كتبهابلال عبد الهادي ، في 21 نيسان 2012 الساعة: 06:46 ص
« Les Liaisons
dangereuses »
Colloque organisé par l’ETIB
Université Saint Joseph
2-3 décembre 2010
إذا أخذنا الترجمة في معناها العام الذي هو نقل الفكرة أو
المفهوم من نظام رموزٍ إلى نظام رموز آخر، يكون مجرد الكلام ترجمةً (نقل من الكيان
النفسي إلى الكيان اللساني)، ويكون كذلك ترجمةً شرحُ لوحةٍ فنية (نقل من نظام رموز
يعتمد على الشكل واللون إلى النظام اللغوي). إلا أنَّ الترجمة بمعناها الحصري
المُتداول في أيامنا هذه هي تحويل خطابٍ وُضِع في لغةٍ محدَّدة إلى خِطابٍ يُوْضَع
في لغةٍ أخرى. وهذا المعنى الأخير هو الذي سنعتمده في بحثنا هذا، مع العلم أننا
سنحصر ما سنتناوله هنا في نقل الخطاب من اللغة الفرنسية إلى اللغة
العربية.
هُناك من يحتجّ بأن التجربة الإنسانية واحدة، وأن البشر
يشتركون فيما بينهم
بوسائل التفكير والشعور نفسها، ليؤكد أن الترجمة ممكنة بين
لغتين، أياً كانتا ومهما اختلفتا. لكننا سنتناول في بحثنا هذا الطرف الآخر من هذه
المعادلة، وهو أنَّ عملية الترجمة بشكل عام، وبين
الفرنسية والعربية بشكل خاص، تصحبها في غالب الأحيان مُغالطات تعود أولاً إلى
الاختلاف الجذري في التراكيب ووسائل التعبير بين
هاتين اللغتين، وثانياً إلى الخلفية الثقافية والاجتماعية والفكرية التي ترتبط بها
كل لغة منهما.
سنحدد في البداية العلاقة
بين
اللغة والفكر والثقافة
قبل أن نبين أوجه
الاختلافات اللسانية ومواطن التمايز الثقافي بين
الفرنسية والعربية.
1. اللغة والفكر
تعرض علينا الطبيعة والعالم الخارجي مكاناً ذا أبعاد
متعددة الأشكال والألوان والأحجام، ونحن نقوم بتقسيمه وفقاً لإشارات اللغة التي
ترعرعنا فيها، أي وفقاً لمنظومات الكلمات والتعابير الجامدة والتراكيب النحوية التي
يُفرض علينا استعمالها، ولكن أيضاً وفقاً لأنظمة القِيَم الخاصة بثقافتنا وللوظائف
العملية المرتبطة بحاجاتنا التواصلية. خير دليل على هذه العلاقة
الجذرية بين
لغتنا والعالم المحيط بنا هو ما جاء في إحدى روايات "ميشال تورنيه". يكتب "روبنسون" في مذكراته وهو وحيد في
الجزيرة :
"لقد تحدثت بصوتٍ عال، طويلاً ودون توقف، لم أترك ولو فكرة
واحدة خطرت ببالي إلا وعجّلت بالنطق بها إلى الأشجار أو الغيوم، ومع ذلك، يوماً بعد
يوم، تتداعى تحت ناظريّ جوانبُ كاملة من هذه القلعة اللغوية التي يتحصّن فيها
فكرُنا ويتحرك بحرية…"[1].
هذا مثال جميل يبرز عدة وقائع منها : أن الطبيعة الأولى
للإنسان هي الكلام، فالفرد لا يستطيع العيش دون التواصل اللساني مع من يحيطه من
الناس، وأن الفكر يجد صياغته في اللغة، فدون اللغة يضعف النشاط الذهني عند الإنسان
وتتشوش لديه القدرة على التفكير ووعي وسطه المادي الذي يعيش فيه.
تقع اللغة، من حيث طبيعتها واستعمالها، بين الثقافة
والطبيعة. فقوانين الطبيعة عالمية وكونية وهي لا ترتبط في شيء بإرادة الإنسان أو
عمله، في حين أنَّ الأنظمة الثقافية نتاجُ الإنسان، وهي حالة من حالاته الاجتماعية
والفكرية، وهي بالتالي تتغير بتغير طُرق مُمارسة حياته اليومية، وتتطور بتطور
التواصل بين
أفراد المجموعة التي يعيش فيها أفراد الجماعة ويتواصلون. بين هذه
وتلك، تأتي اللغة لتكون الرابط بين
الطبيعة والثقافة،
إنها الحدّ الفاصل بين ما
هو طبيعيّ وما هو ثقافيّ. فاللغة طبيعية، من حيث أن كلَّ إنسان يملك، منذ الولادة،
القدرة على تعلم أيّ لغةٍ من لغات العالم. ولكنها في الوقت نفسه ثقافية، من حيث هي
نظامٌ يضعه المجتمع ويتطور بتطوره[2].
انطلاقاً من هذه الطبيعة المزدوجة، يمكننا القول بأن الفرق
بين لغةٍ
وأخرى يعود إلى الفوارق الثقافية بين
المجتمعات التي تتكلمها، وهو فرق له تأثير كبير على طُرق التواصل. يكتب "كلينكنبرغ"
في مؤلَّفه "مبحث في علم السيمياء العام" ما يلي : "إن الطبيعة، ومن حيث هي طبيعة،
لا تبث أي رسالة أو مرسلة في اتجاهنا. ثقافتنا نحن هي التي تُضفي على الطبيعة صفة
المُرسِل (يجب أن ننظر إلى مفهوم المُرسِل بطريقة نسبية : فالأمر هنا لا يتعلق
بالضرورة بمرسِلٍ شخصيّ وواع). إنَّ استعمال إشارةٍ ما، أو استخدام شيءٍ ما كإشارة،
يقتضيان بالضرورة العودة إلى ثقافةٍ مُحدَّدة وإلى مجتمعٍ مُحدَّد"[3].
وتكون النتيجة الأولى لهذه المبادئ الأساسية أنَّ من واجب
المترجم أن لا يكتفي بنقل ما هو لغوي فحسب، بل عليه أيضاً أن يأخذ بعين الاعتبار كل
ما يرتبط بالسياق (وخصوصاً بالسياق غير اللغوي) الذي هو مهم جداً وأساسيّ، كما سنرى
لاحقاً.
1. 2. اللغة وتمثّل العالم – "نظرية سابير /
وورف"
وفقاً لنظرية "سابير / وورف"، تعكس كل لغةٍ رؤيةً مُحددة
للعالم، وهي رؤية خاصة بها. ففي نظر هذين العالِمين تنظِّم لغةُ أيّ مجتمعٍ كان
ثقافته الخاصة به، أي أنها تنظم كيف يقوم أفراده بإدراك الواقع وكيف يتصوّرون
العالم. وبالتالي، يرى "سابير" و"وورف" أنَّ الفروق بين
لغتين تؤدي إلى نمطين مختلفين من البِنيات الفكرية والانفعالية على حدٍّ سواء. بين
لغتَيْن معيَّنتَيْن هنالك إذن عالمان مختلفان، وليس عالماً واحداً تتمّ تسميته
بمجموعتين مختلفتين من الكلمات والتعابير[4].
وبالفعل يعرض كلُّ نظامِ إشارات - وفي هذه الحالة نظام
الإشارات اللغوية - على الناطق الفطري تقسيماً خاصاً به. فنظام اللغة يتكون من
فئاتٍ ترتبط فيما بينها
ضمن شبكاتٍ متعددة المستويات من العلاقات. وتستقي هذه الفئات قيمتها الفعلية من
الفوارق والتقابلات والاختلافات فيما بينها،
وهي بذلك تقوم، بفعل سِمتها الاعتباطية، بوضع الرابط بين
العالم المادي المحيط بنا والعالم الذهني الذي بداخلنا، كما أنها تقوم بتنظيم فكرنا
وهَيْكَلَته، وببناء رؤيتنا للعالم.
2. التواصل : هُويةُ الذّات والعلاقة
مع الآخر
2. 1. التواصل : تعريفات
هناك وجهٌ آخر للّغة ذو أهمية بالغة، هو
التواصل.
كل إنسان - وفي كل لحظةٍ من لحظات حياته - يجد نفسه في
موقفٍ لا مفرّ منه، ألا وهو "التواصل". فكما يقول المتخصّصون، ليس بالإمكان أن لا
يتواصل الإنسان.
ولكن، ما هو التواصل؟ هنالك تعريفاتٌ عديدة ومختلفة،
نختصرها في ثلاثة اتجاهات علمية. يحصر الاتجاه الأول تحديده بنظام اللغة، إذ يرى
أنّ التواصل هو "انتقال المعرفة" بين
المتكلم والمخاطَب، بواسطة خطابٍ يُبنى من إشاراتٍ أو علاماتٍ تمرّ في قناةٍ تصل بينهما.
هذا ويخضع بناءُ هذه الإشارات وقواعد إنتاجها وانتقالها لنظامٍ من الإشارات مُشترَك
بين
المتكلم والمخاطب. من هذا المنظور إذن، تكون اللغة أفضل نظامٍ يُستعمل للتواصل. أما
الاتجاه الثاني، فإنه يحدّ التواصل بكونه عمليةُ تبادلٍ بين
متكلّمَيْن اثنين، في سياقٍ مُحدَّد، وبواسطة وسائل تنتمي إلى النظام اللغوي أو إلى
أنظمةٍ أخرى غير لغوية. وأخيراً، يرى الاتجاه الثالث في التواصل نشاطاً اجتماعياً
يرتبط بموقفٍ مُحدَّد. هنا، يتخذ السياقُ أهميةً كبرى تفوق أهمية أنظمة الإشارات
المستعملة، وخصوصاً اللغوية منها.
2. 2. اللغة والتواصل والترجمة
اللغة وسيلة تواصل، كما قلنا، وهي بذلك "تعبيرٌ عن
التمثّلات الاجتماعية، والبنيات الذهنية، أي أنها تعبير عن الثقافة." فعملية التواصل تؤكد الهوية
الثقافية، إذ إنها تقوم بدورٍ أساسيٍّ في تأكيد هوية كلٍّ من المتحدثين، وهي تؤثّر
بذلك على فضاء الهوية والشخص والجماعة. وعلى العكس من ذلك، فإنّ الاختلاف بين
لُغتين يقابله اختلافٌ بين
ثقافتين، وهذا يؤثر على التواصل بين
ثقافتين مختلفتين، وبالتالي على عملية الترجمة. فترجمة الخطاب اللغوي لا تكون كافية
إذا اقتصر نقل الخطاب من لغة إلى أخرى على المكوّنات اللسانية وحسب. فالمترجم هو
كذلك وسيط، وسيط بين
لغتين بالطبع، ولكن بين
ثقافتين أيضاً، وعليه بالتالي أن ينطلق من فكرةِ أنَّ السياق غير اللغوي مهمٌّ بقدر
أهمية الخطاب اللغوي، هذا إذا لم يكن أهمَّ منه. فبالإضافة إلى العوائق المتعلقة
بمكوّنات كل لغةٍ من اللّغتين، المَصدر والهدف، يجب على المترجم، أو على الأقل من
يريد النقل من لغةٍ إلى لغة أخرى، أنْ يتخطَّى الصعوبات المتعلقة بالخصوصيّات
التعبيرية والتقاليد والأعراف الثقافية لكلٍّ منهما.
2. 3. الهوية والتواصل
إحدى الخصائص الكُبرى للِّسان البشري هو أنه يتمّ فيه
التعبير عن الذاتية[5].
عندما يتحدث "سيلفان أورو" عن هذه الخاصية في
كتابه "فلسفة اللغة"، يقول إنّ "وَسْم الذاتية" ميزة من ميزات اللغة البشرية
الأساسية، وهي تتلخص في أنَّ استعمال أيّ فرد للّغة يعني أن هذا الفرد هو شخصٌ
موجود "الآن وهنا"، وهو لا يكتفي بالتعبير عن مضمونٍ يمثّل العالم الموجود في ذهنه،
بل يُقدِّم كذلك وجهة نظره في هذا المضمون. ويذكّر "أورو" بما جاء عند "شارل
بالي"[6]، على سبيل المثال، حول
الجملة التي هي "أصغر شكلٍ يُستعمل لتوصيل فكرة". يقول "بالي" إنَّ الجملة تتضمن
بالضرورة المقول (dictum) الذي يرتبط بالتمثيل، والموقف (modus) الذي
يرتبط بطريقة التقييم الذي يقوم به الشخص المفكِّر. "ليس بالإمكان إذن أن نُسنِد
قيمة الجملة إلى قولٍ ما، طالما أننا لم نكتشف فيه التعبيرَ عن الوجه، مهما كان هذا
التعبير"[7]. وبذلك يأتي التمييز بين ما
ينتمي إلى المَقول وما ينتمي إلى الموقف في أساس تكوين كل قولٍ لغوي، وهو بالتالي
في أساس تكوين كلّ تواصلٍ باللغة الطبيعية. أما عند "بانفنيست"، فالتعبير عن
الذاتية يرتبط بضمائر الشخص وبعملها الخاصّ بها. فهو يقول : "هذه الضمائر موجودة
هنا، إنها مُثبتة وتُدرَّس في كتب النحو، وهي معروضة مثل سائر الإشارات اللغوية،
وهي مثلها جاهزة للاستعمال. ما إن يأتي أحدٌ من الناس ويتلفّظ بها حتى يأخذها على
عاتقه، ويتحوَّل الضمير "أنا" (je) من عنصرٍ في نمطية الاستبدال إلى
دلالةٍ وحيدة، وهذا الضمير يُنتِج في كل مرةٍ يُلفظ فيها شخصاً جديداً. إنه تحقيقٌ
لتجربةٍ أساسية لا يُمكننا أن نتصوّر أنَّ عناصرها يمكن أن لا تكون موجودة في أيّ
لغةٍ من اللغات"[8].
لكنَّ الذاتية مزدوجة، إذ إنها تتضمن ذاتية الفرد (في
مقابل الأفراد الآخرين في الجماعة الواحدة) وذاتية الجماعة (في مقابل الجماعات
الأخرى). فعندما نستعمل اللغة في خطابٍ تواصلي نوجهه إلى فردٍ من جماعتنا، نقوم، من
جهةٍ، باستدعاء بعض جوانب هويتنا الخاصة بنا (الجنس، والطبقة الاجتماعية، والوضع
الوظيفي، والانتماء الديني، الخ)، فنؤكِّدها في مواجهة المُخاطَب ونطلب منه بطريقة
لا واعية الإيمان بها والتصديق عليها. ونقوم، من جهةٍ أخرى، ببِناء مكانٍ مُشترَك
مع المخاطَب، أي فضاء متبادل من المعتقدات والمواقف الذي من شأنه تثبيت المبادئ
الأساسية التي يقوم عليها تماسك الجماعة فيما بينها.
في الواقع، يفقد التواصل وَضعه كرابط ديناميكي وفردي
واجتماعي بين
المتخاطبين إذا
لم يؤدِّ وظيفته كمؤكّد لهوية الأشخاص الموجودين والمُشاركين فيه. وكذلك، عندما
تضطلع عملية التواصل بدورٍ أساسيّ في تأكيد هوية كل فردٍ من المتكلمين، فإنها تقوم
أيضاً بإنشاء علاقةٍ متبادلة ومشتركة في إدارة فضاء الهوية والفرد والجماعة
والتأثير فيه. وتندرج هذه اللعبة المتبادلة بين
الأشخاص ضمن التفاعل بين ما
هو متشابه وما هو مختلف. إنها تقع "بين قطبي
التطابق التام أو الغَيْريّة المطلقة"[9].
فما يمكن أن نقول إذاً عن التواصل بين
أشخاصٍ ينتمون إلى مجتمعَيْن مختلفين ثقافياً وتراثياً وإيديولوجياً مثل الثقافة
العربية والثقافة
الفرنسية ؟ سنرى، في هذه الحالة، أن الترجمة البسيطة أو المباشرة لا تساعد بتاتاً
وإن كانت من الجانب اللغوي أمينة جداً… أو ربما هي تقع في الخطأ بسبب أمانتها
اللغوية هذه. من أجل إيضاح هذا الموضوع بشكلٍ أفضل، وفي سبيل التمهيد للأمثلة التي
سنقدّمها على المُمارسات اللغوية والتواصلية التي تشهد على الاختلاف اللغوي
والخِلاف الثقافي بين
العربية والفرنسية، علينا في البداية تفسير الفرق بين
المستويات المتعدّدة لِوعي الواقع وتحويله إلى مفاهيم ذهنية.
2. 4. من المعلومة إلى الهوية الثقافية
هنالك عدة مستويات لوعي الواقع وتحويله إلى مفاهيم ذهنية،
وهي تتضمن في نظرنا الجوانب التالية : المعلومة، والمعرفة، والثقافة
(الاجتماعية)، والهوية (الفردية والاجتماعية).
- المعلومة : في القديم، كان امتلاك معلومات يعني امتلاك
سلطة كبيرة. وكان الإنسان يقوم بأسفار تدوم أسابيع أو أشهر، على ظهر جمل أو في
عربة، للحصول على معلومة، أو قراءة مخطوطة، أو الحصول على جوابٍ لتساؤلٍ ما. أما
اليوم، فقد تغيرت الحال مع التخزين المعلوماتي، ومولدات البحث وشبكات الإنترنت. فقد
أصبحت المعلومة متوفرة ومتاحة للجميع، ولم يعد امتلاك المعلومة أو حفظها ميزة أو
حكراً لأي شخص من الأشخاص.
- المعرفة : وبالتالي، على المعلومة، في أيامنا هذه، أن
تتحول إلى معرفة وعلم. وهذا الأمر يفترض وجود نظامٍ فكري يجب أن يكون
مشتركاً.
- الثقافة
والهوية: وهذه المعرفة، عندما تدخل وعي الأفراد و/أو لا وعيهم، تصبح نمط حياة ورؤية
للعالم. وهي بالتالي تؤثر بالتقاليد وتشارك في بناء الثقافة.
أما الهوية، فيقوم الفرد بالتعرّف عليها وتأكيدها وبنائها في حركة ذهاب وإياب
متواصلة بين
ذاتِيَّته والثقافة.
وإذا كانت عملية استعمال الخطاب اللغوي في التواصل تقوم بترسيخ هذه الهوية بأبعادها
ومستوياتها المختلفة، كما قلنا، فإنه عند القيام بعملية الترجمة، لا يقوم المترجم
بنقل المعلومات، بل يحاول أن يؤدي في اللغة الثانية كاملَ ما يحمله الخطاب في اللغة
الأولى. أي أنها تنقل عملية التواصل بما فيها من تركيزٍ على الهوية، الفردية منها
والاجتماعية والثقافية.
3. الترجمة : نماذج من التواصل بين
الثقافات
بعد أن بيّنّا من الجانب النظري أهمية التداول الخطابي
والتواصل اللغوي في بناء الهوية والثقافة،
سنطرح الآن أمثلة من الحياة اليومية يحدث فيها الاحتكاك بين
اللغتين الفرنسية والعربية ويظهر فيها جذرياً الاختلاف اللغوي والخلاف الثقافي بينهما.
3. 1. اختلاف الدلالات اللغوية بين
الثقافات
تقع التباينات اللغوية على كل المستويات اللسانية، سواء في
عبارات المجاملة أم في العبارات والمتلازمات اللفظية أم في الكلمات
البسيطة.
هناك عددٌ كبير من الكلمات انتقلت من الفرنسية إلى العربية
ولم تحتفظ عند انتقالها بالمعنى نفسه. فإذا أخذنا على سبيل المثال كلمة
"artiste" في اللغة الفرنسية، التي تدل على شخصٍ يهتم بالتعبير عن
الجمال أو يمارس الفنون الجميلة أو الفن بشكل عام، وبشكل أكثر تحديداً، على الرسام
أو النحات، أي على شخصٍ يخلق تحفة فنية، لوجدنا أنه، في لبنان، وتحديداً في
السبعينيات من القرن المنصرم، كانت هذه الكلمة المستعارة من اللغة الفرنسية تعني
مومس، أو بنت هوى، ليس تلك التي تبيع مفاتنها على جانب الطريق، وإنما تلك التي تقدم
الويسكي والكونياك في الحانات الراقية في العاصمة.
مثال آخر على تغيّر معنى كلمة من لغة إلى أخرى هو الصفة
"antique". لقد أدّى تطور هذه الكلمة في اللغة الفرنسية إلى دلالةٍ
تحسينية. فقد تدرَّج معناها من "قديم جداً" ليدل على التحف الفنية القيّمة، هذا مع
الاحتفاظ بالدلالة على الأشياء البالية والقديمة. أما اللغة العربية، فلم تأخذ سوى
دلالةٍ واحدة، إذ يستعمل اللبنانيون "أنتيكا" (antîka)
للدلالة على أي شيء قديم وبالٍ، شيء أكل الدهر عليه وشرب.
3. 2. أمثلة على اضطراب عملية التفاهم بين
الثقافتين الفرنسية والعربية
هل هناك أسهل من قول شكراً ؟ ليس الأمر بهذه السهولة عندما
ننتقل من ثقافة إلى أخرى.
خلال زيارتي الأولى إلى فرنسا، دُعيت إلى العشاء عند عائلة
فرنسية من ليون. في نهاية الطعام، قدمت لنا سيدة المنزل القهوة. وعندما انتهيت من
شرب فنجاني، سألتني ما إذا كنت أريد المزيد. فأجبتها : "merci". وقد
دُهشتُ عندما قالت لي : "merci
oui ou merci non " (شكراً نعم أو شكراً
لا ؟). في مدينتي طرابلس (شمال لبنان)، وفي موقف مماثل، وفي حوار في اللغة العربية
(اللهجة اللبنانية)، كنا نستعمل الصيغة نفسها (merci)
لنقول "شكراً لا".
كمثال أخير على الاختلافات اللغوية بين
ثقافتين، لنأخذ عبارة المجاملة "je
vous invite à dîner". إن دعوة شخص إلى
العشاء ليس له المعنى نفسه هنا وهناك. فمنذ بضعة سنوات - كنت حينها رئيس قسم علوم
اللغة والتواصل في الجامعة اللبنانية -، تمّ استبدال المسؤول عن مكتبٍ مهم في إحدى
السفارات الأوروبية في بيروت بسيدةٍ شابة. وفقاً لوظيفتي، وللحفاظ على العلاقات
الأكاديمية الجيدة مع هذا المكتب، قمتُ بزيارتها، وبعد حوارٍ ممتع وهادئ، دعوتها
إلى العشاء. أردت بذلك توطيد العلاقة
الشخصية ومواصلة المناقشات حول التبادلات بين
قسمنا ودائرتها، ليس إلا. وقد قَبِلت السيدة دعوتي بعد لحظة تفكير. وتناولنا العشاء
لا أكثر، ولم يحصل بيننا
أكثر من ذلك. فكانت النتيجة أنَّ السيدة كانت مستاءة جداً. فقد كانت تتوقع علاقة
أكثر شخصية، وهو أمر لم أكن قد فكرت فيه قط. وهي قالت لأحد زملائي بعد بضعة أشهر من
هذه "الحادثة" : "أنتم اللبنانيون لديكم طرق غريبة في الدعوة إلى
العشاء."
هكذا، ليست نقطة الانطلاق بالنسبة للمترجم نقلَ معاني
الكلمات أو العبارات. عليه في البداية فهم الثقافة
لحصْر استعمال الكلمات. هذا بالضبط ما يقوله الفيلسوف الفرنسي "بول ريكور" في
عبارته هذه : "… إن عمل المترجم لا يذهب من الكلمة إلى الجملة، إلى النص، إلى الثقافة
[الأخرى]، بل العكس من ذلك : بعد أن يتشبَّع المترجم من روح الثقافة
بواسطة قراءات واسعة، ينزل من النص إلى الجملة، ثم بعدها إلى الكلمة (…). تفترض
الترجمة في البداية فضولاً (…). وعلى هذا الفضول للغريب يُضاف ما يسميه "أنطوان
بيرمان" باسم الرغبة بالترجمة"[10].
3. 3. الخطاب في عملية القول
لا يمكن أن تتم الترجمة بطريقة جيدة إلا إذا كانت عناصر
المَقام (موقف الكلام) معروفة جيداً. كمثال على ذلك، إذا كان المترجم من الفرنسية
إلى العربية لا يعرف تماماً جِنس الشخص الذي يوجَّه إليه الخطاب، كيف يستطيع أن
يترجم كلمة مثل vous الفرنسية ؟ هناك عدة خيارات واردة أمامه،
هي :
·
أنتَ (للذكر الواحد)toi (de sexe masculin) :
·
أنتِ (للأنثى الواحدة)toi (de sexe féminin) :
·
أنتما (للذكرين أو للأنثيين أو لذكر
وأنثى)toi et toi (duel) :
·
أنتم (لأكثر من ذكرين أو لأكثر من
ذكرين وإناث)vous (plus que deux, de
:sexe masculin)
·
أنتنّ (لأكثر من أنثيين)vous (plus que deux, de sexe féminin) :
3. 4. الاختلافات بين
الثقافات في التواصل غير اللغوي
لا تتعلق الاختلافات التعبيرية فقط بإدراج الشخص (المتكلم
أو المخاطب) ضِمن الخطاب. فهي تتعلق أيضاً بزمان عملية التكلّم ومكانها. وفي
النهاية، يتم التعامل مع الشخص والزمان والمكان بأشكال مختلفة باختلاف اللغة
وباختلاف الثقافة.
ذلك أنَّ الطريقة التي نشغل بها مكاناً أو ننظر بها إلى المخاطَب هي إحدى السمات
الأساسية للثقافة التي ننتمي إليها.
لقد ذكرنا سابقاً أن الفرد يقوم بتقسيم العالم وفقاً
للغته، ولكنه يقوم بذلك أيضاً وفقاً لثقافته وتقاليده، أي وفقاً لأنظمةِ تواصلٍ
أخرى غير لغوية.
تتطلب المحادثة، في الثقافة
نفسها، مسافةً معينة تتغير وفقاً لمحتوى المحادثة وطبيعة العلاقة
بين
المتحادثين… فما القول إذاً إن كانت المحادثة تجري بين
متحادثين ينتمون إلى ثقافتين أو أكثر ؟
خلافاً للتواصل الثقافي أو الفكري، يتطلب التواصل الذي يتم
في موقف بشري معرفة معايير التواصل غير اللغوي. وهذه المعايير متعددة وتقع على
المستويين الحسي-الإدراكي والركحي[11].
سنكتفي هنا بإعطاء بعض الأمثلة المعبّرة.
منذ عدة سنوات، طُلب مني تمثيل لبنان في المجلس الأعلى
للمعهد العالي للترجمة في الجزائر (جامعة الدول العربية). وكان هناك العديد من
الشخصيات القادمة من مختلف الدول العربية، ومن بينها
سيدة ترتدي لباساً يغطيها بالكامل ما عدا عينيها. وكانت جالسةً بالقرب مني. بدأنا
نتحدث، ولكن بعد بضع دقائق شعرت بالارتباك، إذ لم يكن باستطاعتي متابعة الحديث دون
النظر في عينيها (وفقاً لثقافتي التي تفترض من المتكلم والمخاطب أن ينظر أحدهما في
عيني الآخر)… ولم أكن أعلم إن كان يُسمح لي بذلك، بما أن طريقة لباسها كان يمنع أي
نظرة فضولية. في النهاية، لم أعد أستطيع الاحتمال، فقلت لها : - لكن، هل يمكنني أن
أنظر في عينيك، نعم أم لا ؟ فجاوبتني بلطف: - نعم، بكل تأكيد، لا يوجد أي مشكلة من
هذه الناحية… وأكملنا الحديث باطراد، ونحن ننظر في عيني بعضنا البعض.
هناك قصة أخرى حصلت معي في ليون. أذكر أول احتكاكٍ حصل لي
مع الفرنسيين في إطارٍ فرنسي. كنت أعرف لغة "موليير" و"بلزاك"، ولكنني لم أكن قد
مارست كثيراً التواصل المباشر والتلقائي مع فرنسيين أو أوروبيين في إطارٍ غير
لبناني. بعد بضعة أيام من وصولي، تعرّفت على طالبةٍ فرنسية شابة كانت تتابع درس
الجدارة في اللسانيات مثلي. ومرةً، كنا في قاعة الدراسة ننتظر وصول الأستاذ. وكنا
نتناقش بمواضيع عدة حول لبنان، فجاوبتُ على أحد أسئلتها بإشارةٍ غير لغوية : إذ
حرَّكت كتفيّ قليلاً وقلبت شَفتي السفلى. وكانت ردة فعلها الاستغراب مع بداية
انزعاج. فهمتُ على الفور أنها تلقّت حركتي هذه على أنها حركةَ ازدراء أو سخرية.
فشرحت لها على الفور أنَّ قصدي من هذه الحركة كان ببساطة التعبير عن أنني لا أعرف
الجواب على سؤالها، وأنَّ هذه الحركة تُستخدم في ثقافتنا بهذا المعنى. الواقع أنَّ
هذه الحركة لم تكن موجودة ضمن كفاياتها التواصلية المتعلقة بنظام الإشارات غير
اللغوية في ثقافتها.
خلاصة
تتطلب صعوبات التواصل بين
ثقافتين إذاً - بالإضافة إلى التعمّق في خصوصيات كل لغة من اللغتين - إدراكَ
التفاوتات الثقافية (في كلٍّ من اللغتين)، كما أنها تتطلب أيضاً معرفة كيفية
التعرّف على سِمات الهوية المتعلقة بكلٍّ من الثقافتين. هذا في الواقع ما يعرضه
"ماثيو قويدر"، في حديثه عن اليقظة متعددة اللغات، وعن ترتيب المهارات التي يجب على
المترجم أن يتقنها لكي يقوم بعمله على أكمل وجه. فهو يقول : "في البداية، هناك
مهاراتٌ لغوية وثقافية تتضمن معرفة تحليل لغات التخصّص في عدة لغات، ومعرفة فكّ
رموز التغيّرات اللغوية والقواعد الجماعية للتفاعل، وكذلك مستويات اللغة والمعايير
والمفترضات والمُضمَر في الخطاب"[12].
أ. د. بسام بركة
bassam.barake@yahoo.com
المراجع
المذكورة :
Michel Tournier, Vendredi ou les limbes du
Pacifique, Paris, « Folio », Gallimard, 1972.
Klinckenberg (Jean-Marie), Précis de
sémiotique générale, Paris, « Points », De Boeck Université,
1996.
Jean Dubois et alii, Dictionnaire de
Linguistique et des Sciences du langage, Paris, Larousse, 1999.
Sylvain Auroux et alii, La Philosophie du
langage, Paris, PUF, 2004.
Jean-René Ladmiral et Edmond-Marc Lipiansky,
La Communication interculturelle, Paris, A. Colin, 1992.
Paul Ricœur, Sur la traduction, Paris,
Fayard, 2004.
Émile Benveniste, Problèmes de linguistique générale II, Paris,
Gallimard. 1974.
Mathieu Guidère, Traduction et Veille stratégique et multilingue,
Genève, Editions Le Manuscrit, 2008.
[1]. Michel
Tournier, Vendredi ou les limbes du Pacifique, Paris, « Folio »,
Gallimard, 1972, p. 68.
[3]
Klinckenberg (Jean-Marie), Précis de sémiotique générale, Paris, «
Points », De Boeck Université, 1996, p. 38.
[4]. انظر
تعريف "فرضية وورف-سابير" في المعجم التالي :
Jean Dubois et alii, Dictionnaire
de Linguistique et des Sciences du langage, Paris, Larousse,
1999, sous « Whorf-Sapir (hypothèse
de) », p. 511)
[5].
الخاصتان الكبريان الأخرتان للسان البشري هما التمفصل (أو الانبناء) المزدوج
والإبداع (انظر :
Sylvain
Auroux et alii, La Philosophie du langage, Paris, PUF, 2004, p.
31-32.)
[6].
Charles Bally, Linguistique générale et
linguistique française, Berne, Francke, 1950
Charles
Bally, p. 36 .[7]
[8].Émile Benveniste, Problèmes de linguistique générale
II, Paris,
Gallimard. 1974, p.
68
[9]. Ladmiral et
Lipiansky, La Communication interculturelle, Paris, A. Colin, p.
144.
[10] Paul Ricœur,
« Un passage : traduire l’intraduisible », Sur la traduction, Paris,
Fayard, 2004, p. 56-57.
[11]. نقرأ
في "لسان العرب"، في مادة "ركح" ما يلي : "الرُّكح، بالضم، من الجبل : الركن
أَو الناحية المُشْرِفة على الهواء؛ وقيل: هو ما علا عن السَّفْح واتسع. ابن
الأَعرابي : رُكْح كلِّ شيء جانبُه." ثم نجد في متن المادة نفسها معانٍ واستعمالات
دلالية مختلفة لهذا الفعل مما يؤدي إلى اعتماد أن الجذر "ر+ك+ح" يدل على المكان
واستعماله. لذلك، لا نجد غضاضة في استعماله لتوليد كلمة معادلة للمصطلح الفرنسي
"بروكسيميا" Proxémie ، وهو يدل على العلم الذي
يدرس استعمال المكان والمسافات بين
المتخاطبين في
عملية التواصل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق