مراد، ويبين غرضاً من غرض، فلم لا يشترك في معرفته، كما اشترك في معرفة أصله؟.
وعلى هذا فما الفرق بين الغرض والمعنى والمراد، وها هو ذا وقد تقدم آنفاً؟.
وما الذي أوضح الفرق بين نطق وسكت، وألبس الفرق بين نطق وتكلم، وبين سكت وصمت؟.
الجواب: قال أبو علي أحمد بن محمد مسكويه: لما كنا نحتاج في الجواب عن هذه المسألة إلى ذكر السبب الذي من أجله احتيج إلى الكلام المصطلح عليه، والحاجة الباعثة على وضع الأسماء الدالة بالتواطؤ، والعلة الداعية إلى تأليف الحروف التي تصير أسماء وأفعالاً وحروفاً بالإتفاق والاصطلاح، والأقسام التي تعرض لنا بموجب حكم العقل - قدمنا بيان ذلك أمام الجواب؛ ليكون توطئة له، وليسهل علينا هذا المطلب، ويبين عن نفسه، ويعين على ما اعتاض منه، فأقول: إن السبب الذي احتيج من أجله إلى الكلام هو أن الإنسان الواحد لما كان غير مكتف بنفسه في حياته، ولا بالغ حاجاته في تتمة بقائه مدته المعلومة، وزمانه المقدر المقسوم - احتاج إلى استدعاء ضروراته في مادة بقائه من غيره، ووجب بشريطة العدل أن يعطى غيره عوض ما استدعاه منه، بالمعاونة التي من أجلها قال الحكماء: إن الإنسان مدنى بالطبع.
وهذه المعاونات والضرورات المقتسمة بين الناس، التي بها يصح بقاؤهم، وتتم حياتهم، وتحسن معايشهم، هي أشخاص وأعيان من أمور مختلفة، وأحوال غير متفقة، وهي كثيرة غير متناهية، وربما كانت حاضرة فصحت الإشارة إليها، وربما كانت غائبة فلم تكف الإشارة فيها، فلم يكن بد من أن يفزع إلى حركات بأصوات دالة على هذه المعاني بالاصطلاح، ليستدعيها بعض الناس من بعض، وليعاون بعضهم بعضاً، فيتم لهم البقاء الإنساني، وتكمل فيهم الحياة البشرية.
وكان الباري - جل وعز - بلطيف حكمته، وسابق علمه وقدرته، قد أعد للإنسان آلة هي أكثر الأعضاء حركة، وأوسعها قدرة على التصرف، ووضعها في طريق الصوت وضعاً موافقاً لتقطيع ما لا يخرج منه مع النفس، ملائماً لسائر الأخر المعينة في تمام الكلام - كانت هذه الآلة أجدر الأعضاء باستعمال أنواع الحركات المظهرة لأجناس الأصوات الدالة على المعاني التي ذكرناها وقد بلغت عدة هذه الأصوات المفردة المقطعة بهذه الحركات المسماة حروفاً - ثمانية وعشرين حرفاً في اللغة العربية.
ثم ركبت كلها ثنائياً وثلاثياً ورباعياً، وجميعها متناهية محصاة؛ لأن أصولها وبسائطها محصورة معدودة، فالمركبات منها أيضاً محصورة معدودة.
ولما كانت قسمة العقل توجب في هذه الكلم إذا نظر إليها بحسب دلالتها على المعاني أن تكون على أحوال خمس لا أقل منها ولا أكثر وجدت منقسمة إليها لا غير، وهي: أن يتفق اللفظ والمعنى معاً، أو يختلفا معاً، أو تتفق الألفاظ وتختلف المعاني، أو تختلف الألفاظ وتتفق المعاني، أو تتركب اللفظة فيتفق بعض حروفها وبعض المعنى وتختلف في الباقي.
وهذه الألفاظ الخمسة هي التي عدها الحكيم في أول كتبه المنطقية، وتكلم عليها المفسرين وسموها المتفقة، والمتباينة، والمتواطئة، والمترادفة، والمشتقة، وهي مشروحة هناك، ولكن السبب الذي من أجله احتيج إلى وضع الكلام يقتضى قسماً واحداً منها، وهو أن تختلف الألفاظ بحسب اختلاف المعاني، وهي المسماة المتباينة، فأما الأقسام الباقية فإن ضرورات دعت إليها، وحاجات بعثت عليها ولم تقع بالقصد الأول، وسنشرح ذلك بعون الله وتوفيقه.

وقد تقدم البيان أن المعاني والأحوال التي تتصور للنفس كثيرة جداً، وأنها بلا نهاية.
فأما الحروف الموضوعة الدالة بالتواطؤ، والمركبات منها، فمتناهية محصورة محصاة بالعدد.
ومن الأحكام البينة والقضايا الواضحة ببدائه العقول، أن الكثير إذا قسم على القليل اشتركت عدة منها في واحدة لا محالة، فمن ههنا حدث الاتفاق في الإسم، وهو أن توجد لفظة واحدة دالة على معان كثيرة، كلفظة العين الدالة على العين التي يبصر بها، وعلى عين الماء، وعين الركبة، وعين الميزان، والمطر الذي لا يقلع أياماً، وأشباهه من الأسماء كثيرة جداً ولم يقع هذا الفعل المؤدي إلى الإلباس والإشكال، وإلى الغلط والخطأ في الأعمال والإعتقادات باختيار، بل باضطرار طبيعي كما بينا وأوضحنا.
وعرض بعد ذلك أن أصحاب صناعة البلاغة، وصناعة الشعر والسجع، وأصحاب البلاغة والخطابة هم الذين يحتاجون إلى الإقناعات العامية في مواقف الإصلاح بين العشائر مرة، والحض على الحروب مرة، والكف عنها مرة، وفي المقامات الأخر التي يحتاج فيها إلى الإطالة والإسهاب، وترديد المعنى الواحد على مسامع الحاضرين؛ ليتمكن من النفوس، وينطبع في الأفهام - لم يستحسنوا إعادة اللفظة الواحدة مراراً كثيرة، ولا سيما الشاعر؛ فإنه مع ذلك دائم الحاجة إلى لفظ يضعه مكان لفظ دال على معناه بعينه؛ ليصحح به وزن شعره، ويعدل به أقسام كلامه.
فاحتيج لأجل ذلك إلى أسماء كثيرة دالة على معنى واحد.
وهذا العارض الذي عرض للألفاظ المترادفة كأنه مناصب للقصد الأول في وضع الكلام، مخالف له، وقد دعت الحاجة إليه كما تراه، ولولا حاجة الخطباء والشعراء، وأصحاب السجع والموازنة إليه لكان لغواً باطلاً.
ولما كانت المسألة متعلقة بهذين القسمين من الكلام اقتصرنا على شرحهما، وعولنا - بمن نشط للوقوف على الأقسام الأخر - على الكتب المصنفة فيها لأهل المنطق؛ لأنها مستقصاة هناك.
وإذ قد فرغنا من التوطئة التي رمناها أمام المسألة، فإنا نأخذ في الجواب عنها فنقول: إن من الألفاظ ما توجد متباينة، وهي التي تختلف باختلاف المعنى، وإليها كان القصد الأول بوضع اللغة.
ومنها ما توجد متفقة، وهي التي تتفق فيها ألفاظ واحدة بعينها ومعانيها مختلفة.
ومنها ما توجد مترادفة، وهي التي تختلف ألفاظها ومعانيها واحدة.
وهذان القسمان حدثا بالضرورة كما بينا.
وربما وجدت ألفاظ مختلفة دالة على معان متقاربة، وإن كانت أشخاص تلك المعاني مختلفة، وربما دلت على أحوال مختلفة ولكنها مع اختلافها هي لشخص واحد، فلأجل ذلك يستعملها الخطيب والشاعر مكان المترادفة، لموضع المناسبة والشركة القريبة بينها، وإن كانت متباينة بالحقيقة، ومثال ذلك ما يوجد من أسماء الداهية، فإنها على كثرتها نعوت مختلفة، ولكنها لما كانت لشيء واحد استعملت كأنها معنى واحد.
وكذلك أسماء الخمر، والسيف، وأشباهها.
وأنت إذا أنعمت النظر، واستقصيت الروية وجدت هذه الأشياء مختلفة المعاني، ولكنها لما كانت أوصافاً لموصوف واحد أجريت مجرى الأسماء الدالة على معنى واحد، وذلك عند اتساع الناس في الكلام، وعند حاجتهم إلى التسمح وترك التكلف والتجوز في كثير من الحقائق.
ولولا علمي بثقافة فطنتك، وإحاطة معرفتك، وسرعة تطلعك بفهمك على ما أومأت إليه لتكلفت لك الفرق بين معاني ألفاظ الخمر والشراب والشمول والراح والقهوة، وسائر أسمائها، وبين معاني ألفاظ السيف والصمصام والحسام وباقي ألقابه ونعوته، وكذلك في أسماء الدواهي ونعوتها، ولكني رأيت تجشم ذلك فضلاً وإطالة عليك بما لا فائدة لك فيه.
فينبغي لنا إذا وجدنا ألفاظاً مختلفة ومعانيها متفقة أو متقاربة أن ننظر فيها، فإن نبهنا على موضع خلاف في المعاني حملنا تلك الألفاظ على مقتضى اللغة وموجب الحكمة في وضع الكلام، فنجعلها من الألفاظ المتباينة التي اختلفت باختلاف المعاني.
وهي السبيل الواضحة، والطريقة الصحيحة التي يسقط معها سؤال السائل وشك المتشكك.
فإن لم يقع لنا موضع الخلاف في المعاني ولم يدلنا عليه النظر حملناه على الأصل الآخر، وصرفناه إلى القسم الذي بيناه وشرحناه من الضرورة الداعية في الشعر والخطابة إلى إستعمال الألفاظ الكثيرة الدالة على معنى واحد.

فلما وجدت المسائل التي صدرت في هذه الرسالة قد مثل فيها بألفاظ بعينها - تكلفت الكلام فيها ليستعان بها على نظائرها، فإنها عند التصفح كثيرة واسعة جداً، والله الموفق.
أما الفرق بين العجلة والسرعة، فإن العجلة على الأكثر تستعمل في الحركات الجسمانية التي تتوالى، وأكثر ما تجيء في موضع الذم، فإنك تقول للرجل:عجلت علي وعجل فلان على فلان فيعلم منه أنه ذم، وأنت لا تفهم هذا المعنى من أسرع فلان.
وأيضاً فإنك لا تستعمل الأمر من العجلة إلا لأصحاب المهن الدنية، ولا تقوله إلا لمن هو دونك.
فأما السرعة، فإنها من الألفاظ المحمودة، وأكثر ما تجيء في الحركات غير الجسمانية، وذاك أنك تقول فلان سريع الهاجس، وسريع الأخذ للعلم، وقد أسرع في الأمر وأسرع في الجواب، " بسم الله الرحمن الرحيم " والله سريع الحساب صدق الله العظيم " وفرس فلان أسرع من الريح وأسرع من البرق، ويقال في الطرف سريع، وفي القضاء سريع، والفلك سريع الحركة، ولا يستعمل بدل هذه الألفاظ عجل، ولا تنصرف لفظة العجلة في شيء من هذه المواضع.
وهذا فرق واضح، ولكن الإتساع في الكلام، وتقارب المعنيين يحمل الناس على وضع إحدى الكلمتين مكان الأخرى.
وأما قولهم سر فلان وفرح، وأشر ومرح، فإن الفرق بين السرور والفرح وبين الأشر والمرح ظاهر، فإن الأشر والمرح لا يستعملان إلا في الذم والعيب، وأما السرور والفرح فليسا من ألفاظ الذم.
ووضوح الفرق ههنا أظهر وأبين من أن يحتاج فيه إلى تكلف شرح وبيان.
فأما السرور والفرح، وإن كانا متقاربين في المعنى فإن أحدهما وهو السرور لا يستعمل إلا إذا كان فاعله بك غيرك.
وأما الفرح فهو حال تحدث بك غير فاعل، وتصريف الفعل منهما يدل على صحة ما ذكرناه، وذلك أنك تقول: سررت وسر فلان، ولا يستعمل فيه إلا لفظ فعل الذي هو وإن لم يسم فاعله فهو فعل غيرك.
فأما قولك: فرحت وفرح فلان فليس تقتضي اللفظة فاعلاً آخر.
وأما بعد فلان ونزح، فبينهما أيضاً فرق، وذلك أن البعد في المسافات على أنواع، وإن كان يجمعها هذا الاسم، فإن الأخذ في الطول والعرض والعمق مختلف الجهات وإن كان الجنس واحداً، فلما اختلفت الجهات، وكانت كل واحدة منها خلاف الأخرى - وجب أن تختلف الألفاظ الدالة عليها، فلفظة البعد وإن كان كالجنس مستعملة في كل واحدة من الجهات، فإنه يختص بالأخذ طولاً.
وأما لفظة نزح فإنه يختص بالأخذ عمقاً، فأصله في البئر وما جرى مجراها من العمق، ثم حملهم الإتساع في الكلام - وأن العمق أيضاً بعد ما - على أن أجروه مجرى الطول.
وأما هزل فلان ومزح، فبينهما فرق، وذلك أن الهزل هو ضد الجد، وهو مذموم.
فأما المزح فليس بمذموم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً، ولم يكن يهزل.
ويقال: فلان حسن الفكاهة مزاح، يوصف به ويمدح، فإذا هزل عيب وذم.
فأما قولهم: حجب فلان وصد، فإن الحجاب معنى سابق، وكأنه سبب للصدود، ولما كان الصدود هو الإعراض بالوجه - وإنما يقع هذا الفعل بعد الحجاب منه - صار قريباً فاستعمل مكانه، وبين المعنيين تفاوت.
فأما الألفاظ الأخر التي ذكرت بعد فإن المتأمل لها يعرف الفرق بينهما، بأدنى تأمل، ولذلك تركت الكلام فيها؛ إذ كان أعطى، أصله من عطا يعطو، وإنما عدى بالهمزة، كما تقول قام فلان وأقامه غيره.
وأما ناول فهو فاعل من النول، وحاول فعل من الحول.
وهذه الأشياء من الظهور بحيث يستغني عن الكلام فيها.
وأما قولهم جلس فلان وقعد، فإن الهيئة وإن كانت واحدة، فإن الجلوس لما كان بعقب تكاء واستلقاء، والقعود لما كان بعقب قيام وانتصاب - أحبوا أن يفرقوا بين الهيئتين الواقعتين بعقب أحوال مختلفة.
والدليل على أنهم خالفوا بين هاتين اللفظتين لأجل الأحوال المختلفة قبلهما أنك تقول: كان فلان متكئاً فاستوى جالساً، ولا تقول استوى قاعداً.
ولست أقول: إن هذا الحكم واجب في كل لفظتين مختلفتين إذا دلتا على معنى، ولا هو حتم عليك ولا ضربة لا زب لك، بل قد قدمنا أما هذه المسألة ما جعلنا لك فيه فسحة تامة، ورخصة واسعة: إذا لم تجد الفرق واضحاً بيناً أن تذهب بهما إلى الاتفاق في الاسم الذي هو أحد أقسام الألفاظ التي عددناها.

ثم قلت في آخر المسألة: ما الفرق بين المعنى والمراد والغرض؟ وبينهما فروق بينة، وذلك أن المعنى أمر قائم بنفسه مستقل بذاته، وإنما يعرض له بعد أن يصير مراداً، وقد يكون معنى ولا يكون مراداً.
فأما الغرض فأصله المقصود بالسهم، ولكنه لما كان منصوباً لك تقصده بالحركة والإرادة صار كالغرض للسهم، فاستعملت هذه اللفظة ههنا على التشبيه.
وأما قولك في خاتمة المسألة: ما الذي أوضح الفرق بين نطق وسكت، وألبس الفرق بين سكت وصمت؟ فما أعجبه من مطالبة، وأغربه من مسألة! كيف لا يكون الفرق بين المتضادين اللذين هما في الطرفين والحاشيتين، وأحدهما في غاية البعد عن الآخر - أوضح من الشيئين المتقاربين اللذين ليس بينهما إلا بعد وأمد قريب يخفى على الناظر إلا بعد حده النظر واستقصاء التأمل؟ على أن الفرق بين صمت وسكت أيضاً غير ملتبس؛ لأن السكوت لا يكون إلا من متكلم، ولا يقع إلا من ناطق.
وأما الصمت فليس يقع إلا عن نطق لا محالة؛ لأنه يقال: جاء فلان بما صاء وصمت، يعني به ضروب المال الحي منه والجماد.
ولا يقال في المال: صامت إلا لما كان غير ذي حياة ولا نطق ولا صوت، كالذهب والفضة، وما جرى مجراها من الجمادات.
وأما المال الذي هو ماشية وحيوان فلا يقال له: صامت، ولا يقال للصامت من المال ساكت؛ لأن السكوت إنما يكون عن كلام أو صوت.
وقد يقال في الثوب إذا أخلق: سكت الثوب، وإنما ذلك على التشبيه، كأنهم لما وجدوه جديداً يصوت ويقعقع شبهوه بالمتكلم، ثم لما أمسك عند الإخلاق شبهوه بالساكت، وهذا من ملح الكلام وطرف المجاز.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق