الأحد، 17 مارس 2013

كونفوشيوس أو العودة اللامتناهية

سواء من قبل الغربيين أو من الصينيين، في القرن السابع عشر الأوروبي أم في الصين اليوم، تعرّض كونفوشيوس للاستغلال بالمحاربة حيناً وبالمديح حيناً آخر. واليوم تُفضّل القراءة المحافِظة "للمحادثات" التي خلّفها وراءه.

لماذا يعود كونفوشيوس للظهور باستمرار في الصين الحالية؟ وكيف يمكن، بعد ألفين وخمسمئة سنة، تفسير القيمة الرمزيّة التي اكتسبها هذا المعلّم الحكيم القديم الذي عاش بين القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وذلك في صين القرن العشرين التي يشهد تصاعد نفوذها الاقتصادي والجغراسي أوجه، وسط عالمٍ معولم؟
يجدر التذكير بأنّ اسم كونفوشيوس هو التعبير اللاتيني لكلمة كونغ فوزي الصينية ("المعلّم كونغ")، وهو من ابتداع المرسلين اليسوعيين، الذين كانوا أوّل من نشر الاسم في أوساط النخب الأوروبية. بحسب مصادر العصر القديم الصينيّ، خصّص المعلّم حياته لتدريب مجموعةٍ من التلامذة على فنّ حكم البلاد وحكم الذات، استناداً إلى روحية الشعائر والحسّ الإنساني. راجت تعاليمه ومجموعة من النصوص المنسوبة إليه، عقب توحيد الحيّز الصيني من قبل الإمبراطور الأوّل، في العام 221 قبل الميلاد، كي تشكّل الركن العقائدي للنظام الإمبراطوري الجديد. ومنذ ذلك الحين حتّى بداية القرن العشرين، اختلطت صورة كونفوشيوس بمصير الصين الإمبراطورية، لدرجة أنّها قد تبدو اليوم بامتياز رمزأً للهويّة الصينية. تلك هي على الأقل نظرة العالم الغربي، وهكذا يتمّ التعريف بها وتمجيدها واستخدامها في الصين القاريّة.
نكاد ننسى كافة التقلّبات التي عرفتها صورة كونفوشيوس هذه خلال مراحل الحداثة الصينية، والتي جعلتها أوّلاً تمرّ بقرنٍ من التدمير، وذلك بين ستينات القرن التاسع عشر وستينات القرن العشرين. إذ أنّ منعطفاً تاريخيّاً جديداً بدأ يرتسم انطلاقاً من حرب الأفيون الثانية خلال ستينات القرن التاسع عشر؛ وقد ساهمت هذه الحرب في إيقاظ النخب الصينية على تفوّق الدول الغربية، وأدّت في العام 1898 إلى محاولة أولى (فاشلة) لإجراء إصلاحٍ سياسي، وفق النموذج اليابانيّ خلال حقبة ميجي [1]. استتبعها في بداية القرن العشرين سلسلةً من الأزمات المأساوية: ففي العام 1905، شكّل تقويض النظام الشهير للامتحانات المعروف "بامتحانات المندارين" (الموظّفين الكبار) [2]، وهو ركن أساسيّ قديم من أركان النظام الإمبراطوري، بدايةً لمسار "العلمنة" الحديثة على الطريقة الصينية. تسبّب ذلك بالانهيار النهائيّ لسلالة الكينغ المنشورية، ومعها للنظام الإمبراطوري برمّته بعد بضعة أعوام، لتحلّ مكانها في العام 1912 أوّل جمهورية صينيّة أعلنها صن يات سين.
أمّا على المستوى الرمزيّ، فالأزمة التي كان لها التأثير الأعمق والأطول على الأذهان كانت أزمة حركة 4 آيار/مايو 1919، التي عكست مشاعر الكبت لدى المثقّفين جراء اصطدامهم بالواقع الصينيّ المهين. فالحداثة، بالنسبة إليهم، لا تتحدّد إلاّ من خلال مصطلحات العلم والديموقراطية، الغربيّة حتماً، وتتطلّب "تقويض كونفوشيوس" الذي اعتبر مسؤولاً عن كافّة المشاكل التي تعاني منها الصين، وعن انحطاطها المادي والأخلاقي. ومن خلال السعي لتحقيق حداثة على الطريقة الغربيّة، اتّخذ الخارجون عن التقاليد في حركة 4 آيار/مايو المنحى نفسه الذي سلكه التحليل الماركسيّ، من خلال نفي الكونفوشيّة إلى "متحف التاريخ".

من ماكس فيبير إلى ماو تسي تونغ، اتّهم المعلّم القديم بالمحافظة

عند منعطف العشرينات، صدر تشخيصٌ آخر، غربيّ أيضاً، يدين الكونفوشيّة بجذريّة أكبر؛ ألا وهو تشخيص عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبير، الذي كان مهتمّاً بإظهار العوامل الإيديولوجية (الأخلاقية البروتستانتية، بحسب رأيه) في منابع الرأسمالية في أوروبا. استنتج فيبير في سياق تحديده للشروط الماديّة لإمكانية قيام الرأسمالية في الصين، أنّ العوائق أمام هذا النهوض هي إيديولوجية، وفي مقدّمتها الكونفوشيّة. نتيجة ذلك، بدا التخلّص نهائياً من هذا الثقل الميّت شرطاً إلزامياً لأيّ رغبة في الارتقاء إلى مستوى الحداثة الغربية.
بعد جيلٍ على العام 1919، طبع تاريخ 1949 المعروف، عقب انتهاء الحرب الصينيّة-اليابانية والحرب الأهليّة، حدث إرساء الجمهوريّة الشعبيّة من قبل الشيوعيين، وهروب الحكومة الوطنيّة إلى تايوان، في حين تبعها العديد من المثقفين المعادين للماركسية الذين راحوا يتتبّعون بقلق، منذ نفيهم، المنعطف الذي اتّخذته الصين الماوية. وستبلغ هذه الأخيرة مرحلة قصوى مدمّرة مع "الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى" التي أطلقها ماو تسي تونغ في العام 1966، وسقطت مع وفاته بعد عشرة أعوام، والتي بدت كتوجّهٍ راديكالي متطرّف لحركة 4 آيار/مايو 1919، خصوصاً من خلال تصميمها على محو آثار المجتمع التقليديّ.
إلاّ أنّه بعد قرنٍ على تدمير الإرث الكونفوشيّ، شهدت الأعوام الثلاثين الأخيرة انعكاساً للمسار. فبدءاً من الثمانينات، لوحظ تحوّل مذهل، بدأ تلمّس إشاراته الأولى في هوامش الصين القاريّة. هكذا انتقلت الكونفوشيّة بين ليلةٍ وضحاها تقريباً من كونها عقبة أداء إلى محرّكٍ أساسيّ لحركة التحديث. ليس لهذا التحوّل علاقة كبيرة بالكونفوشيّة ذاتها، إنّما بوضعٍ تاريخي واقتصادي غير مسبوق: فبعد السنوات العشر التي دامت خلالها الثورة الثقافية، تمّ التخلّي عمليّاً عن النموذج الشيوعي في الصين نفسها، في حين شهدنا في الأطراف على ازدهارٍ اقتصاديّ غير مسبوق لـ"التنانين الأربعة الصغيرة" (تايوان، هونغ كونغ، سنغافورة، وكوريا الجنوبية) التي اقتفت أثر اليابان. هكذا ارتسمت "هوامش الإمبراطورية"، إلى جانب "القيم الآسيوية" التي تجاهر بها، في مركزيّة مثالية، وأصبحت موضع اهتمام الجميع، خصوصاً الغربيين.
في الواقع، في الوقت الذي شهدت خلاله الشيوعيّة في الصين، إنما أيضاً في أوروبا الشرقية، أزمةً كبيرة، اعتقدت المجتمعات الغربية الرأسمالية بأنّها تتلمّس مؤشرات الانحسار في مسارها التنمويّ الخاص. ضمن هذا الإطار، استُحضرت "القيم الكونفوشيّة" (منح أهميّة للعائلة، واحترام التراتبية، والتشجيع على العلم، وحبّ العمل الدؤوب، وحسّ الادّخار، الخ) التي يُفترض عبرها تفسير ازدهار نظامٍ رأسمالي آسيويّ خاصّ، يأتي في الوقت المناسب لإيجاد حلٍّ لقصور النموذج الغربي الحداثيّ عبر تخطّيه.

فرصة لثأرٍ مشهود على التفوّق الغربي

يجب البحث عن العامل الذي تسبّب بانعطاف الثمانينات هذا في الوضع العالميّ، ومركزه ليس موجوداً في المجتمعات الصينية بحدّ ذاتها، إنّما في الأوساط الصينيّة المتأثرة بالغرب والتي تتكلّم الإنكليزية، في الولايات المتحدة وسنغافورة. إذ طالت العدوى في منتصف هذا العقد، الصين الشعبية التي كانت تودّ كثيراً الالتحاق بقطار النزعة الآسيوية، كي تتمكّن من ترؤسه في نهاية المطاف، وذلك في سياق سعيها لتصفية الإرث الماويّ. هكذا فإن الكونفوشيّة التي كانت موضع إدانة منذ عدّة أجيال، والتي تعرّضت حتّى للتدمير الماديّ، مع بلوغ العنف ذروته خلال الثورة الثقافية التي كانت انتهت قبل فترة قصيرة، قد شكّلت موضوع مؤتمرٍ أوّل انعقد في العام 1978 بهدف إعادة تأهيلها. وانطلاقاً من هذا التاريخ، لن يمضي عام واحد دون أن تُعقد العديد من المؤتمرات الدوليّة حول الموضوع. ثمّ أنشئت في بكين في العام 1984 مؤسّسة كونفوشيوس برعاية أعلى سلطات الحزب الشيوعي. وفي العام 1992، ذكر دينغ هسياو بينغ سنغافورة في عهد السيد لي كوان يو [3] كنموذجٍ للصين، وذلك خلال جولةٍ له في أقاليم الجنوب حين أطلق "اقتصاد السوق الاشتراكي". ومن باب السخرية إن العوامل التي تبدو لدى فيبير عوائق تمنع التطور الرأسمالي، هي نفسها تلك التي باتت تعِد بإعفاء المجتمعات الآسيوية الشرقيّة من المشاكل التي تطال المجتمعات الغربية الحديثة. بحيث يشكّل الأمر فرصة للاحتفاء بالثأر الذي ترتقبه الصين منذ قرنٍ على الأقل، وكذلك بعض دول المنطقة، من التفوّق الغربيّ.
وإن لم يكن هنالك في الواقع من علاقة فعليّة بين التحديث الكونفوشيّ والسوق، إلا أنّه خدم الأهداف السياسية للقادة المتسلّطين في سنغافورة، وبكين أو سيئول، الذين واجهوا تسارعاً مفاجئاً للتنمية الاقتصادية تعجز التركيبات الاجتماعية السياسيّة عن اللحاق بها. ووجدوا أنّه من الأنسب تبنّي "القيم الكونفوشيّة"، لأنّها تشكّل ضمانة للاستقرار والانضباط والنظام الاجتماعي، في مواجهة الغرب المرفوض الذي يمكن تفسير تداعيه بتحيّزه للفرديّة ولفلسفة الإمتاع. ضمن إطار هذه السلطويّة الجديدة، يتّفق المنظّرون العقائديّون الماركسيون والمناهضون للماركسية على السواء على نقطةٍ حاسمة: أنّه يتمّ استبدال رموز اشتراكية من دون الغرب كانت تروّج لها بلا انقطاع الطوباويّة الماوية، بالسعي نحو حداثة صناعية دون الغرب أيضاً، إنّما تحت غطاء "ما بعد الحداثة".
ساهمت الأزمة المالية في العام 1997 في التخفيف قليلاً من وطأة حمى "كونفوشيوس الاقتصادي" (Confucius economicus)، لكن ذلك لم يمنع العودة إلى المعلّم القديم، بل العكس صحيح. فمنذ حوالي عشرة أعوام (رمزيّاً، منذ دخول القرن الواحد والعشرين والألفيّة الثالثة)، بدأ المسار يتّخذ شكل تشابكٍ معقّد من الظواهر تطال الصين القاريّة بمجملها وكافّة مستويات المجتمع. ففي الدائرة السياسية، كانت أولويّة القادة الحاليين تقضي بالحفاظ على الاستقرار الاجتماعي من أجل تسهيل النموّ الاقتصادي على المدى الطويل. وفي العام 2005، أطلق الرئيس هيو جينتاو شعاره الجديد "مجتمع تناغمٍ اشتراكي" الذي أعقب دلالات كونفوشيّة واضحة، وإن كانت غير مباشرة من نوع: المثال الأعلى لـ"مجتمع الازدهار النسبيّ" الذي نادى به دينغ هسياو بينغ أو "الحكم بموجب الفضيلة" الذي اتّبعه جيانغ زيمين. ومن خلال الاستقاء من مصادر الإدارة الكونفوشيّة للهيكليّة الاجتماعية، قضى الأمر أيضاً باقتراح حلٍّ بديل للديموقراطية الليبرالية وفق النموذج الغربي. اليوم، أضحى اسم كونفوشيوس وحده، المقرون ضمناً بفكرة التناغم، "مثمراً" في السوق الاقتصادية، إنّما أيضاً على صعيد رأس المال الرمزي. فعدا عن معاهد كونفوشيوس الشهيرة المنتشرة في كافّة أنحاء العالم، نشهد في الصين نفسها على انتشارٍ متسارع لمؤسّسات أو مراكز تحمل اسمه.
استتباعاً لذلك، تخضع "المحادثات" (المرجع الرئيسي لتعاليم كونفوشيوس) أيضاً لمختلف أشكال الاستغلال. مثل واحد يكفي بالنسبة للبروباغاندا السياسيّة: أنّه خلال حفل افتتاح الألعاب الأولمبيّة في بكين، في آب/أغسطس 2008، الذي نظّمه السينمائي المشهور عالمياً زانغ يمو، رأينا مشهداً يتمّ خلاله تكرار بعض الحكم المقتبسة من "المحادثات"، على شكل شعارات يردّدها جنود جيش التحرير الشعبيّ المتنكّرين بزيّ مثقفين كونفوشيّين. لكنّ "المحادثات" تستعيد الدور الأساسي الذي لعبته خلال مجمل الفترة الإمبريالية في المجال التربويّ على وجه الخصوص. إذ يقضي الأمر هنا أيضاً بالتباهي بممارسات تربوية "ذات خصوصيّة صينيّة"، عبر الاستقاء من المصادر الكونفوشيّة لإعادة وضع أطرٍ أخلاقية للمجتمع، بدءاً بالأطفال والشباب. ومنذ التسعينات، تم الترويج، ضمن إطار غالباً ما يكون خارج الدوام المدرسي أو موازٍ له، لأساليب "تقليديّة" يتم تطبيقها منذ الطفولة الأولى، قائمة على الترداد الآلي والتسميع غيباً للنصوص الكلاسيكيّة (بدءاً بـ"المحادثات"). تطال هذه الحماسة أيضاً الراشدين الذين يتمّ التوجه إليهم بحصصٍ أو حلقات دراسية أو دورات تدريبيّة مخصّصة لـ"الدراسات الوطنية". وهنالك أيضاً مبادرات خاصّة يتم اتّخاذها من قبل مناصرين لـ"الكونفوشيّة الشعبيّة" في الوسط المدينيّ أو حتّى الريفي، الذين قد يجدون في الإنترنت وسيلة للتواصل والنشر ذات سعة وفعاليّة لم يسبق لها مثيل.

"شوربة دجاج روحيّة" بسيطة وملائمة تماماً للتوجهات الرسميّة

نجد تعبيراً آخراً عن استعادة الاهتمام بـ"المحادثات" في كتاب يو دان، المترجم إلى الفرنسية تحت العنوان المسكّن "السعادة بحسب كونفوشيوس" [4]. الكاتبة ليست متخصّصة في كونفوشيوس أو حتّى في الثقافة الصينيّة التقليديةّ، بل هي خبيرة في التواصل جعلت من كتاب "المحادثات" أحد أهم النجاحات في المكتبات خلال السنوات الأخيرة. تطال هذه الظاهرة الإعلامية جمهوراً واسعاً، من خلال برامج تلفازيّة وكتبٍ شبيهة بهذا، بيعت بأكثر من عشرة ملايين نسخة. وراء المظاهر الجذّابة للبلاغة والبساطة، إنّها في الواقع قراءة توافقيّة ومحافظة تمتنع، بحسب منتقديها، عن إبراز التعرّض للسلطة السياسيّة المتواجد في "المحادثات"، وتلخّص الرسالة الإنسانية النزعة بـ"شوربة دجاج روحيّة"، ملائمة تماماً للتوجهات الرسميّة بتعزيز الاستقرار الاجتماعي. تتلاقى بذلك في صورة كونفوشيوس الموجودة في كلّ مكانٍ في الصين الحالية، مصالح "اقتصاد السوق الاشتراكي" والفروض الإيديولوجيّة "لمجتمع التناغم الاشتراكيّ".


* أستاذة في كوليج دو فرانس، كرسي التاريخ الثقافي للصين، مديرة مشتركة لمجموعة "Bibliothèque chinoise " لدى منشورات Belles Lettres. من أهمّ إصداراتها ترجمة إلى الفرنسية لكتابي: Entretiens de Confucius, Seuil, Paris, 1981, d’une Histoire de la pensée chinoise, Seuil, 2002 و La Chine pense-t-elle ?, Fayard, Paris, 2009.يمكن الاطّلاع على دروسها في كوليج دو فرانس (بالفرنسية، الإنكليزية والصينية) على الموقع: www.college-de-france.fr/site/anne-cheng
[1] تّتسم حقبة ميجي (1868-1912) في إرادة اليابان بخوض مسار التحديث بخطى حثيثة.
[2] امتحانات تُفرض لدخول الإدارة الأمبراطوريّةوقد أصبحت رسميّة ومنظّمة منذ القرن السابع عشر.
[3] قائد سنغافورة، شغل بين العامين 1959 و2011 منصب رئيس الوزراء، ومن ثمّ وزير أوّل، ووزير ملهم لرئيس الوزراء (ابنه).
[4] Yu Dan, Le Bonheur selon Confucius. Petit manuel de sagesse universelle, Belfond, Paris, 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق