كتبهابلال عبد الهادي ، في 21 نيسان 2012 الساعة: 07:57 ص
الترجمة من الإنجليزية: أيمن حمودة
يصعب أن نجد أحدا يعترض على وجود تفاعل مهم ومتعدد الاتجاهات بين اللغة والفكر. لكن الاعتراض يتمحور حول ادعاء بعض اللغويّين وجود تأثير خاص للّغة في تفكير الناطقين بها ونشاطاتهم. فالشخص الذي يتكلم أكثر من لغة يعجب لاختلاف اللغات وأساليبها، ومع هذا فنحن نفترض في الوقت نفسه أن جميع البشر لديهم أساليب متشابهة في اختبار العالم من حولهم.
ولعل المقارنة بين ما تختلف فيه اللغات وتتّفق، هي التي دفعت إلى وجود مقاربتين لعلاقة اللغة بالفكر. ففي مجال الاتفاق تم الحديث عن "الكلّيّات"، أي السمات التي تشترك فيها اللغات جميعا. أما اختلاف اللغات فدفع إلى الحديث عن "الجزئيات"، أي السمات التي تجعل لغة معينة متميزة أو حتى متفردة عن غيرها.
وقد وضع اللغويون وعلماء الاجتماع المهتمون بالسمات المشتركة بين اللغات، نظريات لوصف اللغة وتفسير السلوك اللغوي الإنساني، عادّين ذلك من السمات النوعية التي تميز قدرات البشر. ومع هذا تظل الفكرة القائلة باحتمال تأثير اللغات المختلفة في إيجاد أنماط مختلفة من التفكير مطروحة بقوة في العديد من الثقافات.
وقد شجعت هذه الفكرة أيضا ظهور الكثير من الدراسات الفلسفية ذات الصلة. ولما كان من الصعب إثبات تأثيرات لغة معينة في نمط تفكير معين، فقد ظلت هذه المسألة دون حل. وهي مسألة تتفق أو تختلف مع المألوف، وتستثير في الغالب طاقة كبيرة من المحاولات: تأييدا ومعارضة.
وقد تصدت للسؤال المتعلق بتأثير اللغات المتنوعة في أنماط التفكير المختلفة نظريتان؛ تعرف الأولى بالنسبية اللغوية، والثانية بالحتمية اللغوية. وتعد النظرية الأولى سهلة الاختبار. فمن أجل التحدث بأي لغة، عليك أن تأخذ في الحسبان المعنى النحوي المشار إليه في تلك اللغة. عليك مثلا وأنت تتحدث الإنجليزية أن تحدد الفعل الذي يدل على زمن ظهور الحدث الذي تشير إليه، فتقول مثلا: إنها تمطر/ لقد أمطرت؛ وهكذا. ولكن من المستحيل في اللغة التركية أن نقول: "لقد أمطرت ليلة أمس". ذلك أن هذه اللغة تشمل -كالعديد من اللغات الهندية الأوروبية- أكثر من صيغة للفعل الماضي، انطلاقا من المصدر الذي يستند إليه الشخص في معرفة الحدث. فهي تضم صيغتين من الفعل الماضي: صيغة يتحدث بها عن تجربة مباشرة من الماضي، وصيغة ثانية تستعمل لنقل أحداث من الماضي نعرفها فقط عبر الاستنتاج أو عبر ما نسمع من شخص آخر. وهذا يعني أنه إذا كنا في الخارج تحت المطر ليلة أمس، فسوف نقول: "لقد أمطرت ليلة أمس"، ونستخدم صيغة الفعل الماضي الذي يدل على أننا شهدنا هطول المطر بأنفسنا؛ لكن إذا استيقظنا من النوم ووجدنا الأرض مبللة، فعلينا أن نستخدم الصيغة الأخرى للفعل الماضي، لأنها الصيغة التي تدل على أننا لم نشهد هطول المطر.
لقد أذهلت هذه الاختلافات اللغويين وعلماء الأنثروبولوجيا قروناً عدة. فقاموا بتسجيل مئات الحقائق عن اللغات "الغريبة"، فتحدثوا عن لغات تحفل بالأفعال التي يتم تحديدها أو اختيارها وفق شكل الموضوع المتناول (في لغة قبيلة النفاهو الهندية مثلا)، أو وفق الأعمار المتقاربة للمتحدث والمستمع (في اللغة الكورية). وهذه وقائع استثمرتها النظرية النسبية اللغوية وعدتها داعمة لأطروحتها. لكن ذلك لم يقتصر على اللغات "الغريبة"، بل تعداه إلى ما يعرف باللغات "المشهورة"؛ ففي اللغة الإنجليزية التي يعرفها اللغويون جيدا ليس من اللائق القول: "عمل ريتشارد نيكسون في واشنطن"، ويستحسن القول: "كان جيرالد فورد يعمل في واشنطن". لماذا؟ لأن الفعل المضارع التام (كان يعمل) يقتصر على العبارات الدالة على أن الفاعل ما يزال على قيد الحياة!.
وفي مقابل النسبية اللغوية، يذهب مؤيدو الحتمية اللغوية إلى أن الاختلافات بين اللغات تؤثر في الطرق التي يفكر بها الناس، وربما في طرق تنظيم الثقافات المختلفة. وتعد الآراء التي أدلى بها بينجامين لي وورف وأستاذه إدوارد سابير في النصف الأول من القرن السابق الأقوى في هذا السياق؛ فقد وضع هذان العالمان ما عرف بـ"فرضية سابير وورف" في محاولة منهما لدراسة هذه المسألة.
يقول وورف: "نحن نقطع الطبيعة، وننظمها عبر المفاهيم، ونضفي عليها المعاني كما اعتدنا أن نفعل، لأننا أطراف في اتفاق يهدف إلى تنظيم الطبيعة بهذه الطريقة". ويقول سابير أيضا: "إن البشر في نعمة كبيرة، لأنهم يتكلمون لغة معينة أصبحت وسيط التعبير في مجتمعهم… والحقيقة أنه يتم بناء العالم الحقيقي لمجموعة ما بلا وعي وعبر العادات اللغوية إلى حد بعيد".
لكن كيف يمكن التأكد من صدق مثل هذه الادّعاءات الجريئة دون فحص اللغات المختلفة نفسها؟ إذا أخذنا الفرضية بجدية، فيجب أن نكون قادرين على إظهار أن الأتراك هم أكثر حساسية لتقديم الدليل من الأميركيين، وأن الأميركيين هم أكثر إدراكا للموت من الأتراك- بناء على صيغ الماضي في اللغتين، وهذا يعني بشكل واضح أن الفرضية لا يمكن أن تحظى بالدعم على مستوى عال (من التعميم) كهذا. لقد أراد العلماء النفسانيون التجريبيون بالأحرى وعلماء الإنسانيات الإدراكيون، إيجاد الاختلافات الصغيرة، لأغراض محددة، بين متكلمي اللغات المختلفة.
ثمة خلط في النتائج؛ فقد وُجد في أكثر الحالات أن فكر الإنسان وفعله محكوم بنسق متعدد من الأسباب، مما يعني أن بنية اللغة قد لا يكون لها دور سببي مركزي في تحديدهما. ولهذا نقول إن الحتمية اللغوية تتضح بشكل أفضل في الحالات التي تكون فيها اللغة الوسيلة الرئيسة في لفت انتباه الناس إلى سمة معيّنة من التجربة. فمثلا، إذا كنت تتكلّم إحدى اللغات ووجب عليك أن تختار فيها صيغة معينة للشخص المخاطب لتمنح نفسك وضعا اجتماعيا بإزائه (كما نستعمل في الإسبانية ضمير المخاطب tu للإشارة إلى العائلة والأصدقاء ومن هم دوننا منزلة في مقابل استعمال ضمير المخاطبة usted لمخاطبة من هم أعلى مقاما منا ومن لا تربطنا بهم صلة، والأمر نفسه ينطبق على الفرنسية عبر ضميري الخطاب vous و t). مما يعني أننا نصنف كل شخص نخاطبه بصيغة خطاب معينة وفق للأبعاد الاجتماعية المعتبرة.
وإذا ذهبنا أبعد في تجارب الفكر وجدنا بحثا مهما في الحتمية اللغوية؛ أجراه معهد ماكس بلاك في هولندا تحت إشراف ستيفن سي. ليفنسون. إذ يميّز الأخير والباحثون الذين اشتغلوا تحت إشرافه في تنفيذ هذا البحث، بين اللغات التي تصف العلاقات المكانية من ناحية الجسم مثل: (يمين يسار/ أمام خلف، في الإنجليزية) وتلك اللغات التي تعين العلاقات المكانية بالنقاط الثابتة في البيئة مثل: (شمال / جنوب / شرق / غرب، في بعض اللغات الأسترالية الأصلية). ففي لغة من النوع الثاني يشير الشخص، على سبيل المثال، إلى "كتفك الشمالي" أو "القنينة التي في الطرف الغربي من المنضدة"؛ وفي رواية حدث ماضٍ، على المرء أن يتذكّر كيف اتصلت الأفعال بنقاط البوصلة. وهكذا، ولكي تتكلّم هذا النوع من اللغة، عليك دائما أن تعرف أين أنت في ما يتعلق بإشارة البوصلة، سواء كنت تتكلّم أو لا. وقد بينت المجموعة التي عملت تحت إشراف ليفنسون في الدراسات العابرة للّغات والثقافات أنّ هذه الفكرة صحيحة تماما.
إننا بحاجة في هذا الميدان إلى مزيد من البحث والتجارب، لكن من غير المحتمل أن تكون فرضية سابير وورف في صيغتها القوية كما عرضناها في البداية مدعومة بالدليل القوي. ذلك أن اللغة هي أحد العوامل المؤثرة في الإدراك وفي السلوك وليست هي العامل الوحيد. ولو كانت فرضيتهما في صيغتها القوية صحيحة لكانت الترجمة أو تعلم لغة ثانية أصعب مما هي عليه في الواقع. وعلى كل حال فإن اللغة واسعة الانتشار جدا، ولأننا مطالبون باتخاذ قرارات إدراكية ونحن نتكلم فإن صيغة مرنة من تلك الفرضية تظل عامل جذب للعلماء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق