كتبهابلال عبد الهادي ، في 2 نيسان 2011 الساعة: 21:20 م
في علوم اللسان العربي
أركانه أربعة: وهي اللغة والنحو والبيان
والأدب. ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة، إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب
والسنة، وهي بلغة العرب ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتها من لغتهم،
فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة. وتتفاوت قي
التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام، حسبما يتبين في الكلام عليها
فناً فناً. والذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو، إذ به يتبين أصول المقاصد
بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر، ولولاه لجهل أصل الإفادة.
وكان من حق علم اللغة التقدم، لولا ان أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها، لم تتغير
بخلاف الإعراب الدال على الإسناد والمسند والمسند إليه، فإنه تغير بالجملة ولم يبق
له أثر. فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة، إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة،
وليست كذلك اللغة. واللة سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
علم النحو
علم النحو
اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم
عن مقصوده. وتلك العبارة فعل لساني ناشئ، عن القصد بإفادة الكلام، فلابد أن تصير
ملكة متقررة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان. وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم.
وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد، لدلالة
غير الكلمات فيها على كثير من المعاني. مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من
المجرور أعني المضاف، ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال أي الحركات إلى الذوات من غير
تكلف ألفاظ أخرى. وليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب. وأما غيرها من اللغات فكل معنى
أو حال لا بد له من ألفاظ تخصه بالدلالة، ولذلك نجد كلام العجم في مخاطباتهم أطول
مما نقدره بكلام العرب. وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " أوتيت جوامع الكلم
واختصر لي الكلام اختصاراً " . فصار للحروف في لغتهم والحركات والهيآت، أي الأوضاع،
اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها. إنما هي
ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا.
فلما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب
الملك، الذي كان في أيدي الأمم والدول، وخالطوا العجم، تغيرت تلك الملكة بما ألقى
إليها السمع من المخالفات التي للمتعربين من العجم. والسمع أبو الملكات اللسانية،
ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها، لجنوحها إليه باعتياد السمع. وخشي أهل العلوم
منهم أن تفسد تلك الملكة رأساً ويطول العهد بها، فينغلق القرآن والحديث على المفهوم
، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة، شبه الكليات والقواعد،
يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويلحقون الأشباه بالأشباه. مثل أن الفاعل مرفوع
والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع. ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات،
فاصطلحوا على تسميته إعراباً، وتسمية الموجب لذلك التغير عاملاً وأمثال ذلك. وصارت
كلها اصطلاحات خاصة بهم، فقيدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة، واصطلحوا على
تسميتها بعلم النحو. وأول من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة، ويقال
بإشارة علي رضي الله عنه، لأنه رأى تغير الملكة، فأشار عليه بحفظها، ففزع إلى ضبطها
بالقوانين الحاضرة المستقرأة، ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل
بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد، أحوج ما كان الناس إليها، لذهاب تلك الملكة من
العرب. فهذب الصناعة وكمل أبوابها. وأخذها عنه سيبويه، فكمل تفاريعها واستكثر من
أدلتها وشواهدها، ووضع فيها كتابه المشهور، الذي صار إماماً لكل ما كتب فيها من
بعده. ثم وضع أبو علي الفارسي وأبو القاسم الزجاج كتباً مختصرة للمتعلمين، يحذون
فيها حذو الإمام في كتابه.
ثم طال الكلام في هذه الصناعة وحدث الخلاف بين أهلها، في الكوفة والبصرة: المصرين القديمين للعرب. وكثرت الأدلة والحجاج بينهم، وتباينت الطرق في التعليم، وكثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن، باختلافهم في تلك القواعد، وطال ذلك على المتعلمين. وجاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار، فاختصروا كثيراً من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل، كما فعله ابن مالك في كتاب التسهيل وأمثاله، أو اقتصارهم على المبادىء للمتعلمين، كما فعله الزمخشري في المفصل وابن الحاجب في المقدمة له. وربما نظموا ذلك نظماً مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى والصغرى، وابن معطي في الأرجوزة الألفية. وبالجملة فالتآليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو يحاط بها، وطرق التعليم فيها مختلفة، فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين. والكوفيون والبصريون والبغداديون والأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك.
وقد كادت هذه الصناعة أن تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم والصنائع بتناقص العمران، ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر، منسوب إلى جمال الدين ابن هشام من علمائها، استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصلة. وتكلم على الحروف والمفردات والجمل، وحذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابها وسماه بالمغني في الإعراب. وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظمت سائرها، فوقفنا منه على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة ووفور بضاعته منها، وكأنه ينحو في طريقته منحى نحاة أهل الموصل، الذين أقتفوا آثر ابن جني واتبعوا مصطلح تعليمه، فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته واطلاعه. والله يزيد في الخلق ما يشاء
علم اللغة
ثم طال الكلام في هذه الصناعة وحدث الخلاف بين أهلها، في الكوفة والبصرة: المصرين القديمين للعرب. وكثرت الأدلة والحجاج بينهم، وتباينت الطرق في التعليم، وكثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن، باختلافهم في تلك القواعد، وطال ذلك على المتعلمين. وجاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار، فاختصروا كثيراً من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل، كما فعله ابن مالك في كتاب التسهيل وأمثاله، أو اقتصارهم على المبادىء للمتعلمين، كما فعله الزمخشري في المفصل وابن الحاجب في المقدمة له. وربما نظموا ذلك نظماً مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى والصغرى، وابن معطي في الأرجوزة الألفية. وبالجملة فالتآليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو يحاط بها، وطرق التعليم فيها مختلفة، فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين. والكوفيون والبصريون والبغداديون والأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك.
وقد كادت هذه الصناعة أن تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم والصنائع بتناقص العمران، ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر، منسوب إلى جمال الدين ابن هشام من علمائها، استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصلة. وتكلم على الحروف والمفردات والجمل، وحذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابها وسماه بالمغني في الإعراب. وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظمت سائرها، فوقفنا منه على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة ووفور بضاعته منها، وكأنه ينحو في طريقته منحى نحاة أهل الموصل، الذين أقتفوا آثر ابن جني واتبعوا مصطلح تعليمه، فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته واطلاعه. والله يزيد في الخلق ما يشاء
علم اللغة
هذا العلم هو بيان الموضوعات اللغوية. وذلك
أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي، في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب،
واستنبطت القوانين لحفظها كما قلناه. ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم،
حتى تأذى الفساد إلى موضوعات الألفاظ، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه
عندهم، ميلاً مع هجنة المتعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية، فاحتيج إلى
حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين، خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل
بالقرآن والحديث، فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك وأملوا فيه الدواوين. وكان سابق
الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي. ألف فيها كتاب العين، فحصر فيه مركبات
حروف المعجم كلها، من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، وهو غاية ما ينتهي إليه
التركيب في اللسان العربي.
وتأتى له حصر ذلك بوجوه عديدة حاصرة، وذلك
أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة
وعشرين، وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد. لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد
من السبعة والعشرين، فتكون سبعة وعشرين كلمة ثنائية. ثم يؤخذ الثاني مع الستة
والعشرين كذلك. ثم الثالث والرابع. ثم يؤخذ السابع والعشرون مع الثامن والعشرين،
فيكون واحداً، فتكون كلها أعداداً على توالي الأعداد من واحد إلى سبعة وعشرين،
فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب وهو أن تجمع الأول مع الاخير وتضرب
المجموع في نصف العدة. ثم تضاعف، لأجل قلب الثنائي، لأن التقديم والتأخير بين
الحروف معتبر في التركيب، فيكون الخارج جملة الثنائيات.
وتخرج الثلاثيات من ضرب عدد الثنائيات فيما يجتمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد، لأن كل ثنائية تزيد عليها حرفاً، فتكون ثلاثية. فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية، وهي ستة وعشرون حرفاً، بعد الثنائية، فتجمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد، ويضرب فيه جملة الثنائيات ثم تضرب الخارج في ستة، جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية، فيخرج مجموع تركيبها من حروف المعجم. وكذلك في الرباعي والخماسي. فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه، ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف. واعتمد فيه ترتيب المخارج، فبدأ بحروف الحلق، ثم ما بعده من حروف الحنك ثم الأضراس، ثم الشفة، وجعل حروف العلة آخراً، وهي الحروف الهوائية. وبدأ من حروف الحلق بالعين، لأنه الأقصى منها. فلذلك سمي كتابه بالعين، لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا، وهو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات والألفاظ. ثم بين المهمل منها من المستعمل، وكان المهمل في الرباعي والخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله، ولحق به الثنائي لقلة دورانه، وكان الاستعمال في الثلاثي أغلب، فكانت أوضاعه أكثر لدورانه. وضمن الخليل ذلك كله في كتاب العين واستوعبه أحسن استيعاب وأوفاه.
وجاء أبو بكر الزبيدي وكتب لهشام المؤيد بالأندلس، في المائه الرابعة، فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب وحفف منه المهمل كله، وكثيراً من شواهد المستعمل، ولخصه للحفظ أحسن تلحيص.
وألف الجوهري من المشارقة، كتاب الصحاح على الترتيب المتعارف لحروف المعجم، فجعل البداءة منها بالهمزة وجعل الترجمة بالحروف على الحرف اآاخير من الكلمة، لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم، فيجعل ذلك باباً. ثم يأتي بالحروف أول الكلمة، على ترتيب حروف المعجم أيضاً، ويترجم عليها بالفصول إلى آخرها. وحصر اللغة اقتداءً بحصر الخليل.
ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيده من أهل دانية، في دوله علي بن مجاهد، كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب، وعلى نحو ترتيب كتاب العين. وزاد فيه التعرض لاشتقاقات الكلم وتصاريفها، فجاء من أحسن الدواوين. ولخصه محمد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس. وقلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم وبناء التراجم عليها، فكانا توأمي رحم وسليلي أبوة.
ولكراع من أئمة اللغة كتاب المنجد، ولابن دريد كتاب الجمهرة ولابن الأنباري كتاب الزاهر.
هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه. وهناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم ومستوعبة لبعض الأبواب أو لكلها، إلا أن وجه الحصر فيها خفي، ووجه الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت. ومن الكتب الموضوعة أيضاً في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز، وسماه أساس البلاغة، بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ، فيما تجوزت به من المدلولات، وهو كتاب شريف الإفادة.
وتخرج الثلاثيات من ضرب عدد الثنائيات فيما يجتمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد، لأن كل ثنائية تزيد عليها حرفاً، فتكون ثلاثية. فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية، وهي ستة وعشرون حرفاً، بعد الثنائية، فتجمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد، ويضرب فيه جملة الثنائيات ثم تضرب الخارج في ستة، جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية، فيخرج مجموع تركيبها من حروف المعجم. وكذلك في الرباعي والخماسي. فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه، ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف. واعتمد فيه ترتيب المخارج، فبدأ بحروف الحلق، ثم ما بعده من حروف الحنك ثم الأضراس، ثم الشفة، وجعل حروف العلة آخراً، وهي الحروف الهوائية. وبدأ من حروف الحلق بالعين، لأنه الأقصى منها. فلذلك سمي كتابه بالعين، لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا، وهو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات والألفاظ. ثم بين المهمل منها من المستعمل، وكان المهمل في الرباعي والخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله، ولحق به الثنائي لقلة دورانه، وكان الاستعمال في الثلاثي أغلب، فكانت أوضاعه أكثر لدورانه. وضمن الخليل ذلك كله في كتاب العين واستوعبه أحسن استيعاب وأوفاه.
وجاء أبو بكر الزبيدي وكتب لهشام المؤيد بالأندلس، في المائه الرابعة، فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب وحفف منه المهمل كله، وكثيراً من شواهد المستعمل، ولخصه للحفظ أحسن تلحيص.
وألف الجوهري من المشارقة، كتاب الصحاح على الترتيب المتعارف لحروف المعجم، فجعل البداءة منها بالهمزة وجعل الترجمة بالحروف على الحرف اآاخير من الكلمة، لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم، فيجعل ذلك باباً. ثم يأتي بالحروف أول الكلمة، على ترتيب حروف المعجم أيضاً، ويترجم عليها بالفصول إلى آخرها. وحصر اللغة اقتداءً بحصر الخليل.
ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيده من أهل دانية، في دوله علي بن مجاهد، كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب، وعلى نحو ترتيب كتاب العين. وزاد فيه التعرض لاشتقاقات الكلم وتصاريفها، فجاء من أحسن الدواوين. ولخصه محمد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس. وقلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم وبناء التراجم عليها، فكانا توأمي رحم وسليلي أبوة.
ولكراع من أئمة اللغة كتاب المنجد، ولابن دريد كتاب الجمهرة ولابن الأنباري كتاب الزاهر.
هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه. وهناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم ومستوعبة لبعض الأبواب أو لكلها، إلا أن وجه الحصر فيها خفي، ووجه الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت. ومن الكتب الموضوعة أيضاً في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز، وسماه أساس البلاغة، بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ، فيما تجوزت به من المدلولات، وهو كتاب شريف الإفادة.
ثم لما كانت العرب تضع الشيء لمعنى على
العموم، ثم تستعمل في الأمور الخاصة ألفاظاً أخرى خاصة. بها، فرق ذلك عندنا، بين
الوضع والاستعمال، واحتاج الناس إلى فقه في اللغة عزيز المأخذ، كما وضع الأبيض
بالوضع العام لكل ما فيه بياض، ثم اختص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب، ومن الإنسان
بالأزهر، ومن الغنم بالأملح، حتى صار استعمال الأبيض في هذه كلها لحناً وخروجاً عن
لسان العرب. واختص بالتأليف في هذا المنحى الثعالبي، وأفرده في كتاب له سماه فقه
اللغة، وهو من آكد ما يأخذ به اللغوي نفسه، أن يحرف استعمال العرب عن مواضعه. فليس
معرفة الوضع الأول بكاف في التركيب، حتى يشهد له استعمال العرب لذلك. وأكثر ما
يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه ونثره، حذراً من أن يكثر لحنه في الموضوعات
اللغوية في مفرداتها وتراكيبها، وهو أشر من اللحن في الإعراب وافحش. وكذلك آلف بعض
المتأخرين في الألفاظ المشتركة وتكفل بحصرها، وإن لم يبلغ إلى النهاية في ذلك، فهو
مستوعب للأكثر. وأما المختصرات الموجودة في هذا الفن، المخصوصة بالمتداول من اللغة
الكثير الاستعمال، تسهيلاً لحفظها على الطالب، فكثيرة مثل الألفاظ لابن السكيت
والفصيح لثعلب وغيرهما. وبعضها أقل لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهم على الطالب
للحفظ. والله الخلاق العليم، لا رب سواه.
فصل: واعلم أن النقل الذي تثبت به اللغة، إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنهم وضعوها لأنه متعذر وبعيد، ولم يعرف أحد منهم. وكذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم نعلم استعماله، على ما عرف استعماله في ماء العنب، باعتبار الإسكار الجامع. لأن شهادة الاعتبار في باب القياس إنما يدركها الشرع الدال على صحة القياس من أصله. وليس لنا مثله في اللغة إلا العقل، وهو محكم، وعلى هذا جمهور الأئمة. وإن مال إلى القياس فيها القاضي وابن سريج وغيرهم. لكن القول بنفيه أرجح. ولا تتوهمن أن إثبات اللغة في باب الحدود اللفظية، لأن الحد راجع إلى المعاني ببيان أن مدلول اللفظ المجهول الخفي هو مدلول الواضح المشهور، واللغة إثبات أن اللفظ كذا، لمعنى كذا، والفرق في غاية ظهور.
علم البيان
فصل: واعلم أن النقل الذي تثبت به اللغة، إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنهم وضعوها لأنه متعذر وبعيد، ولم يعرف أحد منهم. وكذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم نعلم استعماله، على ما عرف استعماله في ماء العنب، باعتبار الإسكار الجامع. لأن شهادة الاعتبار في باب القياس إنما يدركها الشرع الدال على صحة القياس من أصله. وليس لنا مثله في اللغة إلا العقل، وهو محكم، وعلى هذا جمهور الأئمة. وإن مال إلى القياس فيها القاضي وابن سريج وغيرهم. لكن القول بنفيه أرجح. ولا تتوهمن أن إثبات اللغة في باب الحدود اللفظية، لأن الحد راجع إلى المعاني ببيان أن مدلول اللفظ المجهول الخفي هو مدلول الواضح المشهور، واللغة إثبات أن اللفظ كذا، لمعنى كذا، والفرق في غاية ظهور.
علم البيان
هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية
واللغة، وهو من العلوم اللسانية، أنه متعلق بالألفاظ وما تفيده. ويقصد بها الدلالة
عليه من المعاني. وذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي:
إما تصور مفردات تسند ويسند إليها ويفضي بعضها إلى بعض، والدلالة على هذه هي
المفرادت من الأسماء والأفعال والحروف، وأما تمييز المسندات من المسند إليها
والأزمنة، وبدل عليها بتغير إدركات وهو الإعراب وأبنية الكلمات. وهذه كلها هي صناعة
النحو. ويبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات، المحتاجة للدلالة، أحوال المتخاطبين أو
الفاعلين، وما يقتضيه حال الفعل، وهو محتاج إلى الدلالة عليه، لأنه من تمام
الإفادة، وإذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة من كلامه. وإذا لم يشتمل على شيء
منها، فليس من جنس كلام العرب، فإن كلامهم واسع، ولكل مقام عندهم مقال يختص به بعد
كمال الإعراب والإبانة.
ألا ترى أن قولهم: " زيد جاءني " مغاير
لقولهم " جاءني زيد " من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم. فمن قال:
جاءني زيد، أفاد أن اهتمامه بالمجيء، قبل الشخص المسند إليه، ومن قال: زيد جاءني،
أفاد أن اهتمامه بالشخص، قبل المجيء المسند. وكذا التعبير عن أجزاء الجملة، بما
يناسب المقام، من موصول أو مبهم أو معرفة. وكذا تأكيد الإسناد على الجملة، كقولهم:
زيد قائم، وإن زيداً قائم، وإن زيداً لقائم، متغايرة كلها في الدلالة، وإن استوت من
طريق الإعراب، فإن الأول العاري عن التأكيد إنما يفيد الخالي الذهن، والثاني المؤكد
ب إن يفيد المتردد، والثالث يفيد المنكر، فهي مختلفة. وكذلك تقول: جاءني الرجل، ثم
تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه، وأنه رجل لا يعادله أحد
من الرجال. ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية، وهي التي لها خارج تطابقة أولاً،
وإنشائية وهي التي لا خارج لها كالطلب وأنواعه. تم قد يتعين ترك العاطف بين
الجملتين إذ كان للثانية محل من الإعراب: فينزل بذلك منزلة التابع المفرد نعتاً أو
توكيداً أو بدلاً بلا عطف، أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب. ثم
يقتضي المحل الإطناب أو الإيجاز فيورد الكلام عليهما. ثم قد يدل باللفط ولا يراد
منطوقه ويراد لازمه إن كان مفرداً، كما تقول: زيد أسد، فلا تريد حقيقة الأسد
لمنطوقه، وإنما تريد شجاعته اللازمة وتسندها إلى زيد، وتسمى هذه استعارة.
وقد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه، كما تقول: زيد كثير رماد القدور، وتريد به ما لزم ذلك عنه من الجود وقرى الضيف، لأن كثره الرماد ناشئة عنهما، فهي دالة عليهما. وهذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد والمركب، وإنما هي هيئات وأحوال للواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال وهيآت في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه، فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالات التي للهيآت والأحوال والمقامات، وجعل على ثلاثة أصنات: الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيأت والأحوال، التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال، ويسمى علم البلاغة، والصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي وملزومه وهي الاستعارة والكناية كما قلناه ويسمى علم البيان. وألحقوا بهما صنفاً آخر، وهو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق: إما بسجع يفصله، أو تجنيس يشابه بين ألفاظه، أو ترصيع يقطع أوزانه، أو تورية عن المعنى المقصود لإيهام معنى أخفى منه، لاشتراك اللفظ بينهما أو طباق بالتقابل بين الأضداد، وأمثال ذلك، ويسمى عندهم علم البديع.
وقد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه، كما تقول: زيد كثير رماد القدور، وتريد به ما لزم ذلك عنه من الجود وقرى الضيف، لأن كثره الرماد ناشئة عنهما، فهي دالة عليهما. وهذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد والمركب، وإنما هي هيئات وأحوال للواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال وهيآت في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه، فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالات التي للهيآت والأحوال والمقامات، وجعل على ثلاثة أصنات: الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيأت والأحوال، التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال، ويسمى علم البلاغة، والصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي وملزومه وهي الاستعارة والكناية كما قلناه ويسمى علم البيان. وألحقوا بهما صنفاً آخر، وهو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق: إما بسجع يفصله، أو تجنيس يشابه بين ألفاظه، أو ترصيع يقطع أوزانه، أو تورية عن المعنى المقصود لإيهام معنى أخفى منه، لاشتراك اللفظ بينهما أو طباق بالتقابل بين الأضداد، وأمثال ذلك، ويسمى عندهم علم البديع.
وأطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم
البيان، وهو اسم الصنف الثاني، لأن الأقدمين أول ما تكلموا فيه. ثم تلاحقت مسائل
الفن واحدة بعد أخرى، وكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم إملاءات غير
وافية فيها. ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئاً فشيئاً إلى أن مخض السكاكي زبدته وهذب
مسائله ورتب أبوابه، على نحو ما ذكرناه آنفاً من الترتيب، وألف كتابه المسمى
بالمفتاح في النحو والتصريف والبيان، فجعل هذا الفن من بعض أجزائه. وأخذه المتأخرون
من كتابه، ولخصوا منه أمهات هي المتداولة لهذا العهد، كما فعله السكاكي في كتاب
التبيان، وابن مالك في كتاب المصباح، وجلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح
والتلخيص، وهو أصغر حجماً من الإيضاح، والعناية به لهذا العهد، عند أهل المشرق، في
الشرح والتعليم منه أكثر من غيره. وبالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من
المغاربة، وسببه والله أعلم أنه كمالي في العلوم اللسانية، والصنائع الكمالية توجد
في وفور العمران. والمشرق أوفر عمراناً من المغرب كما ذكرناه. أو نقول لعناية العجم
وهم معظم أهل المشرق، كتفسير الزمخشري، وهو كله مبني على هذا الفن وهو أصله. وإنما
اختص بأهل المغرب من أصنافه علم البديع خاصة، وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية،
وفرعوا له ألقاباً وعددوا أبواباً ونوعوا أنواعاً. وزعموا أنهم أحصوها من لسان
العرب، وإنما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ، وأن علم البديع سهل المأخذ.
وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما.
وممن ألف في البديع من أهل إفريقية ابن رشيق، وكتاب العمدة له مشهور. وجرى كثير من
أهل إفريقية والأندلس على منحاه. واعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من
القرآن، لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة، وهي
أعلى مراتب الكمال، مع الكلام فيما يختص بالألفاظ، في انتقائها وجودة رصفها
وتركيبها، وهذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه. وإنما يدرك بعض الشيء منه
من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته، فيدرك من إعجازه على قدر
ذوقه.
فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبلغه أعلى مقاماً في ذلك، لأنهم فرسان الكلام وجهابذته، والذوق عندهم، موجود بأوفر ما يكون وأصحه. وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون، وأكثر تفاسير المتقدمين غفل منه، حتى ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير، وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن، بما يبدي البعض من إعجازه، فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير، لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة. ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة، مع وفور بضاعته من البلاغة. فمن أحكم عقائد السنة وشارك في هذا الفن بعض المشاركة، حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه، أو يعلم أنها بدعة فيعرض عنها ولا تضره في معتقده، فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب، للظفر بشيء من الإعجاز، مع السلامة من البدع والأهواء. والله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل.
علم الأدب
فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبلغه أعلى مقاماً في ذلك، لأنهم فرسان الكلام وجهابذته، والذوق عندهم، موجود بأوفر ما يكون وأصحه. وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون، وأكثر تفاسير المتقدمين غفل منه، حتى ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير، وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن، بما يبدي البعض من إعجازه، فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير، لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة. ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة، مع وفور بضاعته من البلاغة. فمن أحكم عقائد السنة وشارك في هذا الفن بعض المشاركة، حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه، أو يعلم أنها بدعة فيعرض عنها ولا تضره في معتقده، فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب، للظفر بشيء من الإعجاز، مع السلامة من البدع والأهواء. والله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل.
علم الأدب
هذا العلم لا موضوع له، ينظر في إثبات
عوارضه أو نفيها. وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني
المنظوم والمنثور، على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه
تحصل به الكلمة، من شعر عالي الطبقة وسجع متساو في الإجادة ومسائل من اللغة والنحو،
مبثوثة أثناء ذلك، متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع
ذكر بعض من أيام العرب، يفهم به ما يقع في أشعارهم منها. وكذلك ذكر المهم من
الأنساب الشهيرة والأخبار العامة. والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء
من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه، لأنه لا تحصل الملكة من حفظه
إلا بعد فهمه، فيحتاج إلى تقديم جميع مايتوقف عليه فهمه.
ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا:
الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان أو
العلوم الشرعية من حيث متونها فقط، وهي القرآن والحديث. إذ لا مدخل لغير ذلك من
العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من
التورية في أشعارهم وترسلهم بالاصطلاحات العلمية، فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى
معرفة اصطلاحات العلوم، ليكون قائماً على فهمها. وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم
أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب الكامل
للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي.
وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها. وكتب المحدثين في ذلك كثيرة.
وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن، لما هو تابع للشعر، إذ الغناء إنما هو تلحينه. وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به، حرصاً على تحصيل أساليب الشعر وفنونه، فلم يكن انتحاله قادحاً في العدالة والمروءة. وقد ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني وهو ما هو، كتابه في الأغاني، جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم. وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه. ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم، في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأنى له بها. ونحن الآن نرجع بالتحقيق على الإجمال فيما تكلمنا عليه من علوم اللسان. والله الهادي للصواب.
الفصل السادس والأربعون
وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن، لما هو تابع للشعر، إذ الغناء إنما هو تلحينه. وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به، حرصاً على تحصيل أساليب الشعر وفنونه، فلم يكن انتحاله قادحاً في العدالة والمروءة. وقد ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني وهو ما هو، كتابه في الأغاني، جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم. وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه. ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم، في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأنى له بها. ونحن الآن نرجع بالتحقيق على الإجمال فيما تكلمنا عليه من علوم اللسان. والله الهادي للصواب.
الفصل السادس والأربعون
في أن اللغة ملكة صناعية
اعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة،
إذ هي ملكمات في اللسان، للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو
نقصانها. وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب. فإذا حصلت
الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة، للتعبير بها عن المعاني المقصودة، ومراعاة
التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة
مقصوده للسامع، وهذا هو معنى البلاغة. والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن
الفعل يقع أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالاً. ومعنى الحال أنها صفة
غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة.
فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم، يسمع كلام أهل جيله، وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها، فيلقنها أولاً، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك. ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم.
هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل وتعلمها العجم والأطفال.
وهذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم، ولم يأخذوها عن غيرهم. ثم فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم. وسبب فسادها أن الناشىء من الجيل، صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب، فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم، ويسمع كيفيات العرب أيضاً، فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه، فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى. وهذا معنى فساد اللسان العربي.
ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم. ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم. وأما من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة، فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم. وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الأعاجم بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الفصل السابع والأربعون
فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم، يسمع كلام أهل جيله، وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها، فيلقنها أولاً، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك. ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم.
هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل وتعلمها العجم والأطفال.
وهذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم، ولم يأخذوها عن غيرهم. ثم فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم. وسبب فسادها أن الناشىء من الجيل، صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب، فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم، ويسمع كيفيات العرب أيضاً، فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه، فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى. وهذا معنى فساد اللسان العربي.
ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم. ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم. وأما من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة، فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم. وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الأعاجم بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الفصل السابع والأربعون
في أن لغة العرب لهذا العهد لغة
مستقلة
مغايرة للغة مضر ولغة حمير
وذلك أنا نجدها في بيان المقاصد والوفاء
بالدلالة على سنن اللسان المضري، ولم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل
من المفعول، فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد. إلا
أن البيان والبلاغة في اللسان المضري أكثر وأعرق، لأن الألفاظ بأعيانها دالة على
المعاني بأعيانها. ويبقى ما تقتضيه الأحوال ويسمى بساط الحال محتاجاً إلى ما يدل
عليه. وكل معنى لا بد وأن تكتنفه أحوال تخصه، فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية
المقصود لأنها صفاته، وتلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها
بالوضع. وأما في اللسان العربي فإنما يدل عليها بأحوال وكيفيات، في تراكيب الألفاظ
وتأليفها، من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة إعراب. وقد يدل عليها بالحروف غير
المستقلة. ولذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك
الكيفيات كما قدمناه، فكان الكلام العربي لذلك أوجز وأقل ألفاظاً وعبارة من جميع
الألسن.
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً " . واعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر وقد قال له بعض النحاة: " إني أجد في كلام العرب تكراراً في قولهم: زيد قائم، وإن زيداً قائم، وإن زيداً لقائم والمعنى واحد. فقال له: إن معانيها مختلفة، فالأول: لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد، والثاني: لمن سمعه فتردد فيه، والثالث: لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال.
وما زالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد. ولا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق، حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت، وأن اللسان العربي فسد، اعتباراً بما وقع أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه. وهي مقالة دسها التشيع في طباعهم، وألقاها القصور في أفئدتهم ، وإلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى، والتعبير عن المقاصد والتعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد، وأساليب اللسان وفنونه من النظم والنثر موجودة في مخاطباتهم، وفيهم الخطيب المصقع في محافلهم ومجامعهم، والشاعر المفلق على أساليب لغتهم. والذوق الصحيح والطبع السليم شاهدان بذلك. ولم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط، الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة ومهيعاً معروفاً وهو الإعراب، وهو بعض من أحكام اللسان، وإنما وقعت العناية بلسان مضر، لما فسد بمخالطتهم الأعاجم، حين استولوا على ممالك العراق والشام ومصر والمغرب، وصارت ملكته على غير الصورة التي كانت أولاً، فانقلب لغة أخرى.
وكان القرآن منزلاً به والحديث النبوي منقولاً بغته وهما أصلا الدين والملة، فخشي تناسيهما وانغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان الذي تنزلا به، فاحتيج إلى تدوين أحكامه ووضع مقاييسه واستنباط قوانييه. وصار علماً ذا فصول وأبواب ومقدمات ومسائل، سماه أهله بعلم النحو، وصناعة العربية، فأصبح فناً محفوظاً وعلماً مكتوياً وسلماً إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم راقياً. ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد واستقرينا أحكامه، نعتاض عن الحركات الإعرابية التي فسدت في دلالتها بأمور أخرى وكيفيات موجودة فيه، فتكون لها قوانين تخصها. ولعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر، فليست اللغات وملكاتها مجاناً.
ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري وتصاريف كلماته. تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافاً لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة، ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها، كما يزعم بعضهم في اشتقاق " القيل " في اللسان الحميري أنه من القول وكثير من أشباه هذا، وليس ذلك بصحيح. ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها، كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر، إلا أن العناية بلسان مضر، من أجل الشريعة كما قلناه، حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء، وليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك ويدعونا إليه.
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً " . واعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر وقد قال له بعض النحاة: " إني أجد في كلام العرب تكراراً في قولهم: زيد قائم، وإن زيداً قائم، وإن زيداً لقائم والمعنى واحد. فقال له: إن معانيها مختلفة، فالأول: لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد، والثاني: لمن سمعه فتردد فيه، والثالث: لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال.
وما زالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد. ولا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق، حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت، وأن اللسان العربي فسد، اعتباراً بما وقع أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه. وهي مقالة دسها التشيع في طباعهم، وألقاها القصور في أفئدتهم ، وإلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى، والتعبير عن المقاصد والتعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد، وأساليب اللسان وفنونه من النظم والنثر موجودة في مخاطباتهم، وفيهم الخطيب المصقع في محافلهم ومجامعهم، والشاعر المفلق على أساليب لغتهم. والذوق الصحيح والطبع السليم شاهدان بذلك. ولم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط، الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة ومهيعاً معروفاً وهو الإعراب، وهو بعض من أحكام اللسان، وإنما وقعت العناية بلسان مضر، لما فسد بمخالطتهم الأعاجم، حين استولوا على ممالك العراق والشام ومصر والمغرب، وصارت ملكته على غير الصورة التي كانت أولاً، فانقلب لغة أخرى.
وكان القرآن منزلاً به والحديث النبوي منقولاً بغته وهما أصلا الدين والملة، فخشي تناسيهما وانغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان الذي تنزلا به، فاحتيج إلى تدوين أحكامه ووضع مقاييسه واستنباط قوانييه. وصار علماً ذا فصول وأبواب ومقدمات ومسائل، سماه أهله بعلم النحو، وصناعة العربية، فأصبح فناً محفوظاً وعلماً مكتوياً وسلماً إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم راقياً. ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد واستقرينا أحكامه، نعتاض عن الحركات الإعرابية التي فسدت في دلالتها بأمور أخرى وكيفيات موجودة فيه، فتكون لها قوانين تخصها. ولعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر، فليست اللغات وملكاتها مجاناً.
ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري وتصاريف كلماته. تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافاً لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة، ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها، كما يزعم بعضهم في اشتقاق " القيل " في اللسان الحميري أنه من القول وكثير من أشباه هذا، وليس ذلك بصحيح. ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها، كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر، إلا أن العناية بلسان مضر، من أجل الشريعة كما قلناه، حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء، وليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك ويدعونا إليه.
ومما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا
العهد، حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف، فإنهم لا ينطقون بها من مخرج
القاف عند أهل الأمصار، كما هو مذكور في كتب العربية، أنه من أقصى اللسان وما فوقة
من الحنك الأعلى. وما ينطقون بها أيضاً من مخرج الكاف، وإن كان أسفل من موضع القاف
وما يليه من الحنك الأعلى كما هي، بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف والقاف، وهو
موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق، حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم
والأجيال ومختصاً بهم لا يشاركهم فيها غيرهم. حتى إن من يريد التعرب والانتساب إلى
الجيل والدخول فيها يحاكيهم في النطق بها. وعندهم أنه إنما يتميز العربي الصريح من
الدخيل في العروبية والحضري بالنطق بهذه القاف. ويظهر بذلك أنها لغة مضر بعينها،
فإن هذا الجيل الباقين معظمهم ورؤساؤهم شرقاً وغرباً في ولد منصور بن عكرمة بن حصفة
بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور، ومن بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن
هوازن بن منصور. وهم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور وأغلبهم، وهم من أعقاب مضر،
وسائر الجيل معهم من بني كهلان، فى النطق بهذه القاف، أسوة. وهذه اللغة لم يبتدعها
هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة، ويظهر من ذلك أنها لغة مضر الأولين، ولعلها
لغة النبي صلى الله عليه وسلم بعينها. وقد ادعى ذلك فقهاء أهل البيت وزعموا أن من
قرأ في أم القرآن " اهدنا الصراط المستقيم " بغير القاف التي لهذا الجيل فقد لحن
وأفسد صلاتة، ولم أدر من أين جاء هذا، فإن أهل الأمصار أيضاً لم يستحدثوها، وإنما
تناقلوها من لحن سلفهم وكان أكثرهم من مضر لما نزلوا الأمصار من لدن الفتح. وأهل
الجيل أيضاً لم يستحدثوها، إلا أنهم أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار. فهذا
يرجح، فيما يوجد من اللغة لديهم، أنه من لغة سلفهم. هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم
شرقاً وغرباً في النطق بها، وأنها الخاصية التي يتميز بها العربي من الهجين
والحضري. والظاهر أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الجيل العربي البدوي هو من مخرج
القاف عند أولهم من أهل اللغة، وأن مخرج القاف متسع، فأوله من أعلى الحنك وآخره مما
يلي الكاف. فالنطق بها من أعلى الحنك هو لغة الأمصار، والنطق بها مما يلي الكاف هي
لغة هذا الجيل البدوي. وبهذا يندفغ ما قاله أهل البيت من فساد الصلاة بتركها في أم
القرآن، فإن فقهاء الأمصار كلهم على خلاف ذلك. وبعيد أن يكونوا أهملوا ذلك، فوجهه
ما قلناه. نعم نقول إن الأرجح والأولى ما ينطق به أهل الجيل البدوي لأن تواترها
فيهم كما قدمناه، شاهد بأنها لغة الجيل الأول من سلفهم، وأنها لغة النبي صلى الله
عليه وسلم. ويرجح ذلك أيضاً إدغامهم لها في الكاف لتقارب المخرجين. ولو كانت كما
ينطق بها أهل الأمصار من أصل الحنك، لما كانت قريبة المخرج من الكاف، ولم تدغم. ثم
إن أهل العربية قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف، وجهي التي ينطق بها أهل الجيل
البدوي من العرب لهذا العهد، وجعلوها متوسطة بين مخرجي القاف والكاف. على أنها حرف
مستقل، وهو بعيد. والظاهر أنها من آخر مخرج القاف لاتساعه كما قلناه. ثم إنهم
يصرحون باستهجانه واستقباحه كأنهم لم يصح عندهم أنها لغة الجيل الأول. وفيما ذكرناه
من اتصال نطقهم بها، لأنهم إنما ورثوها من سلفهم جيلاً بعد جيل، وأنها شعارهم الخاص
بهم، دليل على أنها لغة ذلك الجيل الأول، ولغة النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم
ذلك كله. وقد يزعم زاعم أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الأمصار ليست من هذا الحرف،
وأنها إنما جاءت من مخالطتهم للعجم، وإنهم ينطقون بها كذلك ، فليست من لغة العرب.
ولكن الأقيس كما قدمناه من أنهما حرف واحد متسع المخرج. فتفهم ذلك. والله الهادي
المبين.
الفصل الثامن والأربعون
الفصل الثامن والأربعون
في أن لغة أهل الحضر
والأمصار..
لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر اعلم أن
عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة، ولا بلغة أهل الجيل، بل
هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا،
وهي عن لغة مضر أبعد.
فأما أنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر، يشهد
له ما فيها من التغاير الذي بعد عن صناعة أهل النحو لحناً. وهي مع ذلك تختلف
باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم، فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب،
وكذا أهل الأندلس معهما، وكل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عما في
نفسه. وهذا معنى اللسان واللغة. وفقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة
العرب لهذا العهد.
وأما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل، فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة. فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد، لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم كما قلناه. وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب ومن الملكة الثانية التي للعجم. فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليه يبعدون عن الملكة الأولى. واعتبر ذلك في أمصار إفريقية والمغرب والاندلس والمشرق. أما إفريقية والمغرب، فخالطت العرب فيها البرابرة من العجبم لوفور عمرانها بهم، ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل، فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم، وصارت لغة أخرى ممتزجة. والعجمة فيها أغلب لما ذكرناه، فهي عن اللسان الأول أبعد. وكذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس والترك فخالطوهم، وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلاحين والسبي الذين اتخذوهم خولاً ودايات وأظآراً ومراضع، ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى. وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة. وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم، تخالف لغة مضر ويخالف أيضاً بعضها بعضاً كما نذكره، وكأنها لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم. والله يخلق ما يشاء ويقدر.
الفصل التاسع والأربعون
وأما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل، فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة. فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد، لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم كما قلناه. وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب ومن الملكة الثانية التي للعجم. فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليه يبعدون عن الملكة الأولى. واعتبر ذلك في أمصار إفريقية والمغرب والاندلس والمشرق. أما إفريقية والمغرب، فخالطت العرب فيها البرابرة من العجبم لوفور عمرانها بهم، ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل، فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم، وصارت لغة أخرى ممتزجة. والعجمة فيها أغلب لما ذكرناه، فهي عن اللسان الأول أبعد. وكذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس والترك فخالطوهم، وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلاحين والسبي الذين اتخذوهم خولاً ودايات وأظآراً ومراضع، ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى. وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة. وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم، تخالف لغة مضر ويخالف أيضاً بعضها بعضاً كما نذكره، وكأنها لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم. والله يخلق ما يشاء ويقدر.
الفصل التاسع والأربعون
في تعلم اللسان المضري
اعلم أن ملكة اللسان المضري، لهذا العهد، قد
ذهبت وفسدت. ولغة أهل الجيل كلهم مغايرة للغة مضر التي نزل بها القرآن، وإنما هي
لغة أخرى من امتزاج العجمة بها كما قدمناه. إلا أن اللغات لما كانت ملكات كما مر
كان تعلمها ممكناً، شأن سائر الملكات. ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم
تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث،
وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضاً في
سائر فنونهم، حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم
ولقن العبارة عن المقاصد منهم، ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب
عباراتهم، وتآليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من آساليبهم وترتيب ألفاظهم، فتحصل له
هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتهما رسوخاً وقوة. ويحتاج مع ذلك إلى
سلامة الطبع والتفهم الحسن لمنازع العرب وأساليبهم في التراكيب ومراعاة التطبيق
بينها وبين مقتضيات الأحوال. والذوق يشهد بذلك، وهو ينشأ ما بين هذه الملكة والطبع
السليم فيهما كما يذكر بعد. وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول
المصنوع نظماً ونثراً. ومن حصل على هذه الملكات، فقد حصل على لغة مضر، وهو الناقد
البصير بالبلاغة فيها، وهكذا ينبغي أن يكون تعلمها. والله يهدي من يشاء بفضله
وكرمه.
الفصل الخمسون
الفصل الخمسون
في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة
العربية
ومستغنية عنها في التعليم والسبب في ذلك أن
صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة. فهوعلم بكيفية، لا
نفس كيفية. فليست نفس الملكة، إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً، ولا
يحكمها عملاً. مثل أن يقول بصير بالخياطة، غير محكم لملكتها، في التعبير عن بعض
أنواعها: الخياطة هي أن تدخل الخيط، في خرت الإبرة، ثم تغرزها في لفقي الثوب
مجتمعين، وتخرجها من الجانب الأخر بمقدار كذا، ثم تردها إلى حيث ابتدأت، وتخرجها
قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين، ثم يتمادى على وصفه إلى آخر
العمل، ويعطي صورة الحبك والتنبيت والتفتيح وسائر أنواع الخياطة وأعمالها. وهو إذا
طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئاً.
وكذا لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب
فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه، وآخر قبالتك ممسك بطرفه
الآخر وتتعاقبانه بينكما، وأطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة وجائية،
إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة. وهو لو طولب بهذا العمل أوشيء منه لم يحكمه.
وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها، فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل. وكذلك تجد كثيراً من جهابذة النحاة، والمهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين، إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو في مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده، أخطأ فيها الصواب وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود فيه على أساليب اللسان العربي. وكذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئاً من قوانين صناعة العربية.
فمن هنا يعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية، وأنها مستغنية عنها بالجملة. وقد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيراً بحال هذه الملكة، وهو قليل واتفاقي، وأكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبويه. فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط، بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة، فتجد العاكف عليه والمحصل له، تد حصل على خط من كلام العرب واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته. وتنبه به لشأن الملكة، فاستوفى تعليمها، فكان أبلغ في الإفادة.
ومن هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه من يغفل عن التفطن لهذا، فيحصل على علم اللسان صناعة ولا يحصل عليه ملكة. وأما المخالطون لكتب المتأخرين العارية من ذلك، إلا من القوانين النحوية، مجردة عن أشعار العرب وكلامهم، فقلما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو يتنبهون لشأنها، فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب، وهم أبعد الناس عنه. وأهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة وتعليمها ممن سواهم، لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم، والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم، فيسبق إلى المبتدىء كثير من الملكة أثناء التعليم، فتنطبع النفس بها وتستعد إلى تحصيلها وقبولها.
وأما من سواهم من أهل المغرب وإفريقية وغيرهم، فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً، وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب، إلا إن أعربوا شاهداً أو رجحوا مذهباً، من جهة الاقتضاء الذهني، لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه. فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللسان وملكته وأفاد ذلك حملتها في هذه الأمصار وآفاقها البعد عن الملكة بالكلية، وكأنهم لا ينظرون في كلام العرب. وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتراكيبه وتمييز أساليبه، وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم، فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللسان. وتلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم، لكنهم أجروها على غير ما قصد بها، وأصاروها علماً بحتاً وبعدوا عن ثمرتها. وتعلم ما قررناه في هذا الباب، أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هوعليه. ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم، حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم. والله مقدر الأمور كلها، والله أعلم بالغيب.
الفصل الحادي والخمسون
وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها، فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل. وكذلك تجد كثيراً من جهابذة النحاة، والمهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين، إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو في مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده، أخطأ فيها الصواب وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود فيه على أساليب اللسان العربي. وكذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئاً من قوانين صناعة العربية.
فمن هنا يعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية، وأنها مستغنية عنها بالجملة. وقد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيراً بحال هذه الملكة، وهو قليل واتفاقي، وأكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبويه. فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط، بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة، فتجد العاكف عليه والمحصل له، تد حصل على خط من كلام العرب واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته. وتنبه به لشأن الملكة، فاستوفى تعليمها، فكان أبلغ في الإفادة.
ومن هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه من يغفل عن التفطن لهذا، فيحصل على علم اللسان صناعة ولا يحصل عليه ملكة. وأما المخالطون لكتب المتأخرين العارية من ذلك، إلا من القوانين النحوية، مجردة عن أشعار العرب وكلامهم، فقلما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو يتنبهون لشأنها، فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب، وهم أبعد الناس عنه. وأهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة وتعليمها ممن سواهم، لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم، والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم، فيسبق إلى المبتدىء كثير من الملكة أثناء التعليم، فتنطبع النفس بها وتستعد إلى تحصيلها وقبولها.
وأما من سواهم من أهل المغرب وإفريقية وغيرهم، فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً، وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب، إلا إن أعربوا شاهداً أو رجحوا مذهباً، من جهة الاقتضاء الذهني، لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه. فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللسان وملكته وأفاد ذلك حملتها في هذه الأمصار وآفاقها البعد عن الملكة بالكلية، وكأنهم لا ينظرون في كلام العرب. وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتراكيبه وتمييز أساليبه، وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم، فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللسان. وتلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم، لكنهم أجروها على غير ما قصد بها، وأصاروها علماً بحتاً وبعدوا عن ثمرتها. وتعلم ما قررناه في هذا الباب، أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هوعليه. ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم، حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم. والله مقدر الأمور كلها، والله أعلم بالغيب.
الفصل الحادي والخمسون
في تفسير لفظة الذوق
في مصطلح أهل البيان وتحقيق معناه وبيان
أنها لا تحصل غالباً للمستعربين من العجم
اعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون
البيان، ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان. وقد مر تفسير البلاغة، وأنها مطابقة
الكلام للمعنى من جميع وجوهه، بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك. فالمتكلم بلسان
العرب والبليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك، على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم،
وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده، فإذا اتصلت معاناته لذلك بمخالطة كلام العرب،
حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه، وسهل عليه أمر التركيب، حتى لا يكاد
ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب، وإن سمع تركيباً غير جارى على ذلك المنحى،
مجه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل وبغير فكر، إلا بما استفاده من حصول هذه الملكة.
فإن الملكات إذا استقرت ورسخت في محالها ظهر كأنها طبيعة وجبلة لذلك المحل. ولذلك
يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات، أن الصواب للعرب في لغتهم إعراباً
وبلاغة أمر طبيعي. ويقول: كانت العرب تنطق بالطبع وليس كذلك، وإنما هي ملكة لسانية
في نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهرت في بادىء الرأي أنها جبلة وطبع.
وهنه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة البيان فإن هذه القوانين إنما تفيد علماً بذلك اللسان، ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها، وقد مر ذلك. وإذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم وحسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم. ولو رام صاحب هذه الملكة حيداً عن هذه السبيل المعينة والتراكيب المخصوصة، لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه، لأنه لا يعتاده ولا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده. وإذا عرض عليه الكلام، حائداً عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه، وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم. وإنما يعجز عن الاحتجاج بذلك، كما تصنع أهل القوانين النحوية والبيانية، فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء. وهذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب، حتى يصير كواحد منهم.
وهنه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة البيان فإن هذه القوانين إنما تفيد علماً بذلك اللسان، ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها، وقد مر ذلك. وإذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم وحسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم. ولو رام صاحب هذه الملكة حيداً عن هذه السبيل المعينة والتراكيب المخصوصة، لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه، لأنه لا يعتاده ولا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده. وإذا عرض عليه الكلام، حائداً عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه، وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم. وإنما يعجز عن الاحتجاج بذلك، كما تصنع أهل القوانين النحوية والبيانية، فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء. وهذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب، حتى يصير كواحد منهم.
ومثاله: لو فرضنا صبياً من صبيانهم، نشأ
وربي في جيلهم، فإنه يتعلم لغتهم ويحكم شأن الإعراب والبلاغة فيها، حتى يستولي على
غايتها. وليس من العلم القانوني في شيء، وإنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونطقه.
وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل، بحفظ كلامهم وأشعارهم وخطبهم والمداومة
على ذلك، بحيث يحصل الملكة ويصير كواحد ممن نشأ في جيلهم وربي بين أحيائهم.
والقوانين بمعزل عن هذا. واستعير لهذه الملكة، عندما ترسخ وتستقر، اسم الذوق الذي
اصطلح عليه أهل صناعة البيان والذوق إنما هو موضوع لإدراك الطعوم. لكن لما كان محل
هذه الملكة في اللسان، من حيث النطق بالكلام، كما هو محل لإدراك الطعوم، استعير لها
اسمه. وأيضاً فهو وجداني اللسان، كما أن الطعوم محسوسة له، فقيل له ذوق. وإذا تبين
لك ذلك، علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى
النطق به لمخالطة أهله، كالفرس والروم والترك بالمشرق وكالبربر بالمغرب، فإنه لا
يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها، لأن قصاراهم بعد
طائفة من العمر وسبق ملكة أخرى إلى اللسان، وهي لغاتهم، أن يعتنوا بما يتداوله أهل
المصر بينهم في المحاورة من مفرد ومركب، لما يضطرون إليه من ذلك. وهذه الملكة قد
ذهبت لأهل الأمصار، وبعدوا عنها كما تقدم. وإنما لهم في ذلك ملكة أخرى وليست هذ
ملكة اللسان المطلوبة. ومن عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب،
فليس من تحصيل الملكة في شيء، إنما حصل أحكامها كما عرفت. وإنما تحصل هذه الملكة
بالممارسة والاعتياد والتكرر لكلام العرب. فإن عرض لك ما تسمعه، من أن سيبويه
والفارسي والزمخشري وأمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاماً مع حصول هذه الملكة
لهم، فاعلم أن أإولئك القوم الذين نسمع عنهم إنما كانوا عجماً في نسبهم فقط. أما
المربى والنشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب ومن تعلمها منهم، فاستولوا بذلك
من الكلام على غاية لا وراءها، وكأنهم في أول نشأتهم بمنزلة الأصاغر من العرب الذين
نشأوا في أجيالهم، حتى أدركوا كنه اللغة وصاروا من أهلها. فهم وإن كانوا عجماً في
النسب فليسوا بأعاجم في اللغة والكلام، لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها واللغة في
شبابها، ولم تذهب آثار الملكة منها ولا من أهل الأمصار. ثم عكفوا على الممارسة
والمدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته.
واليوم الواحد من العجم، إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار، فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار. ويجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي. ثم إذا فرضنا أنه أقبل على الممارسة لكلام العرب وأشعارهم بالمدارسة والحفظ ليستفيد تحصيلها، فقل أن يحصل له ما قدمناه من أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل، فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة. وإن فرضنا عجمياً في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية، وذهب إلى تعلم هذه الملكة بالحفظ والمدارسة، فربما يحصل له ذلك، لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر. وربما يدعي كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها، وهو غلط أو مغالطة، وإنما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانية، وليست من ملكة العبارة في شيء. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الثاني والخمسون
واليوم الواحد من العجم، إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار، فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار. ويجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي. ثم إذا فرضنا أنه أقبل على الممارسة لكلام العرب وأشعارهم بالمدارسة والحفظ ليستفيد تحصيلها، فقل أن يحصل له ما قدمناه من أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل، فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة. وإن فرضنا عجمياً في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية، وذهب إلى تعلم هذه الملكة بالحفظ والمدارسة، فربما يحصل له ذلك، لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر. وربما يدعي كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها، وهو غلط أو مغالطة، وإنما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانية، وليست من ملكة العبارة في شيء. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الثاني والخمسون
في أن أهل الأمصار على الإطلاق
قاصرون
في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد
بالتعليم ومن كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب وأعسر والسبب في
ذلك ما يسبق إلى المتعلم، من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة، بما سبق إليه من
اللسان الحضري الذي أفادتة العجمة، حتى نزل بها اللسان عن ملكته الأولى إلى ملكة
أخرى هي لغة الحضر لهذا العهد ولهذا نجد المعلمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم
اللسان للولدان. وتعتقد النحاة أن هذه المسابقة بصناعتهم، وليس كذلك، وإنما هي
بتعليم هذه الملكة بمخالطة اللسان وكلام العرب. نعم صناعة النحو أقرب إلى مخالطة
ذلك. وما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة وأبعد عن لسان مضر قصر بصاحبه عن
تعلم اللغة المصرية وحصول ملكتها لتمكن المنافاة حينئذ. واعتبر ذلك في أهل الأمصار.
فأهل إفريقية والمغرب لما كانوا أعرق في
العجمة وأبعد عن اللسان الأول، كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم. ولقد نقل
ابن الرقيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له: يا أخي ومن لا عدمت فقده، أعلمني
أبو سعيد كلاماً أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي، وعاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا
الخروج. وأما أهل المنزل الكلاب من أمير الشين فقد كذبوا هذا باطلاً، ليس من هذا
حرفاً واحداً. وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله. وهكذا كانت ملكتهم في
اللسان المضري، وسببه ما ذكرنا.
وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة، ولم تزل كذلك، لهذا العهد. ولهذا ما كان لإفريقية من مشاهير الشعراء، إلا ابن رشيق وابن شرف. وأكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها، ولم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن مائلة إلى القصور. وأهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة، بكثرة معاناتها وامتلائهم من المحفوظات اللغوية نظماً ونثراً. وكان فيهم ابن حيان المؤرخ إمام أهل الصناعة في هذه الملكة ورافع الراية لهم فيها، وابن عبد ربه والقسطلي وأمثالهم من شعراء ملوك الطوائف، لما زخرت فيها بحار اللسان والأدب وتداول ذلك فيهم مئين من السنين، حتى كان الانفضاض والجلاء أيام تغلب النصرانية. وشغلوا عن تعلم ذلك، وتناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها، فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض.
وكان من آخرهم صالح بن شريف، ومالك بن المرحل من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة وكانت دولة بني الأحمر في أولها، وألقت الأندلس أفلاذ كبدها، من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة، من عدوة إشبيلية إلى سبتة، ومن شرق الأندلس إلى إفريقية. ولم يلبثوا إلى أن انقرضوا وانقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة، لعسر قبول العدوة لها وصعوبتها عليهم، بعوج ألسنتهم ورسوخهم في العجمة البربرية، وهي منافية لما قلناه.
ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلس كما كانت، ونجم بها ابن سيرين وابن جابر وابن الجياب وطبقتهم، ثم إبراهيم الساحلي الطويجن وطبقتة، وقفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيداً بسعاية أعدائه. وكان له في اللسان ملكة لا تدرك واتبع أثره تلميذه من بعده. وبالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر، وتعليلها أيسر وأسهل، بما هم عليه لهذا العهد كما قدمناة من معاناة علوم اللسان ومحافظتهم عليها وعلى علوم الأدب وسند تعليمها. ولأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم. وليست عجمتهم أصلاً للغة أهل الأندلس والبربر في هذه العدوة، وهم أهلها ولسانهم لسانها إلا في الأمصار فقط. وهم فيها منغمسون في بحر عجمتهم ورطانتهم البربرية، فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم بخلاف أهل الاندلس. واعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية والعباسية، فكان شأنهم شأن أهل الأنذلس في تمام هذه الملكة وإجادتها، لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم ومخالطتهم إلا في القليل. فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم، وكان فحول الشعراء والكئاب لعهدهم أوفر لتوفر العرب وأبنائهم بالمشرق.
وانظر ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم ونثرهم، فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم، وفيه لغتهم وأخبارهم وأيامهم، وملتهم العربية وسير نبيهم صلى الله عليه وسلم وآثار خلفائهم وملوكهم، وأشعارهم وغناؤهم وسائر مغانيهم له، فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب. وبقي أمر هذه الملكة مستحكماً في المشرق في الدولتين، وربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم ممن كان في الجاهلية كما نذكره بعد. حتى تلاشى أمر العرب ودرلست لغتهم وفسد كلامهم وانقضى أمرهم ودولتهم، وصار الأمر للأعاجم والملك في أيديهم والتغلب لهم. وذلك في دولة الديلم والسلجوقية. وخالطوا أهل الأمصار وكثروهم فامتلأت الأرض بلغاتهم، واستولت العجمة على أهل الأمصار والحواضر حتى بعدوا عن اللسان العربي وملكته، وصار متعلمها منهم مقصراً عن تحصيلها. وعلى ذلك نجد لسانهم لهذا العهد في فني المنظوم والمنثور، وإن كانوا مكثرين منه. والله يخلق ما يشاء ويختار، والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق لا رب سواه.
الفصل الثالث والخمسون
وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة، ولم تزل كذلك، لهذا العهد. ولهذا ما كان لإفريقية من مشاهير الشعراء، إلا ابن رشيق وابن شرف. وأكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها، ولم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن مائلة إلى القصور. وأهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة، بكثرة معاناتها وامتلائهم من المحفوظات اللغوية نظماً ونثراً. وكان فيهم ابن حيان المؤرخ إمام أهل الصناعة في هذه الملكة ورافع الراية لهم فيها، وابن عبد ربه والقسطلي وأمثالهم من شعراء ملوك الطوائف، لما زخرت فيها بحار اللسان والأدب وتداول ذلك فيهم مئين من السنين، حتى كان الانفضاض والجلاء أيام تغلب النصرانية. وشغلوا عن تعلم ذلك، وتناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها، فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض.
وكان من آخرهم صالح بن شريف، ومالك بن المرحل من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة وكانت دولة بني الأحمر في أولها، وألقت الأندلس أفلاذ كبدها، من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة، من عدوة إشبيلية إلى سبتة، ومن شرق الأندلس إلى إفريقية. ولم يلبثوا إلى أن انقرضوا وانقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة، لعسر قبول العدوة لها وصعوبتها عليهم، بعوج ألسنتهم ورسوخهم في العجمة البربرية، وهي منافية لما قلناه.
ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلس كما كانت، ونجم بها ابن سيرين وابن جابر وابن الجياب وطبقتهم، ثم إبراهيم الساحلي الطويجن وطبقتة، وقفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيداً بسعاية أعدائه. وكان له في اللسان ملكة لا تدرك واتبع أثره تلميذه من بعده. وبالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر، وتعليلها أيسر وأسهل، بما هم عليه لهذا العهد كما قدمناة من معاناة علوم اللسان ومحافظتهم عليها وعلى علوم الأدب وسند تعليمها. ولأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم. وليست عجمتهم أصلاً للغة أهل الأندلس والبربر في هذه العدوة، وهم أهلها ولسانهم لسانها إلا في الأمصار فقط. وهم فيها منغمسون في بحر عجمتهم ورطانتهم البربرية، فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم بخلاف أهل الاندلس. واعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية والعباسية، فكان شأنهم شأن أهل الأنذلس في تمام هذه الملكة وإجادتها، لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم ومخالطتهم إلا في القليل. فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم، وكان فحول الشعراء والكئاب لعهدهم أوفر لتوفر العرب وأبنائهم بالمشرق.
وانظر ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم ونثرهم، فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم، وفيه لغتهم وأخبارهم وأيامهم، وملتهم العربية وسير نبيهم صلى الله عليه وسلم وآثار خلفائهم وملوكهم، وأشعارهم وغناؤهم وسائر مغانيهم له، فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب. وبقي أمر هذه الملكة مستحكماً في المشرق في الدولتين، وربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم ممن كان في الجاهلية كما نذكره بعد. حتى تلاشى أمر العرب ودرلست لغتهم وفسد كلامهم وانقضى أمرهم ودولتهم، وصار الأمر للأعاجم والملك في أيديهم والتغلب لهم. وذلك في دولة الديلم والسلجوقية. وخالطوا أهل الأمصار وكثروهم فامتلأت الأرض بلغاتهم، واستولت العجمة على أهل الأمصار والحواضر حتى بعدوا عن اللسان العربي وملكته، وصار متعلمها منهم مقصراً عن تحصيلها. وعلى ذلك نجد لسانهم لهذا العهد في فني المنظوم والمنثور، وإن كانوا مكثرين منه. والله يخلق ما يشاء ويختار، والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق لا رب سواه.
الفصل الثالث والخمسون
في انقسام الكلام إلى فني النظم
والنثر
اعلم أن لسان العرب وكلامهم على فنين في
الشعر المنظوم، وهو الكلام الموزون المقفى ومعناه الذي تكون أوزانه كلها على روي
واحد وهو القافية. وفي النثر وهو الكلام غير الموزون، وكل واحد من الفنين يشتمل على
فنون ومذاهب في الكلام. فأما الشعر، فمنه المدح والهجاء والرثاء. وأما النثر فمنه
السجع الذي يؤتى به قطعاً، ويلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة يسمى سجعاً، ومنه
المرسل، وهو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقاً ولا يقطع أجزاء، بل يرسل إرسالاً من غير
تقييد بقافية ولا غيرها. ويستعمل في الخطب والدعاء وترغيب الجمهور
وترهيبهم.
وأما القرآن وإن كان من المنثور إلا أنه خارخ عن الوصفين وليس يسمى مرسلاً مطلقًا ولا مسجعاً. بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها. ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها، ويثنى من غير التزام حرف يكون سجعاً ولا قافية، وهو معنى قوله تعالى: " الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم " وقال: " قد فصلنا الآيات " . وتسمى آخر الآيات فيه فواصل، إذ ليست أسجاعاً، ولا التزم فيها ما يلتزم في السجع، ولا هي أيضاً قواف. واطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلها على العموم لما ذكرناه، واختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا، ولهذا سميت السبع المثاني.
وانظر هذا ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني، يشهد لك الحق برحجان ما قلناه.
واعلم أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله لا تصلح للفن الآخر، ولا تستعمل فيه، مثل النسيب المختص بالشعر، والحمد والدعاء المختص بالخطب، والدعاء المختص بالمخاطبات وأمثال ذلك. وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينة في المنثور من كثرة الأسجاع، والتزام التقفية وتقديم النسيب بين يدي الأغراض. وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه، ولم يفترقا إلا في الوزن. واستمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة واستعملوها في المخاطبات السلطانية، وقصروا الاستعمال في هذا المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه، وخلطوا الأساليب فيه، وهجروا المرسل وتناسوه وخصوصاً أهل المشرق. وصارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جارية على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه، وهو غير صواب من جهة البلاغة، لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال، من أحوال المخاطب والمخاطب.
وهذا الفن المنثور المقفى أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر، فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه، إذ أساليب الشعر تباح فيها اللوذعية وخلط الجد بالهزل، والإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التشبيهات والاستعارات، حيث لا تدعو لذلك كله ضرورة في الخطاب. والتزام التقفية أيضاً من اللوذعة والتزيين وجلال الملك والسلطان، وخطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب والترهيب ينافي ذلك ويباينه. والمحمود في المخاطبات السلطانية الترسل، وهو إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر. وحيث ترسله الملكة إرسالاً من غير تكلف له، ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فإن المقامات مختلفة، ولكل مقام أسلوب يخصه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة وكناية واستعارة.
وأما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم، وما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم، وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوته. وولعوا بهذا المسجع، يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود، ومقتضى الحال فيه. ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالإسجاع والألقاب البديعية، ويغفلون عما سوى ذلك. وأكثر من أخذ بهذا الفن وبالغ فيه في سائر أنحاء كلامهم كتاب المشرق وشعراؤه لهذا العهد، حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات والتصريف، إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة، لا يجتمعان معها، فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس. ويدعون الإعراب ويفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس. فتأمل ذلك وانتقد بما قدمناه لك، تقف على صحة ما ذكرناه. والله الموفق للصواب، بمنه وكرمه، والله تعالى أعلم.
الفصل الرابع والخمسون
وأما القرآن وإن كان من المنثور إلا أنه خارخ عن الوصفين وليس يسمى مرسلاً مطلقًا ولا مسجعاً. بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها. ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها، ويثنى من غير التزام حرف يكون سجعاً ولا قافية، وهو معنى قوله تعالى: " الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم " وقال: " قد فصلنا الآيات " . وتسمى آخر الآيات فيه فواصل، إذ ليست أسجاعاً، ولا التزم فيها ما يلتزم في السجع، ولا هي أيضاً قواف. واطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلها على العموم لما ذكرناه، واختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا، ولهذا سميت السبع المثاني.
وانظر هذا ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني، يشهد لك الحق برحجان ما قلناه.
واعلم أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله لا تصلح للفن الآخر، ولا تستعمل فيه، مثل النسيب المختص بالشعر، والحمد والدعاء المختص بالخطب، والدعاء المختص بالمخاطبات وأمثال ذلك. وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينة في المنثور من كثرة الأسجاع، والتزام التقفية وتقديم النسيب بين يدي الأغراض. وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه، ولم يفترقا إلا في الوزن. واستمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة واستعملوها في المخاطبات السلطانية، وقصروا الاستعمال في هذا المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه، وخلطوا الأساليب فيه، وهجروا المرسل وتناسوه وخصوصاً أهل المشرق. وصارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جارية على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه، وهو غير صواب من جهة البلاغة، لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال، من أحوال المخاطب والمخاطب.
وهذا الفن المنثور المقفى أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر، فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه، إذ أساليب الشعر تباح فيها اللوذعية وخلط الجد بالهزل، والإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التشبيهات والاستعارات، حيث لا تدعو لذلك كله ضرورة في الخطاب. والتزام التقفية أيضاً من اللوذعة والتزيين وجلال الملك والسلطان، وخطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب والترهيب ينافي ذلك ويباينه. والمحمود في المخاطبات السلطانية الترسل، وهو إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر. وحيث ترسله الملكة إرسالاً من غير تكلف له، ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فإن المقامات مختلفة، ولكل مقام أسلوب يخصه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة وكناية واستعارة.
وأما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم، وما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم، وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوته. وولعوا بهذا المسجع، يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود، ومقتضى الحال فيه. ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالإسجاع والألقاب البديعية، ويغفلون عما سوى ذلك. وأكثر من أخذ بهذا الفن وبالغ فيه في سائر أنحاء كلامهم كتاب المشرق وشعراؤه لهذا العهد، حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات والتصريف، إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة، لا يجتمعان معها، فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس. ويدعون الإعراب ويفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس. فتأمل ذلك وانتقد بما قدمناه لك، تقف على صحة ما ذكرناه. والله الموفق للصواب، بمنه وكرمه، والله تعالى أعلم.
الفصل الرابع والخمسون
في أنه لا تتفق الإجادة..
في فني المنظوم والمنثور معاً إلا للأقل
والسبب في ذلك أنه كما بيناه ملكة في اللسان، فإذا سبقت إلى محله ملكة أخرى، قصرت
بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة. لأن قبول الملكات وحصولها للطبائع التي على الفطرة
الأولى أسهل وأيسر. وإذا تقدمتها ملكة أخرى كانت منازعة لها في المدة القابلة
وعائقة عن سرعة القبول، فوقعت المنافاة وتعذر التمام في الملكة. وهذا موجود في
الملكات الصناعية كلها على الإطلاق. وقد برهنا عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان.
فاعتبر مثله في اللغات، فإنها ملكات اللسان، وهي بمنزلة الصناعة. وانظر من تقدم له
شيء، من العجمة، كيف يكون قاصراً في اللسان العربي أبداً. فالأعجمي الذي سبقت له
اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة اللسان العربي، ولا يزال قاصراً فيه ولو تعلمة
وعلمه. وكذا البربري والرومي الإفرنجي قل أن تجد أحداً منهم محكماً لملكة اللسان
العربي. وما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر، حتى إن طالب العلم
من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي ومن كتبهم جاء مقصراً في معارفه
عن الغاية والتحصيل، وما أتى إلا من قبل اللسان. وقد تقدم لك من قبل أن الألسن
واللغات شبيهة بالصنائع. وقد تقدم لك أن الصنائع وملكاتها لا تزدحم. وإن من سبقت له
إجادة في صناعة فقل أن يجيد أخرى أو يستولي فيها على الغاية. والله خلقكم وما
تعلمون.
الفصل الخامس والخمسون
الفصل الخامس والخمسون
في صناعة الشعر ووجه تعلمه
هذا الفن من فنون كلام العرب وهو المسمى
بالشعر عندهم، ويوجد في سائر اللغات، إلا أنا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب.
فإن أمكن أن يجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم، وإلا فلكل لسان أحكام في
البلاغة تخصه. وهو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى، إذ هو كلام مفصل قطعاً
قطعاً، متساوية في الوزن، متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة. وتسمى كل قطعة من هذه
القطعات عندهم بيتاً، ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رؤياً وقافية، ويسمى جملة
الكلام إلى آخره قصيدة وكلمة. وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه، حتى كأنه كلام
وحده، مستقل عما قبله وما بعده. وإذا أفرد كان تاماً في بابه في مدح أو نسيب أو
رثاء، فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته. ثم يستأنف في البيت
الآخر كلاماً آخر كذلك، ويسترد للخروج من فن إلى فن ومن مقصود إلى مقصود، بأن يوطىء
المقصود الأول ومعانيه، إلى أن يناسب المقصود الثاني، ويبعد الكلام عن التنافر. كما
يستطرد من النسيب إلى المدح، ومن وصف البيداء والطلول، إلى وصف الركاب أو الخيل أو
الطيف، ومن وصف الممدوح إلى وصف قومه وعساكره، ومن التفجع والعزاء في الرثاء إلى
التأبين وأمثال ذلك.
ويراعى فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد، حذراً من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه. فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس. ولهذه الموازين شروط وأحكام تضمنها علم العروض. وليس كل وزن يتفق في الطبع استعملتة العرب في هذا الفن، وإنما هي أوزان مخصوصة يسميها أهل تلك الصناعة البحور. وقد حصروها في خمسة عشر بحراً، بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظماً.
واعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفاً عند العرب، ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلاً يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم. وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن ملكاتهم كلها. والملكات اللسانية كلها إنما تكتسب بالصناعة والارتياض في كلامهم، حتى يحصل شبه في تلك الملكة.
ويراعى فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد، حذراً من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه. فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس. ولهذه الموازين شروط وأحكام تضمنها علم العروض. وليس كل وزن يتفق في الطبع استعملتة العرب في هذا الفن، وإنما هي أوزان مخصوصة يسميها أهل تلك الصناعة البحور. وقد حصروها في خمسة عشر بحراً، بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظماً.
واعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفاً عند العرب، ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلاً يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم. وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن ملكاتهم كلها. والملكات اللسانية كلها إنما تكتسب بالصناعة والارتياض في كلامهم، حتى يحصل شبه في تلك الملكة.
والشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على
من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين، لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في
مقصوده، ويصلح أن ينفرد دون ما سواه، فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك
الملكة، حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر
العرب، ويبرزه مستقلاً بنفسه. ثم يأتي ببيت آخر كذلك، ثم ببيت أخر، ويستكمل الفنون
الوافية بمقصوده. ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض بحسب اختلاف الفنون
التي في القصيدة. ولصعوبة منحاه وغرابة فنه كان محكاً للقرائح في استجاده أساليبه،
وشحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه. ولا تكفي فيه ملكة الكلام العربي على
الإطلاق، بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصتة العرب
بها وباستعمالها فيه.
ولنذكر هنا مدلول لفظة الأسلوب عند أهل هذه الصناعة وما يريدون بها في إطلاقهم. فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب، أو القالب الذي يفرغ فيه. ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته كمال المعنى الذي هو وظيفة الإعراب، ولا باعتبار إفادته أصل المعنى من خواص التراكيب، الذي هو وظيفة البلاغة والبيان، ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية، وإنما ترجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص. وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان، فيرضها فيه رضاً، كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال، حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام، ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه، كان لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد فيه على أنحاء مختلفة، فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله:
يا دار مية بالعلياء فالسند.
وبكون باستدعاء الصحب للوقوف والسؤال كقوله:
قفا نسأل الدار التي خف أهلها.
أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله:
ألم تسأل فتخبرك الرسوم.
ومثل تحية الطلول بالأمير لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله:
حي الديار بجانب الغزل.
أو بالدعاء لها بالسقيا كقوله:
أسفي طلولهم أجش هذيم … وغدت عليهم نضرة ونعيم
أو بسؤال السقيا لها من البرق كقوله:
يا برق طالع منزلاً بالأبرق … واحد السحاب لها حداء الأينق
أو مثل التفجع في الرثاء باستدعاء البكاء كقوله:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر … فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
أو باستعظام الحادث كقوله:
أرأيت من حملوا على الأعواد … أرأيت كيف خبا ضياء النادي
أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله:
منابت العشب لاحام ولا راع … مضى الردى بطويل الرمح والباع
أو بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية:
أياشجر الخابور مالك مورقاً … كأنك لم تجزع على ابن طريف
أو بتهنئة قريعه بالراحة من ثقل وطأته كقوله:
ألق الرماح ربيعة بن نزار … أوس الردى بقريعك المغوار
ولنذكر هنا مدلول لفظة الأسلوب عند أهل هذه الصناعة وما يريدون بها في إطلاقهم. فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب، أو القالب الذي يفرغ فيه. ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته كمال المعنى الذي هو وظيفة الإعراب، ولا باعتبار إفادته أصل المعنى من خواص التراكيب، الذي هو وظيفة البلاغة والبيان، ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية، وإنما ترجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص. وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان، فيرضها فيه رضاً، كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال، حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام، ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه، كان لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد فيه على أنحاء مختلفة، فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله:
يا دار مية بالعلياء فالسند.
وبكون باستدعاء الصحب للوقوف والسؤال كقوله:
قفا نسأل الدار التي خف أهلها.
أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله:
ألم تسأل فتخبرك الرسوم.
ومثل تحية الطلول بالأمير لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله:
حي الديار بجانب الغزل.
أو بالدعاء لها بالسقيا كقوله:
أسفي طلولهم أجش هذيم … وغدت عليهم نضرة ونعيم
أو بسؤال السقيا لها من البرق كقوله:
يا برق طالع منزلاً بالأبرق … واحد السحاب لها حداء الأينق
أو مثل التفجع في الرثاء باستدعاء البكاء كقوله:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر … فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
أو باستعظام الحادث كقوله:
أرأيت من حملوا على الأعواد … أرأيت كيف خبا ضياء النادي
أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله:
منابت العشب لاحام ولا راع … مضى الردى بطويل الرمح والباع
أو بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية:
أياشجر الخابور مالك مورقاً … كأنك لم تجزع على ابن طريف
أو بتهنئة قريعه بالراحة من ثقل وطأته كقوله:
ألق الرماح ربيعة بن نزار … أوس الردى بقريعك المغوار
وأمثال ذلك كثير في سائر فنون الكلام
ومذاهبه. وتنتظم التراكيب فيه بالجمل وغير الجمل، إنشائية وخبرية، أسمية أو فعلية،
متفقة وغير متفقة، مفصولة وموصولة، على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي، في
مكان كل كلمة من الأخرى. يعرفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب، من القالب
الكلي المجرد في الذهن، من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها. فإن
مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج، والصورة الذهنية المنطبقة، كالقالب الذي يبني
فيه أو المنوال الذي ينسج عليه. فإن خرج عن القالب في بنائه أو على المنوال في نسجه
كان فاسداً. ولا تقولن إن حرفة قوانين البلاغة كافية في ذلك، لأنا نقول: قوانين
البلاغة إنما هي قواعد علمية قياسية، تفيد جواز استعمال التراكيب على هيأتها الخاصة
بالقياس. وهو قياس علمي صحيح مطرد، كما هو قياس القوانين الإعرابية. وهذه الأساليب
التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء، إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبع
التراكيب في شعر العرب جريانها على اللسان، حتى تستحكم صورتها، فيستفيد بها العمل
على مثالها والاحتذاء، في كل تركيب من الشعر كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق. وإن
القوانين العلمية من العربية والبيان لايفيد تعليمه بوجه. وليس كل ما يصح في قياس
كلام العرب وقوانينه االعلمية استعملوه. وإنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة
يطلع عليها الحافظون كلامهم، تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية. فإذا نظر في
شعر العرب على هذا النحو، وبهذه الأساليب الذهنية، التي تصير كالقوالب، كان نظراً
في المستعمل من تراكيبهم، لا فيما يقتضيه القياس. ولهذا قلنا إن المحصل لهذه
القوالب في الذهن، إنما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم. وهذه القوالب كما تكون في
المنظوم تكون في منثور، فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين، وجاءوا به مفصلاً
في النوعين. ففي الشعر بالقطع الموزونة والقوافي المقيدة، واستقلال الكلام في كل
قطعة، وفي منثور، يعتبرون الموازنة والتشابه بين القطع غالباً، وقد يقيدونه
بالأسجاع. وقد يرسلونه، وكل واحد من هذه معروفة في لسان العرب. والمستعمل منها
عندهم هو الذي يبني مؤلق الكلام عليه تأليفه، ولا يعرفه إلا من حفظ كلامهم، حتى
يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية، قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف،
كما يحذو البناء على القالب، والنساج على المنوال. فلهذا كان من تأليف الكلام
منفرداً عن نظر النحوي والبياني والعروضي. نعم إن مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه
لا يتم بدونها، فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر، لطيف في
هذه القوالب، التي يسمونها أساليب. ولا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظماً ونثراً.
وإذا تقرر معنى الأسلوب ما هو، فلنذكر بعده حداً أورسماً للشعر يفهمنا حقيقته على
صعوبة هذا الغرض. فإنا لم نقف عليه لأحد من المتقدمين فيما رأيناه.
وقول العروضيين في حده إنه الكلام الموزون
المقفى، ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده، ولا رسم له. وصناعتهم إنما تنظر في
الشعر من حيث اتفاق أبياته في عدد المتحركات والسواكن على التوالي، ومماثلة عروض
أبيات الشعر لضربها. وذلك نظر في وزن مجرد عن الألفاظ ودلالتها فناسب أن يكون حداً
عندهم ونحن هنا ننظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب
الخاصة. فلا جرم إن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا، فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من
هذه الحيثية فنقول: الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل
بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده،
الجاري على أساليب العرب المخصوصة به. فقولنا الكلام البليغ جنس، وقولنا المبني على
الاستعارة والأوصاف فصل له عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر، وقولنا المفصل
بأجزاء متفقة الوزن والروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل،
وقولنا مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده بيان للحقيقة، لأن الشعر
لا تكون أبياته إلا كذلك، ولم يفصل به شيء. وقولنا الجاري على الأساليب المخصوصة
به، فصل له عما لم يجرمنه على أساليب الشعر المعروفة، فإنه حينئذ لا يكون شعراً،
إنما هو كلام منظوم، لأن الشعر له أساليب تخصه، لا تكون للمنثور. وكذ أساليب
المنثور لا تكون للشعر، فما كان من الكلام منظوماً وليس على تلك الأساليب، فلا يسمى
شعراً. وبهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية
يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء، لأنهما لم يجربا على أساليب
العرب فيه، وقولنا في الحد الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من
الأمم، عند من يرى أن الشعر يوجد للعرب ولغيرهم. ومن يرى أنه لا يوجد لغيرهم، فلا
يحتاج إلى ذلك، ويقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة. إذ قد فرغنا من الكلام
على حقيقة الشعر، فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول: اعلم أن لعمل الشعر
وإحكام صناعته شروطاً، أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب، حتى تنشأ في
التفس ملكة ينسج على منوالها، ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب. وهذا
المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين، مثل ابن أيي ربيعة
وكثير وذي الرمة وجرير وأبي نواس وحبيب والبحتري والرضي وأبي فراس. وأكثره شعر كتاب
الأغاني، لأنه جمع شعر أهل الطبقة لإسلامية كله، والمختار من شعر الجاهلية. ومن كان
خالياً من المحفوظ فنظمه قاصر رديء، ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ.
فمن قل حفظة أو عدم لم يكن له شعر، وإنما هو نظم ساقط. واجتناب الشعر أولى بمن لم
يكن له محفوظ. ثم بعد لامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على
النظم، وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ. وربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك
المحفوظ، لتمحى رسومه حرفية الظاهرة، إذ هي صادة عن استعمالها بعينها. فإذا نسيها،
وقد تكيفت النفس بها، انتقش الأسلوب فيها، كأنه منوال يأخذ بالنسج عليه بأمثالها من
كلمات أخرى ضرورة. ثم لا بد له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه
والأزهار، وكذا من مسموع لاستنارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذ السرور. ثم مع
هذا كله فشرطه، أن يكون على جمام ونشاط، فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل
ذلك منوال الذي في حفظه.
قالوا: وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند
الهبوب من النوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر، وفي هواء الجمام. وربما قالوا إن من
بواعثه العشق والانتشاء، ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة، وهو الكتاب الذي انفرد
بهذه الصناعة وإعطاء حقها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله. قلوا: فإن استصعب
عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت آخر، ولايكره نفسه عليه. وليكن بناء البيت على
القافية من أول صوغه ونسجه يضعها، ويبني الكلام عليها إلى آخره، لأنه إن غفل عن
بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها. فربما تجيء نافرة قلقة، وإذا سمح
الخاطر بالبيت، ولم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به، فإن كل بيت مستقل
بنفسه، ولم تبق إلا المناسبة قليتخير فيها ما يشاء، وليراجع شعره بعد الخلاص منه
بالتنقيح والنقد، ولا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة. فإن الإنسان مفتون
بشعره، إذ هو نبات فكره واختراع قريحته، ولا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من
التراكيب. والخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها، فإنها تنزل بالكلام عن طبقة
البلاغة.
وقد حظر أئمة اللسان على المولد ارتكاب الضرورة، إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة. ويجتنب أيضاً المعقد من التراكيب جهده. وإنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم. وإنما المختار منه ما كانت ألفاظة طبقاً على معانيه أو أوفى منها. فإن كانت المعاني كثيرة كان حشواً، واشتغل الذهن بالغوص عليها، فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة. ولا يكون الشعر سهلاً إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن. ولهذا كان شيوخنا رحمهم اللة يعيبون شعر أبي بكر بن خفاجة، شاعر شرق الأندلس، لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد، كما كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري بعده النسج على الأساليب العربية كما مر، فكان شعرهما كلاماً منظوماً نازلاً عن طبقة الشعر، والحاكم بذلك هو الذوق. وليجتنب الشاعر أيضاً الحوشي من الألفاظ والمقعر، وكذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال، فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة. وكذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضاً، فيصير مبتذلاً ويقرب من عدم الإفادة كقولهم: النار حارة والسماء فوقنا. وبمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة، إذ هما طرفان. ولهذا كان الشعر في الربانيات والنبويات قليل الإجادة في الغالب، ولا يحذق فيه إلا الفحول. وفي القليل، على العسر، لأن معانيها متداولة بين الجمهور، فتصير مبتذلة لذلك. وإذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه ويعاوده، فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء ويجف ويغرر بالترك والإهمال. وبالجملة فهذه الصناعة وتعلمها مستوفى فى كتاب العمدة لابن رشيق، وقد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد. ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه لبغية من ذلك. وهذه نبذة كافية والله المعين. وقد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها. ومن أحسن ما قيل في ذلك وأظنه لابن رشيق:
لعن اللة صنعة الشعر ماذا … من صنوف الجهال فيها لقينا
يؤثرون الغريب منه على ما … كان سهلاً للسامعين مبينا
ويرون المحال معنى صحيحاً … وخسيس الكلام شيئاً ثميناً
يجهلون الصواب منه ولايد … رون للجهل أنهم يجهلونا
فهم عند من سوانا يلامو … ن وفي الحق عندنا يعذرونا
إنما الشعر ما يناسب في النظ … م وإن كان في الصفات فنونا
فأتى بعضه يشاكل بعضاً … وأقامت له الصدور المتونا
كل معنى أتاك منه على ما … تتمنى لو لم يكن أو يكونا
فتناهى من البيان إلى أن … كاد حسناً يبين للناظرينا
فكأن الألفاظ منه وجوه … والمعاني ركبن فيه عيونا
قائماً في المرام حسب الأماني … يتحلى بحسنه المنشدونا
فإذا ما مدحت بالشعر حراً … رمت فيه مذاهب المشتهينا
وقد حظر أئمة اللسان على المولد ارتكاب الضرورة، إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة. ويجتنب أيضاً المعقد من التراكيب جهده. وإنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم. وإنما المختار منه ما كانت ألفاظة طبقاً على معانيه أو أوفى منها. فإن كانت المعاني كثيرة كان حشواً، واشتغل الذهن بالغوص عليها، فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة. ولا يكون الشعر سهلاً إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن. ولهذا كان شيوخنا رحمهم اللة يعيبون شعر أبي بكر بن خفاجة، شاعر شرق الأندلس، لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد، كما كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري بعده النسج على الأساليب العربية كما مر، فكان شعرهما كلاماً منظوماً نازلاً عن طبقة الشعر، والحاكم بذلك هو الذوق. وليجتنب الشاعر أيضاً الحوشي من الألفاظ والمقعر، وكذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال، فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة. وكذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضاً، فيصير مبتذلاً ويقرب من عدم الإفادة كقولهم: النار حارة والسماء فوقنا. وبمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة، إذ هما طرفان. ولهذا كان الشعر في الربانيات والنبويات قليل الإجادة في الغالب، ولا يحذق فيه إلا الفحول. وفي القليل، على العسر، لأن معانيها متداولة بين الجمهور، فتصير مبتذلة لذلك. وإذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه ويعاوده، فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء ويجف ويغرر بالترك والإهمال. وبالجملة فهذه الصناعة وتعلمها مستوفى فى كتاب العمدة لابن رشيق، وقد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد. ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه لبغية من ذلك. وهذه نبذة كافية والله المعين. وقد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها. ومن أحسن ما قيل في ذلك وأظنه لابن رشيق:
لعن اللة صنعة الشعر ماذا … من صنوف الجهال فيها لقينا
يؤثرون الغريب منه على ما … كان سهلاً للسامعين مبينا
ويرون المحال معنى صحيحاً … وخسيس الكلام شيئاً ثميناً
يجهلون الصواب منه ولايد … رون للجهل أنهم يجهلونا
فهم عند من سوانا يلامو … ن وفي الحق عندنا يعذرونا
إنما الشعر ما يناسب في النظ … م وإن كان في الصفات فنونا
فأتى بعضه يشاكل بعضاً … وأقامت له الصدور المتونا
كل معنى أتاك منه على ما … تتمنى لو لم يكن أو يكونا
فتناهى من البيان إلى أن … كاد حسناً يبين للناظرينا
فكأن الألفاظ منه وجوه … والمعاني ركبن فيه عيونا
قائماً في المرام حسب الأماني … يتحلى بحسنه المنشدونا
فإذا ما مدحت بالشعر حراً … رمت فيه مذاهب المشتهينا
فجعلت النسيب سهلاً قريباً … وجعلت المديح
صدقاً مبينا
وتنكبت ماتهجن في السمع … وإن كان لفظه موزونا
وإذا ما قرضته بهجاء … عبت فيه مذاهب المرقبينا
فجعلت التصريح منه دواء … وجعلت التعريض داء دفينا
وإذا ما بكيت فيه على الغا … دين يوماً للبين والظاعنينا
حلت دون الأسى وذللت ما كا … ن من الدمع في العيون مصونا
ثم إن كنت عاتباً جئت بالوعد … وعيداً وبالصعوبة لينا
فتركت الذي عتبت عليه … حذراً، آمناً، عزيزاً، مهينا
وأصح القريض ما فات في النظم … وإن كان واضحاً مستبينا
فإذا قيل أطمع الناس طراً … وإذا ريم أعجز المعجزينا
ومن ذلك أيضاً قول بعضهم وهو الناشي:
الشعرما قومت زيغ صدوره … وشددت بالتهذيب أس متونه
ورأيت بالإطناب شعب صدوعه … وفتحت بالإيجاز عور عيونه
وجمعت بين قريبه وبعيده … ووصلت بين مجمه ومعينه
وعمدت منه سحد أمر يقتضى … شبهاً به فقرينه بقرينه
وإذا مدحت به جواداً ماجداً … وقضيته بالشكر حق ديونه
أصفيته بنفيسه ورصينه … وخصصته بخطيره وثمينه
فيكون جزلاً في مساق صنوفه … ويكون سهلاً في اتفاق فنونه
وإذا بكيت به الديار وأهلها … أجريت للمحزون ماء شئونه
وإذا أردت كناية عن ريبة … باينت بين ظهوره وبطونه
فجعلت سامعة يشوب شكوكه … بثنائه وظنونه بيقينه
وإذا عتبت على أخ في زلة … أدمجت شدته له في لينه
فتركته مستأنساً بدماثة … مستأمناً لوعوثه وحزوبه
وإذا نبذت إلى الذي علقتها … إذ صارمتك بفاتنات شؤونه
تيمتها بلطيفه ورقيقه … وشغفتها بخبيه وكمينه
وإذا اعتذرت لسقطة أسقطتها … وأشكت بين مخيله ومبينه
فيحول ذنبك عندمن يعتده … عتباًعليه مطالباً بيمينه
الفصل السادس والخمسون
وتنكبت ماتهجن في السمع … وإن كان لفظه موزونا
وإذا ما قرضته بهجاء … عبت فيه مذاهب المرقبينا
فجعلت التصريح منه دواء … وجعلت التعريض داء دفينا
وإذا ما بكيت فيه على الغا … دين يوماً للبين والظاعنينا
حلت دون الأسى وذللت ما كا … ن من الدمع في العيون مصونا
ثم إن كنت عاتباً جئت بالوعد … وعيداً وبالصعوبة لينا
فتركت الذي عتبت عليه … حذراً، آمناً، عزيزاً، مهينا
وأصح القريض ما فات في النظم … وإن كان واضحاً مستبينا
فإذا قيل أطمع الناس طراً … وإذا ريم أعجز المعجزينا
ومن ذلك أيضاً قول بعضهم وهو الناشي:
الشعرما قومت زيغ صدوره … وشددت بالتهذيب أس متونه
ورأيت بالإطناب شعب صدوعه … وفتحت بالإيجاز عور عيونه
وجمعت بين قريبه وبعيده … ووصلت بين مجمه ومعينه
وعمدت منه سحد أمر يقتضى … شبهاً به فقرينه بقرينه
وإذا مدحت به جواداً ماجداً … وقضيته بالشكر حق ديونه
أصفيته بنفيسه ورصينه … وخصصته بخطيره وثمينه
فيكون جزلاً في مساق صنوفه … ويكون سهلاً في اتفاق فنونه
وإذا بكيت به الديار وأهلها … أجريت للمحزون ماء شئونه
وإذا أردت كناية عن ريبة … باينت بين ظهوره وبطونه
فجعلت سامعة يشوب شكوكه … بثنائه وظنونه بيقينه
وإذا عتبت على أخ في زلة … أدمجت شدته له في لينه
فتركته مستأنساً بدماثة … مستأمناً لوعوثه وحزوبه
وإذا نبذت إلى الذي علقتها … إذ صارمتك بفاتنات شؤونه
تيمتها بلطيفه ورقيقه … وشغفتها بخبيه وكمينه
وإذا اعتذرت لسقطة أسقطتها … وأشكت بين مخيله ومبينه
فيحول ذنبك عندمن يعتده … عتباًعليه مطالباً بيمينه
الفصل السادس والخمسون
في أن صناعة النظم والنثر إنما هي في
الألفاظ لا في المعاني اعلم أن صناعة الكلام نظماً ونثراً إنما هي في الألفاظ لا في
المعاني، وإنما المعاني تبع لها وهي أصل. فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم
والنثر، إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب، ليكثر استعماله وجرية
على لسانه، حتى تستقر له الملكة في لسان مضر، ويتخلص من العجمة التي ربي عليها في
جيله، ويفرض نفسه، مثل وليد ينشأ في جيل العرب ويلقن لغتهم كما يلقنها الصبي، حتى
يصير كأنه واحد منهم في لسانهم. وذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق
يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تصل شأن الملكات، والذي في اللسان والنطق
إنما هو الألفاظ، وأما المعاني فهي في الضمائر. وأيضاً فالمعاني موجودة عند كل واحد
وفي طوع كل فكر منها مايشاء ويرضى، فلا تحتاج إلى تكلف صناعة في تأليفها. وتأليف
الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه وهو بمثابة القوالب للمعاني.
فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب والفضة والصدف
والزجاج والخزف، والماء واحد في نفسه. وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء
باختلاف جنسها لا باختلاف الماء. كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال تختلف
باختلاف طبقات الكلام في تأليفه، باعتبار تطبيقه على المقاصد. والمعاني واحدة في
نفسها وإنما الجاهل بتأليف الكلام وأساليبه، على مقتضى ملكة اللسان، إذا حاول
العبارة عن مقصوده، ولم يحسن، بمثابة المقعد، الذي يروم النهوض ولا يستطيعه، لفقدان
القدرة عليه. والله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الفصل السابع والخمسون
الفصل السابع والخمسون
في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها
بجودة المحفوظ
قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ، لمن يروم
تعلم اللسان العربي، وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلته، تكون
جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ. فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميين شعر
حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانىء أو الشريف الرضي، أو رسائل ابن المقفع
أو سهل ابن هارون أو ابن الزيات أو البديع أو الصابىء، تكون ملكته أجود وأعلى
مقاماً ورتبة في البلاغة، ممن يحفظ أشعار المتأخرين مثل شعر ابن سهل أو ابن النبيه
أو ترسل البيساني أو العماد لأصبهاني، لنزول طبقة هؤلا عن أولئك. يظهر ذلك للبصير
الناقد صاحب الذوق. وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع، تكون جودة الاستعمال من
بعده، ثم إجادة الملكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ فى طبقته من الكلام، ترتقي
الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها، وتنمو قوى الملكة بتغذيتها. وذلك
أن النفس، وإن كانت في جبلتها واحدة بالنوع، فهي تختلف في البشر بالقوة والضعف في
الإدراكات.
واختلافها إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والآلوان التي تكيفها من خارج. فبهذه يتم وجودها، وتخرج من القوة إلى الفعل صورتها. والملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج كما قدمناه. فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر، وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والترسيل، والعلمية بمخالطة العلوم والإدراكات والأبحاث والأنظار، والفقهية بمخالطة الفقه وتنظير المسائل وتفريعها وتخريج الفروع على الأصول، والتصوفية الربانية بالعبادات والأذكار وتعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة والانفراد عن الخلق ما استطاع، حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن وروحه، وينقلب ربانياً وكذا سائرها. وللنفس في كل واحد منها لون تتكيف به، وعلى حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها، فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام، ولهذا كان الفقهاء وأهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة، وما ذلك إلا ما يسبق إلى محفوظهم، ويمتلىء به من القوانين العلمية والعبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة والنازلة عن الطبقة، لأن العبارات عن القوانين والعلوم لا حظ لها في البلاغة، فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثر وتلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور وانحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم. وهكذا نجد شعر الفقهاء والنحاة والمتكلمين والنظار وغيرهم ممن لم يمتلىء من حفظ النقي الحر من كلام العرب.
أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال: ذاكرت يوماً صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن، وكان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي ولم أنسبها له وهو هذا:
لم أدر حين وقفت بالأطلال … ما الفرق بين جديدها والبالي
فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له ومن أين لك ذلك؟ قال من قوله: ما الفرق؟ إذ هي من عبارات الفقهاء، وليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: لله أبوك، إنه ابن النحوي.
وأما الكتاب والشعراء فليسوا كذلك، لتخيرهم في محفوظهم ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في الترسل، وانتقائهم له الجيد من الكلام.
ذاكرت يوماً صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب، وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر، وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة فقلت له: أجد استصعاباً علي في نظم الشعر متى رمته، مع بصري به وحفظي للجيد من الكلام، من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب، وإن كان محفوظي قليلاً. وإنما أتيت، والله أعلم بحقيقة الحال، من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية. فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والضغرى في القرا آت والرسم واستظهرتهما، وتدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجي في المنطق وبعض كتاب التسهيل وكثيراً من قوانين التعليم في المجالس، فامتلأ محفوظي من ذلك، وخدش وجه الملكة التي استدعيت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها، فنظر إلي ساعة متعجباً ثم قال: لله أنت، وهل يقول هذا إلا مثلك؟.
واختلافها إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والآلوان التي تكيفها من خارج. فبهذه يتم وجودها، وتخرج من القوة إلى الفعل صورتها. والملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج كما قدمناه. فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر، وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والترسيل، والعلمية بمخالطة العلوم والإدراكات والأبحاث والأنظار، والفقهية بمخالطة الفقه وتنظير المسائل وتفريعها وتخريج الفروع على الأصول، والتصوفية الربانية بالعبادات والأذكار وتعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة والانفراد عن الخلق ما استطاع، حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن وروحه، وينقلب ربانياً وكذا سائرها. وللنفس في كل واحد منها لون تتكيف به، وعلى حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها، فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام، ولهذا كان الفقهاء وأهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة، وما ذلك إلا ما يسبق إلى محفوظهم، ويمتلىء به من القوانين العلمية والعبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة والنازلة عن الطبقة، لأن العبارات عن القوانين والعلوم لا حظ لها في البلاغة، فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثر وتلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور وانحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم. وهكذا نجد شعر الفقهاء والنحاة والمتكلمين والنظار وغيرهم ممن لم يمتلىء من حفظ النقي الحر من كلام العرب.
أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال: ذاكرت يوماً صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن، وكان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي ولم أنسبها له وهو هذا:
لم أدر حين وقفت بالأطلال … ما الفرق بين جديدها والبالي
فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له ومن أين لك ذلك؟ قال من قوله: ما الفرق؟ إذ هي من عبارات الفقهاء، وليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: لله أبوك، إنه ابن النحوي.
وأما الكتاب والشعراء فليسوا كذلك، لتخيرهم في محفوظهم ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في الترسل، وانتقائهم له الجيد من الكلام.
ذاكرت يوماً صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب، وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر، وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة فقلت له: أجد استصعاباً علي في نظم الشعر متى رمته، مع بصري به وحفظي للجيد من الكلام، من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب، وإن كان محفوظي قليلاً. وإنما أتيت، والله أعلم بحقيقة الحال، من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية. فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والضغرى في القرا آت والرسم واستظهرتهما، وتدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجي في المنطق وبعض كتاب التسهيل وكثيراً من قوانين التعليم في المجالس، فامتلأ محفوظي من ذلك، وخدش وجه الملكة التي استدعيت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها، فنظر إلي ساعة متعجباً ثم قال: لله أنت، وهل يقول هذا إلا مثلك؟.
ويظهر لك من هذا الفصل، وما تقرر فيه سر
آخر، وهو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة
وأذواقها من كلام الجاهلية، في منثورهم ومنظومهم. فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر
بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان في الرمة والأحوص وبشار، ثم
كلام السلف من العرب في الدولة الأموية وصدراً من الدولة العباسية، في خطبهم
وترسيلهم ومحاوراتهم للفلوك أرفع طبقة في البلاغة بكثير من شعر النابغة وعنترة وابن
كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد، ومن كلام الجاهلية في منثورهم
ومحاوراتهم. والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير
بالبلاغة.
والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث، اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما، لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة عن ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية، ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقاً من أولئك، وأصفى مبنى وأعدل تثقيفاً بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة. وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والتبصر بالبلاغة.
ولقد سألت يوماً شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا، وكان شيخ هذه الصناعة، أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين، واستبحر في علم اللسان وجاء من وراء الغاية فيه، فسألته يوماً: ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين، ولم يكن ليستنكر ذلك بذوقه، فسكت طويلاً ثم قال لي: والله ما أدري! فقلت له: أعرض عليك شيئاً ظهر لي في ذلك، ولعله السبب فيه. وذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجباً، ثم قال لي: يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب. وكان من بعدها يؤثر محلي ويصيخ في مجالس التعليم إلى قولي ويشهد لي بالنباهة في العلوم. والله خلق الإنسان وعلمه البيان.
الفصل الثامن والخمسون
والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث، اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما، لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة عن ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية، ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقاً من أولئك، وأصفى مبنى وأعدل تثقيفاً بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة. وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والتبصر بالبلاغة.
ولقد سألت يوماً شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا، وكان شيخ هذه الصناعة، أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين، واستبحر في علم اللسان وجاء من وراء الغاية فيه، فسألته يوماً: ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين، ولم يكن ليستنكر ذلك بذوقه، فسكت طويلاً ثم قال لي: والله ما أدري! فقلت له: أعرض عليك شيئاً ظهر لي في ذلك، ولعله السبب فيه. وذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجباً، ثم قال لي: يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب. وكان من بعدها يؤثر محلي ويصيخ في مجالس التعليم إلى قولي ويشهد لي بالنباهة في العلوم. والله خلق الإنسان وعلمه البيان.
الفصل الثامن والخمسون
في بيان المطبوع من الكلام
والمصنوع وكيف جودة المصنوع أو قصوله إعلم
أن الكلام الذي هو العبارة والخطاب، إنما سره وروحه في إفادة المعنى.
وأما إذا كان مهملاً فهو كالموات الذي لا عبرة به. وكمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدها عند أهل البيان لأنهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومعرفة الشروط والأحكام التي بها تطابق التراكيب اللفظية مقتضى الحال، هو فن البلاغة. وتلك الشروط والأحكام للتراكيب في المطابقة استقريت من لغة العرب وصارت كالقوانين. فالتراكيب بوضعها تفيد الإسناد بين المسندين، بشروط وأحكام جل قوانين العربية. وأحوال هذه التراكيب من تقديم وتأخير، وتعريف وتنكير، وإضمار وإظهار، وتقييد وإطلاق وغيرها، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج الإسناد، وبالمتخاطبين حال التخاطب بشروط وأحكام هي قوانين لفن، يسمونه علم المعاني من فنون البلاغة. فتندرج قوانين العربية لذلك في قوانين علم المعاني لأن إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد. وما قصر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصراً عن المطابقة لمقتضى الحال، ولحق بالمهمل الذي هو في عداد الموات.
وأما إذا كان مهملاً فهو كالموات الذي لا عبرة به. وكمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدها عند أهل البيان لأنهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومعرفة الشروط والأحكام التي بها تطابق التراكيب اللفظية مقتضى الحال، هو فن البلاغة. وتلك الشروط والأحكام للتراكيب في المطابقة استقريت من لغة العرب وصارت كالقوانين. فالتراكيب بوضعها تفيد الإسناد بين المسندين، بشروط وأحكام جل قوانين العربية. وأحوال هذه التراكيب من تقديم وتأخير، وتعريف وتنكير، وإضمار وإظهار، وتقييد وإطلاق وغيرها، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج الإسناد، وبالمتخاطبين حال التخاطب بشروط وأحكام هي قوانين لفن، يسمونه علم المعاني من فنون البلاغة. فتندرج قوانين العربية لذلك في قوانين علم المعاني لأن إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد. وما قصر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصراً عن المطابقة لمقتضى الحال، ولحق بالمهمل الذي هو في عداد الموات.
ثم يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في
انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات، لأن التركيب يدل بالوضع على معنى، ثم
ينتقل الذهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه، فيكون فيها مجازاً: إما باستعارة، أو
كناية كما هو مقرر في موضعه، ويحصل للفكر بذلك الانتقال لذة كما تحصل في الإفادة
وأشد. لأن في جميعها ظفر بالمدلول من دليله. والظفر من أسباب اللذة كما علمت. ثم
لهذه الانتقالات أيضاً شروط وأحكام كالقوانين صيروها صناعة، وسموها بالبيان. وهي
شقيقة علم المعاني المفيد لمقتضى الحال، لأنها راجعة إلى معاني التراكيب
ومدلولاتها. وقوانين علم المعاني راجعة إلى أحوال التراكيب انفسها من حيث الدلالة.
واللفظ والمعنى متلازمان متضايقان كما علمت. فإذا علم المعاني وعلم البيان هما جزء
البلاغة، وبهما كمال الإفادة، فهو مقصر عن البلاغة ويلتحق عند البلغاء بأصوات
الحيوانات العجم وأجدر به أن لا يكون عربياً، لأن العربي هو الذي يطابق بإفادته
مقتضى الحال. فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربي وسجيته وروحه وطبيعته.
ثم اعلم أنهم إذا قالوا: " الكلام المطبوع فإنهم يعنون به الكلام الذي كملت طبيعته وسجيته من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنه عبارة وخطاب، ليس المقصود منه النطق فقط. بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامة، ويدل به عليه دلالة وثيقة. ثم يتبع تراكيب الكلام في هذه السجية التي له بالأصالة ضروب من التحسين والتزيين، بعد كمال الإفادة وكأنها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع، والموازنة بين حمل الكلام وتقسيمه بالأقسام المختلفة الأحكام والتورية باللفظ المشترك عن الخفي من معانيه، والمطابقه بين المتضادات، ليقع التجانس بين الألفاظ والمعاني، يحصل للكلام رونق ولذة في الأسماع وحلاوة وجمال كلها زائدة على الإفادة.
وهذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضع متعقلة مثل: " والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى " ، ومثل: " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى " ، إلى آخر التقسيم في الآية. وكذا: " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا " إلى آخر الآية. وكذا: " هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " . وأمثاله كثير. وذلك بعد كمال الإفادة في أصل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها. وكذا وقع في كلام الجاهلية منه، لكن عفواً من غير قصد ولاتعمد. ويقال إنه وقع في شعر زهير.
وأما الإسلاميون فوقع لهم عفواً وقصداً، وأتوا منه بالعجائب. وأول من أحكم طريقته حبيب بن أوس والبحتري ومسلم بن الوليد، فقد كانوا مولعين بالصنعة، ويأتون منها بالعجب. وقيل إن أول من ذهب إلى معاناتها بشار بن برد وابن هرمة، وكانا آخر من يسشهد بشعره، في اللسان العربي. ثم اتبعهما عمرو بن كلثوم والعتابي ومنصور النميري ومسلم بن الوليد وأبو نواس. وجاء على آثرهم حبيب والبحتري. ثم ظهر ابن المعتز فختم على البديع والصناعة أجمع. ولنذكر مثالاً من المطبوع الخالي من الصناعة، مثل قول قيس بن ذريح:
وأخرج من بين البيوت لعلني … أحدث عنك النفس في السر خاليا
وقول كثئر:
وإني وتهيامي بعزة بعدما … تخليت عما بيننا وتخلت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلها … تبوأ منها للمقيل اضمحلت
فتأمل هذا المطبوع، الفقيد الصنعة، في إحكام تأليفه وثقافة تركيبه. فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسناً.
ثم اعلم أنهم إذا قالوا: " الكلام المطبوع فإنهم يعنون به الكلام الذي كملت طبيعته وسجيته من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنه عبارة وخطاب، ليس المقصود منه النطق فقط. بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامة، ويدل به عليه دلالة وثيقة. ثم يتبع تراكيب الكلام في هذه السجية التي له بالأصالة ضروب من التحسين والتزيين، بعد كمال الإفادة وكأنها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع، والموازنة بين حمل الكلام وتقسيمه بالأقسام المختلفة الأحكام والتورية باللفظ المشترك عن الخفي من معانيه، والمطابقه بين المتضادات، ليقع التجانس بين الألفاظ والمعاني، يحصل للكلام رونق ولذة في الأسماع وحلاوة وجمال كلها زائدة على الإفادة.
وهذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضع متعقلة مثل: " والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى " ، ومثل: " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى " ، إلى آخر التقسيم في الآية. وكذا: " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا " إلى آخر الآية. وكذا: " هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " . وأمثاله كثير. وذلك بعد كمال الإفادة في أصل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها. وكذا وقع في كلام الجاهلية منه، لكن عفواً من غير قصد ولاتعمد. ويقال إنه وقع في شعر زهير.
وأما الإسلاميون فوقع لهم عفواً وقصداً، وأتوا منه بالعجائب. وأول من أحكم طريقته حبيب بن أوس والبحتري ومسلم بن الوليد، فقد كانوا مولعين بالصنعة، ويأتون منها بالعجب. وقيل إن أول من ذهب إلى معاناتها بشار بن برد وابن هرمة، وكانا آخر من يسشهد بشعره، في اللسان العربي. ثم اتبعهما عمرو بن كلثوم والعتابي ومنصور النميري ومسلم بن الوليد وأبو نواس. وجاء على آثرهم حبيب والبحتري. ثم ظهر ابن المعتز فختم على البديع والصناعة أجمع. ولنذكر مثالاً من المطبوع الخالي من الصناعة، مثل قول قيس بن ذريح:
وأخرج من بين البيوت لعلني … أحدث عنك النفس في السر خاليا
وقول كثئر:
وإني وتهيامي بعزة بعدما … تخليت عما بيننا وتخلت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلها … تبوأ منها للمقيل اضمحلت
فتأمل هذا المطبوع، الفقيد الصنعة، في إحكام تأليفه وثقافة تركيبه. فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسناً.
وأما المصنوع فكثير من لدجن بشار، ثم حبيب
وطبقتهما، ثم ابن المعتز خاتم الصنعة الذي جرى المتأخرون بعدهم في ميدانهم، ونسجوا
على منوالهم. وقد تعددت أصناف هذه الصنعة عند أهلها، واختلفت اصطلاحاتهم في
ألقابها. وكثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنها غير داخلة في الإفادة،
وأنها هي تعطي التحسين والرونق. وأما المتقدمون من أهل البديع، فهي عندهم خارجة عن
البلاغة. ولذلك يذكرونها في الفنون الأدبية التي لا موضوع لها. وهو رأي ابن رشيق في
كتاب العمدة له، وأدباء الأندلس. وذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطاً، منها أن تقع
من غير تكلف ولا اكتراث في ما يقصد منها. وأما العفو فلا كلام فيه لأنها إذا برئت
من التكلف سلم الكلائم من غيب الاستهجان، لأن تكلفها ومعاناتها يصير إلى الغفلة عن
التراكيب الأصلية للكلام، فتخل بالإفادة من أصلها، وتذهب بالبلاغة رأساً. ولا يبقى
في الكلام إلا تلك التحسينات، وهذا هو الغالب اليوم على أهل العصر وأصحاب الأذواق
في البلاغه يسخرون من كلفهم بهذه الفنون، ويعدون ذلك من القصور عن سواه. وسمعت
شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقي، وكان من أهل البصر في اللسان والقريحة في ذوقه
يقول: إن من أشهى ما تقترحه علي نفسي أن اشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا
البديع في نظمه أو نثره، وقد عوقب بأشد العقوبة، ونودي عليه، يحذر بذلك تلميذه أن
يتعاطوا هذه الصنعة، فيكلفون بها، ويتناسون البلاغة. ثم من شروط استعمالها عندهم
الإقلال منها وأن تكون في بيتين ثم ثلاثة من القصيد، فتكفي في زينة الشعر ورونقه.
والإكثار منها عيب، قاله ابن رشيق وغيره. وكان شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي متفق
اللسان العربي بالأندلس لوقته يقول: هذه الفنون البديعية إذا وقعت للشاعر أو للكاتب
فيقبح أن يستكثر منها، لأنها من محسنات الكلام ومزيناته، فهي بمثابة الخيلان في
الوجه يحسن بالواحد والاثنين منها، ويقبح بتعدادها. وعلى نسبة الكلام المنظوم هو
الكلام المنثور في الجاهلية والإسلام. وكان أولاً مرسلاً معتبر الموازنة بين جمله
وتراكيبه، شاهدة موازنته بفواصله، من غير التزام سجع ولا اكتراث بصنعة. حتى نبغ
إبراهيم بن هلال الصابي كاتب بني بويه، فتعاطى الصنعة والتقفية وأتى بذلك بالعجب.
وعاب الناس عليه كلفه بذلك في المخاطبات السلطانية. وإنما حمله عليه ما كان في
ملوكه من العجمة والبعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة. ثم انتشرت الصناعة
بعده في منثور المتأخرين ونسي عهد الترسيل وتشابهت السلطانيات والأخوانيات
والعربيات بالسوقيات. واختلط المرعي بالهمل. وهذا كله يدلك على أن الكلام المصنوع
بالمعاناة والتكليف، قاصر عن الكلام المطبوع، لقلة الاكتراث فيه بأصل البلاغة،
والحاكم في ذلك الذوق. الله خلقكم وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الفصل التاسع والخمسون
الفصل التاسع والخمسون
في ترفع أهل المراتب عن انتحال
الشعر
اعلم أن الشعر كان ديواناً للعرب، فيه
علومهم وأخبارهم وحكمهم. وكان رؤساء العرب متنافسين فيه، وكانوا يقفون بسوق عكاظ
لإنشاده وعرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن وأهل البصر، لتمييز حوكه. حتى
انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام، موضع حجهم، وبيت أبيهم
إبراهيم، كما فعل امرؤ القيس بن حجر، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة
بن شداد، وطرفة بن العبد وعلقمة بن عبدة، والأعشى وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع.
فإنه إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها، من كان له قدرة على ذلك بقومه وعصبيته
ومكانه في مضر، على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلقات. ثم انصرف العرب عن ذلك أول
الإسلام ، بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي، وما أدهشهم من أسلوب القرآن
ونظمه، فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زماناً. ثم استقر ذلك وأونس
الرشد من الملة. ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره، وسمعه النبي صلى الله عليه
وسلم وأثاب عليه، فرجعوا حينئذ إلى دينهم منه. وكان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش
لذلك العهد مقامات فيه عالية وطبقة مرتفعة، وكان كثيراً ما يعرض شعره على ابن عباس
فيقف لاستماعه معجباً به. ثم جاء من بعد ذلك الملك الفحل والدولة العزيزة، وتقرب
إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها. ويجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة
الجودة في أشعارهم ومكانهم من قومهم، ويحرصون على استهداء أشعارهم، يطلعون منها على
الآثار والأخبار واللغة وشرف اللسان. والعرب يطالبون ولدهم بحفظها. ولم يزل الشاذ
هذا أيام بني أمية وصدراً من دولة بني العباس. وانظر ما نقله صاحب العقد في مسامرة
الرشيد للأصمعي، في باب الشعر والشعراء تجد ما كان عليه الرشيد من المعرفة بذلك،
والرسوخ فيه والعناية بانتحاله، والتبصر بجيد الكلام ورديئه وكثرة محفوظه منه. ثم
جاء خلق من بعدهم لم يكن اللسان لسانهم، من أجل العجمة ولقصيرها باللسان، وإنما
تعلموه صناعة، ثم مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الذين ليس اللسان لهم طالبين معروفهم
فقط، لا سوى ذلك من الأغراض، كما فعله حبيب والبحتري والمتنيي وابن هانىء ومن بعدهم
إلى هلم جرا. فصار غرض الشعر في الغالب إنما هو للكدية والاستجداء لذهاب المنافع
التي كانت فيه للأولين، كما ذكرناه آنفاً. وأنف منه لذلك أهل الهمم والمراتب من
المتفخرين، وتغير الحال فيه وأصبح تعاطيه هجنه في الرئاسة ومذمة، هل المناصب
الكبيرة. والله مقلب الليل والنهار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق