الأحد، 3 مارس 2013

مقدمة نكت الهميان في نكت العميان

الحمد للّه الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، ولا يحتاج في تدبير ملكه إلى المؤازرين ولا إلى الأنصار، ولا تسع عبارة عباده في معرفته غير الاعتراف بالإقصار عن كنه قدرها والإقصاء.
نحمده على نعمه التي نوّرت بصائرنا فرفعتنا إلى معالم الهدى، وفتّحت أبصارنا فجرّتنا عن مغارم العدى، وسلّمت أفكارنا من الوقوع في أشراك الشّرك ومهاوي المهالك وموارد الرّدى.
ونشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له: شهادةً ترقم حروفها على سرادق العرش، وتقوم بما يجب علينا في تقصير أعمالنا من الأرش، وتدغم سيئاتنا في حسناتنا كما ادغم أبو عمرو فيحصل لها تفخيم ورش.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي جعل رسالته إلى الخلق نعمى، ورمى بعه الباطل فأصاب شاكلته وأصمى، وأنزل عليه في محكم الذكر " عبس وتولى أن جاءه الأعمى ".
صلى اللّه عليه وعلى آل وصحبه الذين جبر فقرهم بالصلات والعوائد، وجلسوا من كرمه الجمّ بأعطاف موائد على تلك الموائد، واصبح كلّ منهم وله من نوره المبين قائد. صلاة يتضوّع منها الأرج، وترفع بها لهم الدرج، ما أفضى مضيق إلى فضاء الفرج، وسقط عن الأعمى ثقل الحرج. وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وبعد فإني لما وقفت على كتاب المعارف لابن قتيبة رحمه الله تعالى. وجدته قد ساق في آخره فصلاً في المكافيف. فعدّ فيهم أبا قحافة وهو والد أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه، وأبا سفيان بن حرب، والبراء بن عازب، وجابر بن عبد الله، وكعب بن مالك الأنصاريّ، وحسّان بن ثابت الأنصاريّ، وعقيل بن أبي طالب، وأبا أسيد الساعديّ، وقتادة بن النّعمان، وأبا عبد الرحمن السّلميّ، وقتادة بن دعامة، والمغيرة بن مقسّم، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والقاسم بن محمد ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ذهب بصره آخر عمره، وعبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود، ومعاوية بن سبرة، وسعد بن أبي وقّاص ذهب بصره في آخر عمره، وعبد الله بن أبي أوفى ذهب بصره، وعليّ بن زيد من ولد عبد الله بن جدعان ولد وهو أعمى، وأبا هلال الراسبيّ وأبا يحيى بن محرز الضّبيّ.
وذكر بعد هؤلاء ثلاثة مكافيف في نسق: عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وأبوه العباس، وأبوه عبد المطلب.
هذا جملة من وقفت على ذكره في كتاب المعارف.
ثم رأيت الحافظ جمال الدين أبا الفرج عبد الرحمن بن عليّ بن الجوزيّ رحمه الله تعالى قد ساق فصلاً في آخر كتابه تلقيح فهوم أهل الأثر في تسمية العميان الأشراف.
قال: فمن الأنبياء عليهم السلام: إسحاق، ويعقوب، وشعيب، عليهم الصلاة والسلام.
ومن الأشراف: عبد المطّلب بن هاشم، أميّة بن عبد شمس، زهرة بن كلاب، كلاب بن مرّة، مطعم بن عديّ.
ومن الصحابة رضي الله عنهم: البراء بن عازب، جابر بن عبد اللّه، حسّان بن ثابت، الحكم بن أبي العاص، سعد بن أبي وقّاص، سعيد ابن يربوع، صخر بن حرب أبو سفيان، العباس بن عبد المطلب، عبد الله بن الأرقم، عبد الله بن عمر، عبد اللّه بن العبّاس، عبد الله بن عمير، عبد اللّه بن أبي أوفى، عتبان بن مالك، عتبة بن مسعود الهذلي، عثمان بن عامر، أبو قحافة، عقيل بن أبي طالب، عمرو بن أم مكتوم، قتادة بن النعمان، كعب بن مالك، مالك بن ربيعة، أبو أسيد الساعديّ، ومخرمة بن نوفل.
قال: ومن التابعين: عطاء بن أبي رياح، أبو بكر بن عبد الرحمن، قتادة بن دعامة، أبو عبد الرحمن السّلميّ، أبو هلال الراسبيّ. هذا صورة ما ذكره ابن الجوزيّ رحمه اللّه تعالى.
فما زاد على ابن قتيبة إلا بذكر الأنبياء الثلاثة صلى الله عليهم وسلم، ورتب الصحابة على حروف المعجم لا غير.
وكان يمكن ابن الجوزي رحمه الله تعالى الزيادة على ذلك بأضعاف مضاعفة، لتأخر زمانه ووفاته على زمان ابن قتيبة ووفاته رحمه اللّه تعالى. لأنّ ابن قتيبة توفّي في سنة سبع وستين ومائتين، رحمه اللّه تعالى، وابن الجوزي توفي في سنة سبع وتسعين وخمسمائة.
ولكن يمكن الاعتذار لكليهما بأنهما لم يضعا مصنفيهما لاستيعاب ذكر العميان، وإنما ذكرا أشراف من كان أعمى.
ورأيت أبا العباس أحمد بن علي بن بانة قد ذكر في كتابه رأس مال النديم أشراف العميان. فقال: شعيب وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهما، وزهرة بن كلاب بن كعب بن مرّة، وعبد المطلب بن هاشم، والعباس بن عبد المطلب، وعبد اللّه بن عباس، وأميّة بن عبد شمس وكان أعور، والحكم بن العاص، وأبو سفيان بن حرب، والحارث بن عباس بن عبد المطلب، ومطعم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة، وعتبة بن مسعود الهذليّ، وعبيد الله بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود، وأبو أحمد بن جحيش ابن مسعود الأسديّ، وجابر بن عبد اللّه الأنصاريّ، وعبد الله بن أرقم، والبراء بن عازب، وحسان بن ثابت، وقتادة بن النعمان، وأبو أسيد الساعديّ، وقتادة بن دعامة، ودريد بن الصّمّة الجشميّ شهد حنين أعمى فقتل يومئذ، ومخرمة بن نوفل الزّهريّ، والفاكه بن المغيرة المخزوميّ، وخزيمة بن خازم النّهشليّ.
هذا جملة من رأيته قد ذكره في كتابه، وأنت تقارب هذه الأسامي وعدتها بعضها من بعض.
وأرى أن السابق لذلك ابن قتيبة، ثم بعده هذا ابن بانة، ثم ابن الجوزيّ.
وللخطيب أبي بكر خطيب بغداد، جزء جمعه في العميان ولم أره إلى الآن.
وجرى يوماً في بعض اجتماعاتي بجماعة من الأفاضل ذكر فصل استطردت بذكره في شرح لامية العجم. ذكرت فيه جماعة من أشراف العميان، قال لي بعض من كان حاضراً: لو أفردت للعميان تصنيفاً تخصّهم فيه بالذكر، لكان ذلك حسناً.
فحداني ذلك الكلام، وهزّت عطفي نشوة هذه المدام، على إن عزمت على جمع هذه الأوراق، في ذكر من أمكن ذكره أو وقع إليّ خبره وسميته: نكت
الهميان في نكت العميان وقد رتبته على مقدمات ونتيجة. أما المقدمات، فأذكر في كلّ منها فوائد لا يستغني الفاضل عن ذكرها، ولا يسعه أن يفقد شيئاً من درها.

المقدمة الأولى


فيما يتعلق به من اللغة والاشتقاق


قد تتبعت أفراد وضع اللغة العربية، فرأيت العين المهملة والميم، كيفما وقعتا في الغالب وبعدهما حرف من حروف المعجم، لا يدّل المجموع إلا على ما فيه معنى الستر أو ذهاب الصواب على الرأي.
فمن ذلك: عمج عمج يعمج بالكسر، قلب معج. إذا أسرع في السير واعوجّ. وسهم عموج، إذا كان يتلوّى في ذهابه. وتعمّجت الحيّة، إذا تلوّت في سيرها، كأنها لا ترى الطريق الأقوم: قال الشاعر يصف زمام الناقة.


تلاعب مثنى حضرميّ كأنّـه تعمّج شيطان بذي خروع قفر

والعومج الحيّة: وكذلك العمّج بالتشديد: قال الشاعر.

يتبعن مثل العمّج المنشـوش أهوج يمشي مشية المالوش

وقال قطرب: هو العمج، على وزن السبب.
فأنت ترى مفهوم هذه الأوضاع كيف يدل على معنى الستر وذهاب الصواب.
ومن ذلك عمرّد العمرّد بتشديد الراء الفرس الطويل: قال الشاعر.


يصرّف سيداً في العنان عمرّدا

وكذلك طريق عمرّد: قال الشاعر.

خطّارة بالسّبسب العمرّد

ولا بدّ للفرس إذا طال، أن يكون فيه بعض التواء، وذهاب على غير استواء. وكذلك الطريق إذا طالت.
ومن ذلك عمد: عمد البعير إذا انفضح داخل سنامه من الركوب، وظاهره صحيح. كّأن داءه ذاك مستور لا يرى. والعمد إنما يقام به ما مال واعوّج.
ومن ذلك: عمر عمر الرجل بالكسر يعمر عمراً وعمراً على غير قياس لأنّ قياس مصدره التحريك إذا عاش زماناً طويلاً ومن طال عمره التوت عليه سائر الأيام، ومشت به على غير استقامة: من حوادث الدهر وضعف الجوارح. والعمر بالتحريك واحد عمور الأسنان. وهو ما بينها من اللحم. قيل فيه ذلك لمّا كان يستتر فيها. واعتمر في الحجّ إذا اعتم بعمامة. قيل فيه ذلك لمّا كان يستر ما بدا من رأسه. والعمار الريحان تزيّن به مجالس الشراب. قيل فيه ذلك لمّا كان يستر به ما بدا من الأنماط أو غيرها، أو يستر بريحه الطّيبة ريح غيره الكريهة.


ومن ذلك: عمس العماس بالفتح الحرب الشديدة. ولا تكون شديدة إلا وقد عمي الأمر فيها وذهب الصواب على الفوارس. وكذلك داهية عماس أي شديدة. وليل عماس أي مظلم يعني سائر الأشخاص، وأمر عموس أي مظلم، وعماس أيضاً: لا يدري من أين يؤتى له. ومنه: جاءنا بأمور معمسّات أي مظلمة ملوّية عن جهتها. ورجل عموس إذا كان متعسفّاً لا يهتدي لصواب. وتعامس عن الشيء إذا تغافل عنه. وعمس الكتاب إذا درس، فلا يدرك منه حرف.
ومن ذلك: عمرّس مشدد الراء. هو السديد الرأي، القويّ من الرجال: قيل فيه ذلك كأنه يأخذ الأشياء قوة واعتسافاً، لا يفكّر في صوابها ولا خطائها.
ومن ذلك: عملّس مثل العمرّس. هو القويّ على السير: قال الشاعر


عملّس أسفار إذا استقبلت له سموم كحرّ النار لم يتلثّـم

يعني يركب الأهوال، لا يهتدي فيها إلى صواب راحة.
ومن ذلك: عمش العمش في العين رؤيتها مع سيلان الدمعة منها. كأنّ المرئيات تستتر عنها بستور الدموع.
ومن ذلك: عملّص سير عمليص إذا كان سريعاً. قيل فيه ذلك لأنه لا يبالي فيه أين وضع القدم أو الخف أو الحافر.
ومن ذلك: عمط عمط النعمة عمطا بالسكون وعمطها بالكسر عمطاً بالفتح، إذا كفرها. قيل فيه ذلك لمّا سترها وغطّاها ولم يتحدث بها.
والكفر السّتر.
ومن ذلك: عمرط العمروط اللصّ والجمع العماريط. قيل فيه ذلك لأنه لا يجيء إلا مختفياً مستوراً في الليل. والعمرّط بتشديد الراء الخفيف.
وهو الذي لا يذهب على استقامة ولا استواء. والعملط بتشديد اللام الشديد وهو الذي لا يبالي على أي حاليه كان من صواب ومن خطأ.
ومن ذلك: عمق العمق بفتح العين وضمها قعر البئر والفج والوادي. قيل فيه ذلك لما واستتر عن العين. وتعمق في كلامه إذا مال عن جادة الفصيح من الكلام والتوى. والعمق أيضاً ما بعد من أطراف المفاوز. ومنه قول رؤبة:


وقاتم الأعماق خاوي المخترق

ومن ذلك: عملق العمالقة قوم كانوا في قديم الزمان. يذكر أنهم كانوا في غاية من الطول. منسوبون إلى عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح.
وقد تقدم أن كل من طال لابد أن يميل إلى اعوجاج. هذا إن قلنا بأن ذلك عربي، وإلا فلا مدخل لهذا الحرف في هذا الباب.
ومن ذلك: عمل اعتمل الرجل إذا اضطرب في العمل. قال الشاعر:


إن الكريم وأبيك يعـتـمـل إن لم يجد يوماً على من يتكل

قيل فيه ذلك لأن الاضطراب حركة على غير استواء. ورجل عمل بالكسر إذا كان مطبوعاً على العمل. ورجل عمول أيضاً. قيل ذلك فيه: أي لا يبالي بما يلقى فيه من العمل. كأنه غير متبصر لرشده. وطريق معمل: أي لحب مسلوك. قيل فيه ذلك لما كثر ركوبه من كل أحد على غير تبصر لمواضع الأقدام. واليعملة الناقة النجيبة الصبورة على المشي.
ومن ذلك: عمم العمامة ما يوضع على الرأس، وهي تستره. واعتم النبت إذا اكتهل أي ستر الأرض. ويقال للشاب إذا طال: قد اعتم. وشيء عميم أي تام. ونخلة عميمة ونخل عم، يقال ذلك للطويل منه. قيل فيه ذلك لأنه لا يطول إلا وفيه خروج عن الاستقامة. والعامة خلاف الخاصة. قيل ذلك لما كانوا كثيرين لا يحيط بهم البصر، فهم في ستر عنه. وعم اللبن إذا علته الرغوة كالعمامة فسترته.
ومن ذلك: عمن عمن بالمكان إذا أقام به. كأنه استتر فيه عن غيره.
ومن ذلك: عمه العمه التحير والتردد. كأن الإنسان لا يرى دليلاً فيأخذ به. وأرض عمها، لا أعلام بها، أي لا يهتدي فيها إلى سبيل. وذهبت، إبله العمهى بتشديد الميم، إذا كانت لا يدرى مكانها. كأنها في ستر عن راعيها.
ومن ذلك: عمي هذه المادة عمود هذا الباب وقاعدته، وهي المطلوبة بالذات لما يتعلق بهذا الكتاب.
العمى ذهاب البصر وعدم الرؤية واستتار المرئيات عن الناظر. وقد عمي فهو أعمى وقوم عمي. وأعماه الله تعالى. وتعامى الرجل أرى من نفسه ذلك. وعمي عليه الأمر إذا التبس. ورجل عمي القلب أي جاهل، وامرأة عمية القلب بتخفيف الياء على وزن فعلة بفتح الفاء وكسر العين وفتح اللام. وقوم عمون، وفيهم عميهم بتشدي الياء، والأعميان السيل والجمل الهائج. وعمي الموج بالفتح يعمى عمى، رمى القذى والزبد. وعميت معنى البيت تعمية. ومنه المعمى من الشعر. وقرئ فعميت بضم العين وكسر الميم وتشديدها وفتح الياء. وتركناهم في عمى بضم العين وتشديد الميم وبعدها ألف مقصورة، إذا أشرفوا على الموت. والعماء ممدود السحاب. ويقال هو الذي يشبه الدخان ويركب رؤوس الجبال.
والمعامي من الأرضين الأغفال التي لا أعلام لها وليس بها اثر عمارة. وهي الأعماء أيضاً. ويقال أتيته صكة عمي بضم العين وفتح الميم وتشديد الياء أي وقت الهاجرة. وهو تصغير أعمى، مرخماً. وقيل هو اسم رجل من العمالقة أغار على قوم ظهراً فاستأصلهم فنسب الوقت إليه.
وقيل المراد به الظبي لأنه يسدر في الهواجر فيصطك بما يستقبله كاصطكاك الأعمى، ثم إنه صغر تصغير الترخيم، كما صغر وأسود وأزهر. فقالوا سويد وزهير.
فأنت ترى ما ورد في هذه المادة كيف يدور جميعه على الاستتار والاختفاء والله تعالى أعلم.


المقدمة الثانية


فيما يتعلق بذلك


من جهة التصريف والأعراب


أعمى. لا ينصرف لما فيه من العلتين الفرعيتين: وهما الصفة ووزن الفعل. ويكتب بالياء لان مؤنثه عمياء.
والقاعدة عند أهل العربية أن لا يبنى أفعل تعجب ولا أفعل تفضيل من الألوان والعاهات. فلا يقال: هذا اسود من هذا، ولا هذا احمر من هذا في الألوان. ولا يقال: هذا أعور من هذا، ولا هذا أعرج من هذا. بل الصواب أن يقال فيه ذها أشد سواداً وأشد حمرةً، وهذا اشد عرجاً واشد عوراً.
وأورد على هذه القاعدة قوله تعالى ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً. والجواب: أن هذا ليس من العاهات الظاهرة، بل هو من عمى البصيرة. قال الله تعالى فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور. وقرأ أبو عمرو: ومن كان في هذه أعمى بالإمالة فهو في الآخرة أعمى بالتفخيم. طلباً للفرق بين ما هو اسم وبين ما هو أفعل منه: بالإمالة.
وعيب على أبي الطيب قوله في الشيب


إبعد بعدت بياضاً لا بياض لـه لأنت اسود في عيني من الظلم

وقال الناصر له: إن أسود هنا من قبيل الوصف المحض الذي تأنيثه سوداء وأخرجه عن حيز أفعل التفضيل. ويكون على هذا التأويل قد تم الكلام عند قوله لأنت اسود في عيني وتكون من التي في قوله من الظلم لبيان جنس السواد لا أنها صلة أسود.
مسألة لو قلت ما أسود زيداً، وما أسمر عمراً، وما أصفر هذا الطائر، وما أبيض هذه الحمامة، وما أحمر هذا الفرس. فسدت كل مسألة من وجه وصحت من وجه. ففساد جميعها، إذا أردت التعجب من الألوان. وتصحيح جميعها، إذا أردت التعجب من سودد، زيد ومن سمر عمرو. ومن صفير الطائر، ومن كثرة بيض الحمامة، ومن حمر الفرس، وهو نتن فيه من البشم وقول الشاعر:


جارية في درعها الفضفاض ابيض من أخت بني بياض

قالوا فيه أن ابيض هنا ليس للتفضيل، بل صفة لموصوف محذوف تقديره: في درعها جسم أبيض أو شخص أبيض ومن في محل الرفع صفة لأبيض. على أن الكوفيين جوزوا: ما أسوده وما أبيضه في هذين اللونين خاصةً. قالوا لأنهما أصل الألوان. وهو ضعيف. لأن غالب أفعال اللوان لا تأتي إلا على أفعل وأفعال بتشديد اللام فيهما نحو أحمر وأحمار. وهما زائدان على الثلاثي. ولا تبنى أفعل التعجب وأفعل التفضيل إلا من الثلاثي المجرد من الزيادة. لأن أفعل في مثل ما أحسن زيداً الهمزة فيه زائدة ودخلت عليه لتنقل اللازم إلى التعدي، فيصير الفاعل مفعولاً. إذ أصله حسن زيد. فلما دخلت الهمزة على الفعل، صار الكلام تقديره شيء. حسن زيداً.
وشذ قولهم: ما أعطاه للدينار والدرهم! فتعجبوا بالرباعي. وأجازه سيبويه. وكذا: ما أولاه للمعروف وما أفقره! حمله على أنه ثلاثي والصحيح أنه رباعي فلذلك حكم بشذوذه.
مسأله وإنما قالوا في السكران: ما أشد سكره! ولم يقولوا: ما أسكره! وهو ثلاثي لأن فعله سكر وليس بخلق ولا لون ولا عيب ظاهر، فرقا بينه وبين قولهم: ما أسكره للنهر. وكذلك لم يقولوا: ما أقعده في الكان، فرقا بينه وبين ما أقعده في النسب. ولا يتعجب من الخلق أيضاً والمراد بالخلق الأعضاء كاليد والوجه والرجل. فلا تقل: ما أيداه! وما أرجله! وما أوجهه! فإن أردت ما أوجهه من الوجاهة وما أرجله من الشؤم على غيره جاز.
ويتعجب من العيوب الباطنة، كالحمق والرعونة فيقال: ما أحمقه! وما أرعنه! ومنه ما تقدم في قوله تعالى فهو في الآخرة أعمى. لأنه من عمى البصيرة.
تقول رجل أعمى وأعميان وأعمون بفتح الميم، في ذلك كله. وأعمون جمع سلامة. وأجاز الكوفيون ضم الميم في الجميع. وتقول في جمع التكسير: عميان. تقول عمي عمىً فهو عم من عمى القلب، وعمي يعمى فهو أعمى من عمى البصر. وجمع عم عمون. قال الله تعالى: بل هم منها عمون. وجمع أعمى عميان وعمي. قال الله تعالى لم يخروا عليها صماً وعمياناً.
وقال تعالى: صم بكم عمي. والنسبة إلى أعمى أعموي بفتح الهمزة وسكون العين وفتح الميم وكسر الواو. والنسبة إلى عم عموي بفتح العين والميم كما يقال في شج شجوي.
وفي المثل: ربما أصاب الأعمى رشده، وربما قيل فيه: بما أصاب: الأعمى رشدة فحذفوا الراء من ربما. قال حسان:


إن يكن غث من رقاش حديث فبما تأكل الحديث السمـينـا

قالوا: أراد ربما.
وقد يجوز أن تكون الباء للبدل. كما يقال: هذا بذاك.
وفي المثل: أعمى يقود شجعةً بالشين المعجمة المفتوحة والجيم المفتوحة والعين المهملة والشجعة الزمني. وقيل: الشجعة بسكون الجيم الضعيف.
وقولهم: صكة عمي بضم العين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء: هو اشد ما يكون من الحر أي حين كاد الحر يعمي. وقيل: حين يقوم قائم الظهيرة. وقيل: إن عميا هو الحر بعينه. وأنشدوا:


وردت عميا والغزالة بـرنـس بفتيان صدق فوق خوص عياهم

وقيل: عمي رجل من عدوان كان يفتي في الحج. فأقبل معتمراً ومعه ركب، حتى نزلوا بعض المنازل في يوم شديد الحر، فقال عمي: من جاءت عليه هذه الساعة من غدو هو حرام لم يقض عمرته وهو حرام إلى قابل. فوثب الناس في الظهيرة يضربون حتى وافوا البيت. وبينهم وبينه ليلتان، فضرب مثلاً يقال أتانا صكة عمي، إذا جاء في الهاجرة الحارة.
وفي المثل: تطرق أعمى والبصير جاهل. الطرق هو الضرب بالحصى. يضرب لمن يتصرف في أمر ولا يعلم مصالحه، فيخبره بالمصلحة غيره من خارج.
وفي المثل: إحذر الأعميين، الجمل الهائج والسيل: وفي أمثال العوام الأعمى يجري على السطح ويقول ما رآني أحد.
وفي المثل: أيضاً قد ضل من كانت العميان تهديه.


المقدمة الثالثة


حد العمى


قيل في تعريفه: إنه عبارة عن عدم البصر عما من شأنه أن يبصر. وكذا الصمم عبارة عن عدم السمع عما من شأنه أن يسمع. فالعمى والصمم حينئذ معنيان وجوديان متضادان. وقد نازع الفلاسفة في هذا للمتكلمين نزاعاً شديداً. وقالوا إن تقابل السمع والصمم وتقابل العمى والبصر، تقابل العدم والملكة لا تقابل الضدين.
فصل من الناس من قال إن السمع أفضل من البصر. لأن الله تعالى حيث ذكرهما في كتابه العزيز، قدم السمع على البصر: حتى في قوله تعالى صم بكم عمي. فقدم متعلق السمع على متعلق العين، والتقدم دليل الفضيلة. ولأن السمع شرط في النبوة، بخلاف البصر. ولذلك لم يأت في الأنبياء صلى الله عليهم من كان أصم. وجاء فيهم من طرأ عليه العمى. وسيأتي الكلام على منع جواز العمى على الأنبياء صلى الله عليهم. قالوا وبالسمع تصل نتائج العقول. فالسمع كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف والعلوم. وهو متصرف في الجهات الست، والبصر لا يتصرف إلا فيما يقابله من المرئيات. ولأن السمع أصل للنطق. ولهذا لا ترى الأخرس إلا أصم.
وقيل سبب خرسه أنه لم يسمع شيئاً ليحكيه. والبصر إذا بطل لم يبطل النطق. ومن قال إن البصر أفضل استدل بان قال: متعلق القوة الباصرة هو النور ومتعلق القوة السامعة هو الريح. والنور أفضل من الريح. قال صاحب الكشاف: البصر نور العين، كما أن البصيرة هي نور القلب. قلت: ولا شك أن أدلة فضيلة السمع أقوى من دليل فضيلة البصر.
وللشيخ تقي الدين أبي عباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى كراسة في ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
خاتمة الأعمى هل له حظ في الرؤيا أولاً.
بعض الناس قال: الأعمى يرى المنامات وبعضهم قال: لا يرى.
والصحيح أن المسألة ذات تفصيل. وهو أن الأعمى، إن كان قد طرأ عليه العمى بعد ما ميز الأشياء فهذا يرى. لأن القوة المتخيلة منه ارتسم فيها صور الأشياء من المرئيات، على اختلاف أجناسها وأنواعها. والقوة المخيلة قادرة على أفعالها في جميع الأحوال، إلا أنها لا تتصور الأشياء باختيارها، لأنها ليست قوة إرادية. وإن كان الأعمى قد ولد أكمة ولم ير الوجود ولا ما فيه من المرئيات فهذا يرى الأحوال التي يقابلها ويباشرها. كما أنه يرى أنه يأكل أو أنه يشرب أو أنه راكب على فرس أو حمار أو أنه يخاصم آخر، إلى غير ذلك من الأحوال التي يباشرها. وقد قال الرئيس ابن سينا: إن المولود يضحك بعد الأربعين يوماً، ويرى الرؤيا بعد أربعة اشهر.
قلت: الظاهر أنه ما يرى إلا انه يرضع ثدي أمه. فإنا نشاهد كثيراً من الأطفال يكون نائماً وهو يرضع، ولا ثدي في فمه. وكذلك نرى كثيراً من الخيل وهو واقف نائماً، ثم إنه في أثناء ذلك يصهل وهو نائم، كأنه يرى أنه بين خيل يألفها أو ما أشبه ذلك. وقال أرسطو في كتاب الحيوان: إن الكلاب ترى الأحلام في منامها. وأما أن الأعمى الذي ولد أكمة ولم ير العالم فإنه لا يرى في نومه شمساً ولا قمراً ولا نجوماً ولا سماءً ولا أشجاراً ولا بحاراً ولا غير ذلك مما لم ترسمه المخيلة منه فهذا هو وجه الصواب في هذه المسالة على ما فصلته والله أعلم.
علاوة قال العابرون: من رأى في منامه أنه عمي دلت رؤياه على الغنى وإن حلف يميناً لم يحنث، لقوله تعالى: ليس على الأعمى حرج.
ومن رأى أنه أعمى فإنه ينسى القرآن، لقوله تعالى: قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى.
ومن رأى أن إنساناً أعماه فإنه يضله. وغن كان كافراً فرأى أن إنساناً أعماه فإنه يزيله عن رأيه.
قالوا: والأعمى رجل فقير يعمل أعمالاً لا تضر به في دينه لسبب فقره. فإن رأى كافراً أنه أعمى فإنه يصيب خسراناً أو غرماً أو هماً.
فإن رأى أنه أعمى ملفوف في ثياب جدد فإنه يموت.
قالوا: ومن رأى أنه أعمى فإن عليه غزوة أو حجة، لقوله تعالى: ولله على الناس حج البيت. فإن رأى أعمى أن ساقياً سقاه شراباً فإن الساقي يرشده إلى منافع تنزل به ويتوب ويتمول.
قالوا: وإن رأى صحيح أنه أعمى فإنه يخمل ذكره ولا يؤبه له في قوله. وربما كان تأويله أنه ينال حكماً وعلماً لقصة إسحاق ويعقوب عليهما الصلاة والسلام.
فإن رأى أعمى أنه استدبر القبلة فهو في ضلالة.
وقالت النصارى: من رأى كأن عينه قد عميت، فإنه حل يهتك الستر بينه وبين الله تعالى.
وأما فقء العين. فمن رأى أن عينه فقئت فإنه يتقاضى أو يجازى بشيء كان منه، لقوله تعالى: العين بالعين. فإن فقئت كلتاهما فإنه ينقطع عنه ولد قرة عين، أو يرى فيما تقر به عينه من مال أو ولد أو دار أو شيء مما يملكه ما يكره من عنف وشدة.
قالوا: وأما العمى فهو ضلالة عن الدين، وهو أيضاً ميراث كبير من عصبة قد كان له في أجداده مكفوف. وقد كان يعطى كل مكفوف سهماً من ميراث من يموت من عصبته. وقال أرطاميذورس: رأى إنسان كأن آخر يقول له لا تخف، فإنك لا تموت ولا تقدر أن تعيش، فصار أعمى وكان ذلك بالواجب. فإنه لم يمت ولكن عدم ضوء بصره.
وقال العابرون أيضاً: من رأى أن عينيه ذهبتا، مات أولاده أو إخوته أو أقاربه. رأى الحجاج بن يوسف الثقفي كأن عينيه سقطتا في حجره فلما أصبح نعي أخيه محمد وولده محمد. فإن كان الرائي فقيراً أو محبوساً، فإنه يدل على أنه لا يعود يرى شيئاً مما هو فيه من الشر. فإن رأى ذلك من يريد السفر فإنه يدل على أنه لا يرجع إلى الوطن. لأن المكفوف لا يمكنه أن يرى الغربة ولا أن يرى وطنه.
ومن رأى كأن عينيه عيناً إنسان آخر، فإن ذلك يدل على ذهاب بصره وعلى أن غيره يهديه الطريق. فإن عرف الرائي ذلك الغريب، فإنه يتزوج ابنة ذلك الرجل أو قريبته أو يناله منه خير.
تتمة هل يبصر الأعمى ملك الموت بعينيه أولاً ذكر ابن أبي الدنيا رحمه الله عن بعض السلف أنه قال فيه: إن الأعمى يرى ملائكة ربه عند قبض روحه.
قلت: ما لهذا خصوصية بالأعمى فإنا رأينا جماعة ممن كانوا في السياق وهم يقولون السلام عليكم ويشيرون لمن يرونه ويخاطبونهم، ونحن لا نراهم. وهذا كثير مستفاض بين الناس.
فصل العميان أكثر الناس نكاحاً. وفي المثل: أنكح من أعمى. أورده الميداني في أمثاله. حكى ابن المرزبان في تاريخه عن الأصمعي أنه قال: هما طرفان ما ذهب من أحدهما زاد في الآخر.
قلت: ولهذا نرى الخدام وهم الخصيان يعمر الإنسان منهم وبصره قوي. والخادم إذا جب من أسفل لم تنبت له لحية. وكذا الإنسان إذا حصل له صداع في رأسه تحك رجلاه فيسكن الألم.
قيل إن بعض الخدام كان واقفاً على رأس سيده وهو في الفراش يشكو من وجع رأسه. فحضر الطبيب إليه فشكا ألمه. فقال: حك رجليلك يسكن الألم. فضحك الخادم وقال: سيدي يشكو أعلاه وأنت تداوي أسافله! فقال: أنت شاهدي على ذلك لأن خصيتك لما قطعت لم تنبت لك لحية.
فضل قال إبراهيم بن هانئ: من تمام آلة القصص أن يكون القاص أعمى، ويكون شيخاً بعيد مدى الصوت.
قلت: ومن شرط الأعمى، إذا كان سائلاً أن يكون يحفظ سورة يوسف عليه السلام.
قال أرسطو في كتاب الحيوان: الخطاطيف إذا عمين أكلن من شجرة يقال لها عين شمس، فيبصرن بعد العمى. وهذه الشجرة لها منفعة في العين التي لا تبصر والتي يخاف عليها من اجتماع الماء. قال: والحيات إذا ساخت في الأرض اظلم بصرها. فإذا خرجت إلى الأرض طلبت الرازيانج فمرت بعينها عليه فعند ذلك ينقى بصرها من الظلمة.
قلت: الرازيانج هو السمر وينبغي أن يغسل قبل أكله في أول دخوله لهذه العلة قال: والضب إذا خرج من جحره لا يبصر شيئاً إلى أن يستقبل الشمس ساعة، فحينئذ يرى.
وقال الرئيس أبو علي ابن سينا: وكل حيوان يلد حيواناً فله عينان إلا الخلد. ويشبه أن يكون له عينان لكنهما مغشيتان بجلد رقيق لضعفهما، وإنما يدركان الأظلال دون الألوان والأشكال والله أعلم.


المقدمة الرابعة


قوله تعالى عبس وتولى


أن جاءه الأعمى. هذا الأعمى هو ابن أم مكتوم. وسيأتي الخلاف في اسمه عند ذكر اسمه. ويأتي ذكر أمه وهو الذي صار مؤذناً للنبي صلى الله عليه وسلم. وكان قد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل ابن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام. فقال ابن أم مكتوم أقرئني وعلمني مما علمك الله. وكرر ذلك. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع كلامه وأعرض عنه. فنزلت هذه الآيات. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه بعد ذلك ويقول إذا رآه مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ويقول: هل لك من حاجة? واستخلفه على المدينة مرتين. وأورد الإمام فخر الدين رحمه الله تعالى هنا سؤالات.


الأول إبن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزجر، فكيف عاتب الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه? واستحقاقه لوجوه: الأول: إنه وإن كان أعمى لا يرى القوم لكنه يسمع كلامهم وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم. وكان يعرف بواسطة كلامه لهم شدة اهتمامه بشأنهم وكان اعتراضه وإلقاء كلامه في الناس قبل تمام عرض النبي صلى الله عليه وسلم معصية.
قلت: يحتمل أن ابن أم مكتوم طلع عليهم دفعة واحدة ولم يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم لهم ولا أحس بمن عنده من الصناديد. لأنه كان يعلم محل المذكورين فلا يقطع عليهم كلامه صلى الله عليه وسلم.
قال: والوجه الثاني. أن الأهم مقدم على المهم. وهو كان قد أسلم ويعلم ما يحتاج إليه من أمر الدين، وأولئك كانوا كفاراً وما أسلموا. وكان إسلامهم سبباً لإسلام جمع عظيم. فالقاء ابن أم مكتوم كلامه بين الناس سبب في قطع ذلك الخير العظيم.
قلت: هذا أيضاً مفرع على أن ابن أم مكتوم كان يعلم أن صناديد قريش كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أبدينا الاحتمال فاندفع.
قال: الوجه الثالث. أنه تعالى قال: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون. فهذا النداء الذي صار كالصارف للكفار عن قبول الإيمان، وكالقاطع على الرسول أعظم وكان أولى أن يكون ذنباً ومعصيةً وأن الذي فعله الرسول كان واجباً.
قلت: ليس قول ابن أم مكتوم: يا رسول الله علمني مما علمك الله كالذي ينادونه من وراء الحجرات: يا محمد! أخرج إلينا. فإن الرسول لو ألقى إليه ذلك الوقت شيئاً مما علمه الله لكان خيراً لمن يسمعه.
قال: السؤال الثاني انه تعالى عاتبه على مجرد كونه عبس في وجهه، ويكون ذلك تعظيماً عظيماً لابن أم مكتوم وكيف يليق بمثل هذا التعظيم أن يذكر باسم الأعمى. وإذا ذكر الإنسان بهذا الوصف اقتضى ذلك تحقيره.
قال السؤال الثالث الظاهر أنه كان صلى الله عليه وسلم مأذوناً له أن يعامل أصحابه على حسب ما يراه مصلحة. وكان كثيراً ما يؤدب أصحابه ويزجرهم عن أشياء. وكيف لا يكون ذلك، وهو إنما بعث ليؤدبهم ويعلمهم محاسن الآداب، وإذا كان كذلك كان التعبيس داخلاً في تأديب أصحابه. فكيف وقعت المعاتبة? قال رحمه الله تعالى: والجواب عن السؤال الأول من وجهين.
الأول أن الأمر وإن كان على انه تكريم إلا أن ظاهر الواقعة يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وانكسار قلوب الفقراء. فلهذا خلصت المعاتبة. ونظيره قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.
قلت: ما هو من ظاهر الواقعة، بل هو من صريح القرآن، لقوله تعالى: أما من استغنى فأنت له تصدى.
قال: الوجه الثاني لعل هذا العتاب ما وقع على ما صدر من الرسول من الفعل الظاهر، بل على ما كان منه في قلبه. وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان قد مال قلبه إليهم بسبب قرابتهم، وكان ينفر طبعه عن الأعمى بسبب عماه وعدم قرابته وقلة شرفه فلما وقع ذلك حصلت المعاتبة لا على التأديب بل على التأدب لهذا المعنى.
قلت: سبحان العليم بما كان في ذلك الوقت وهو خلاف ظاهر الواقعة.
قال والجواب عن السؤال الثاني أن ذكره بلفظ الأعمى ليس بتحقير له بل كأنه قيل: بسبب عماه استحق مزية الرفق له والرأفة فكيف يليق بك يا محمد أن تخصه بالغلظة? والجواب عن السؤال الثالث أنه صلى الله عليه وسلم كان مأذوناً له في تأديب أصحابه: لكن ههنا لما أوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وكان ذلك ما يوهم ترجيح الدنيا على الدين، فلهذا السبب جاءت هذه المعاتبة.
قلت: ليس هذا مما فيه إيهام تقديم الدنيا على الدين لأن أولئك الكفار لو أسلموا لأسلم بإسلامهم جمع عظيم من أتباعهم وألزامهم وأزواجهم ومن يقول بقولهم. ولهذا المعنى رغب صلى الله عليه وسلم في إسلامهم وطمع فيه. وذلك غاية في الدين.
قال: المسئلة الثانية القائلون بصدور الذنب عن الأنبياء تمسكوا بهذه الآية. وقالوا: لما عاتبه في ذلك الفعل. دل على أن ذلك الفعل كان معصية، وهذا بعيد. فإنا قد بينا أن ذلك كان هو الواجب المتعين وهذا جار مجرى ترك الأفضل وترك الاحتياط. فلم يكن هذا ذنباً ألبتة.
وقوله تعالى: "وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن اله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور". هذه أمثال ضربها الله تعالى في حق المؤمنين والكفار فقوله: الأعمى والبصير، أي العالم والجاهل والمؤمن والكافر، ولا الظلمات ولا النور، أي الكفر والإيمان ، ولا الظل ولا الحرور، أي الجنة والنار أو ظل الليل وسموم النهار أو الحرور بمنزلة السموم وهي الريح الحارة ويكون ليلاً ونهاراً والسموم لا يكون إلا نهاراً. قال أبو عبيدة الحرور يكون في النهار مع الشمس. وما يستوي الأحياء ولا الأموات العلماء والجهال أو المؤمنون والكافرون.
فإن قلت ما فائدة تكثير الأمثلة ههنا وتكريرها. قلت: البصير وإن كان سليم العين بخلاف الأعمى فإنه لا يرى شيئاً ما لم يكن في نور وضياء. فأتى بذكر النور لأجل البصير وهو الإيمان. فاستعان البصير وهو المؤمن بنور الإيمان على رؤية الهدى. وأتى بذكر الظلمات وهي الكفر لأجل الأعمى فكان الكافر في ظلمة البصر وظلمة الضلال. ثم قال: ولا الظل ولا الحرور فنبه على أن حالتي المؤمن والكافر متباينتان. لأن المؤمن بإيمانه في ظل وراحة والكافر في حرور وتعب.
ثم قال: وما يستوي الأحياء ولا الأموات. نبه على أن الأعمى يشارك البصير في بعض الادراكات فيكون في قرب ما من مساواته. لأن كلاً منهما حي متحرك حساس مدرك، وإن كان الأعمى أنقص إدراكاً من البصير. أما الحي والميت، فليس بينهما مساواة ولا مداناة بوجه ما في الإدراكات. فقال تعالى إن المؤمن لا يستوي مع الكافر، لأن المؤمن حي والكافر ميت فالبون بينهما بعيد، والفرق بينهما مبين. لأن الحي متحرك حساس مدرك والميت جماد عديم الحياة والحس الإدراك. فنافاه من كل وجه، وباينه في كل صفة.
فإن قلت كيف كرر حرف النفي في موضع دون موضع. قلت: التكرار إنما يؤتى به للتوكيد. وقد تقرر فيما تقدم أن الأعمى يشارك البصير في صفات كثيرة، وإنما باينه في الإحساس بالمرئيات. فما بينهما من التضاد والمنافاة كما بين النور والظلمة. وكما بين الظل والحرور، فالمنافاة في هذين الموضعين للذات، بخلاف الأعمى والبصير. لا سيما والمراد بهما المؤمن والكافر. فالكافر ليس بأعمى حقيقةً، وإنما استعير له ذلك لأنه لم ير الحق والصواب. ولذلك أتى بحرف النفي أيضاً بين الأحياء والأموات. لأن المنافاة متحققة هنا أيضاً.
فإن قلت: كيف أخر الأشرف في قوله تعالى والبصير وقوله تعالى ولا النور وقدم الأخس في قوله تعالى: الأعمى والظلمات. قلت: جاء به على أصل الواقع. لأن الكافر أعمى والكفار كانوا قبل البعثة. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم آمن به من آمن. فانتقل من العمى إلى البصر. فكان الكفر متقدماً على الإيمان. فقدم ذكر الأعمى لذلك وعطف الظلمات على الأعمى وعطف النور على البصير.
فإن قلت: وهذا ينقض عليك بقية الآية وهو تقديم الأشرف على الأخس في مكانين وهو الظل والأحياء قدما على الحرور وعلى الأموات. قلت: قد تقدم أنه لما ضرب المثل للمؤمن والكافر بالأعمى والبصير وأكد ذلك بالظلمات والنور، لأنهما أمس بالأعمى والبصير من الظل والحرور، ومن الحياة ومن الموت، انتقل بعد ذلك إلى بيان حاليهما. فقال إن حاليهما متباينان، فأتى به على القاعدة في تقديم الأشرف على الأخس. فقدم الظل على الحر، والحياة على الموت. ومن قال: إنما أتى بذلك طلباً للمناسبة بين رؤوس الآي، ليناسب بين البصير والنور والحرور فليس في شيء. والذي ذكرته أدخل في أقسام البلاغة وأثبت على محل الإعجاز.
فإن قلت: كيف أفرد لفظ الأعمى والبصير والنور والظل وجمع لفظ الظلمات والحرور والأحياء والأموات? قلت: أما إفراد الأعمى فيلزم منه على مقتضى الفصاحة إفراد البصير، وهكذا جمع الأحياء يلزم منه جمع الأموات، عملاً بمقتضى الفصاحة. وأما إفراد الأولين وجمع الثانيين فإن الإفراد معناه القلة والجمع معناه الكثرة. فأتى بذلك على الأصل الواقع لأن المؤمنين كانوا قليلين. ولما نشر الله الدعوة ودخل الناس في دين الله أفواجاً حسن أن يضرب المثل لهم بالكثرة. ويؤيد ما قلته أن السورة مكية. وفي ذلك بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم وأن أمر الإيمان والمؤمنين يؤول إلى الكثرة. وفي ذلك طمأنينة له صلى الله عليه وسلم وتثبيت ليعلم العاقبة من أمره. وأما إفراد النور، وجمع الظلمات. فقد تقرر أن هذه أمثلة ضربها الله تعالى للمؤمن والكافر. والمؤمن من اتبع الحق وآمن به. والحق هو شيء واحد وهو الإيمان بالله تعالى. وأما الكفر، فإنه جنس تحته أنواع متعددة الأباطيل: من عبادة الكواكب والإشراك بالله وعبادة الأصنام واعتقاد الدهريين إلى غير ذلك من المقالات الفاسدة التي يجمعها الكفر. فلذلك قال تعالى: ولا الظلمات ولا النور. أي لا يستوي أنواع الضلالات ونوع الهدى. هيهات! وقيل: النور لا يكون إلا باجتماع ثلاثة أشياء وهي المنور والنور نفسه والمستنير وهو الجسم الذي يقبل الاستنارة وعدم الحائل وكذلك الظلمة. فقد قابل الظلمات بشيء هو مجموع من هذه الأمور.
وهذا بعيد. والأول أولى.
وأما إفراد الظل وكون الحرور أتى بهذه الصيغة وهي فعول مثل قبول وطهور للمبالغة. ولم يقل الظل ولا الحر لأن الظل هو شيء واحد يضاد أنواع الحر: من السموم، ومن حر النار، ومن تصاعد الأبخرة من الأرض الكبريتيه إلى غير ذلك مما يتوهج به الجو ويسخن به الهواء. فلذلك حسن إفراد الصيغة وتخصيص الحرور بهذه الصيغة.
فإن قلت: فقد قال تعالى تتفيأ ظلاله، فقد جمع الظل. قلت: إنما أراد هناك الجمع لأن الشمس إذا أشرقت ضرب ظل الشخص إلى جهة الغرب فكلما أخذت الشمس في الارتفاع أخذ الظل في التقلص شيئاً فشيئاً فصار كل قدر من الظل فرداً، ومجموع الأفراد من غاية الطول وهلم جراً إلى غاية القصر ظلال. وكذلك إذا جنحت الشمس ومالت عن الاستواء إلى جهة الغرب، برز الظل أقصر ما يكون، ثم تزايد شيئاً فشيئاً وتطاول إلى أن يبلغ الغاية في جهة المشرق. فثبت أن ظل الشرق وظل الغرب ظلال. والله الموفق للصواب.
وقوله تعالى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال مجاهد والضحاك ومقاتل أعمى عن الحجة. وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقيل إن هذا القول ضعيف لأنهم في يوم القيامة لا بد وإن يعلمهم الله تعالى ببطلان ما كانوا عليه حتى يتميز الحق عن الباطل. ومن تكون هذه حاله لا يوصف بذلك إلا مجازاً. يراد أنه كان من قبل كذلك. وحينئذ لا يليق بهذا قوله وقد كنت بصيراً ولم يكن كذلك في الدنيا. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى: ومما يؤيد هذا الاعتراض أنه تعالى علل ذلك العمى بأن المكلف نسى الدلائل. فلو كان العمى الحاصل في الآخرة عين ذلك النسيان، لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر في الآخرة، كما انه لم يكن به ضرر في الدنيا. قال: الأرواح الحاصلة في الدنيا التي تفارق أبدانها جاهلة بكون جهلها سبباً لأعظم الآلام الروحانية.
قلت: قد أغرب الإمام في هذا الجواب. ومال في هذا إلى القول بالمعاد الروحاني وأعرض عن المعاد الجسماني. والصواب أن يقال فيه: إن من اعرض عن ذكر الله تعالى في الدنيا وقد كان بصيراً يحشره الله تعالى وهو في حيرة لا يهتدي إلى طريق يسلكها إلى الخلاص من العذاب. كالأعمى الذي يقف متحيراً بلا قائد يرشده ويقوده إلى النجاة. ولهذا قال الله تعالى وكذلك أتتك آياتنا فنسيتها. أي فلم تعمل بها ولم يقل فلم ترها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق