السبت، 9 مارس 2013

داخل دماغ إنسان ذاكرته خارقة(*)


 
يمتلك <كيم بيك> واحدة من أعجب الذاكرات التي عُرفت حتى الآن.

وقبل أن نتمكن من تفسير إمكاناته، لا يمكننا أن ندعي فهمنا المعرفة البشرية.




يوم وصف <L.J.داون> متلازمة الذاكرة الخارقة savant syndrome في عام 1887 وأعطاها اسمها ولاحظ ارتباطها بقدرات مذهلة في الذاكرة، استشهد بمريض استطاع سرد نصّ إدوارد <E.گيبون> حول «أفول الإمبراطورية الرومانية وسقوطها». ومنذذاك جرى ربط هذه الذاكرة الخارقة بأحد المجالات مثل الموسيقى أو الفن أو الرياضيات. ولكن هذه الذاكرة الاستثنائية هي نفسها مهارة رجل عمره أربع وخمسون سنة يدعى <كيم بيك> ويدعوه أصدقاؤه <كيم ـ بيوتر>(1).


نظرة إجمالية/ قمم بيك(**)
تسري قوى ذاكرة هائلة في كل تظاهرة معروفة لمهارة ترتبط بمتلازمة الذاكرة الخارقة. وفي حالة <كيم بيك> فإن الذاكرة هي بحد ذاتها المهارة.
يبدي دماغ <كيم>عدة شذوذات، بما في ذلك غياب الجسم الثفني. ويبقى ذلك الشذوذ الخاص في حالة <كيم> بحاجة إلى تفسير، ولكنه يثير سؤالا تثيره المهارات المرتبطة بتلك المتلازمة ومفاده: هل ينبه العطل الدماغي تناميا معاوضا في منطقة أخرى من الدماغ، أم إنه يتيح فقط بروز قدرات كامنة كانت هاجعة؟
لقد تطور لاحقا تعلم <كيم> عن ظَهر قَلب إلى شكل من التفكير الترابطي ذي دلالة واضحة على الإبداع. ومن ثم ساعده نجاحه على أن ينخرط في العالم الأوسع. ويستنتج المؤلفان أن مهارات متلازمة الذاكرة الخارقة لا يجوز أبدا إغفالها، بل يجب تنميتها لصالح النمو الفكري والاجتماعي للمريض.


يستطيع <كيم> في الواقع، أن يستحضر فعلا من مكتبته الذهنية بسرعة تعادل سرعة استحضار ماكينة البحث عن المعلومة في الإنترنت. لقد قرأ كتاب <T.كلانسي> بعنوان The hunt for red October في ساعة وخمس وعشرين دقيقة. ولدى سؤاله بعد ذلك بأربعة أشهر، أعطى اسم مشغِّل الراديو الروسي المذكور في الكتاب مشيرا إلى الصفحة التي تصف ذلك الشخص ومقتبسا منه بضع فقرات بنصِّها الحرفي. لقد بدا <كيم> يتذكر الكتب وهو في عمر الثمانية عشر شهرا بالنص الذي قُريء له. وقد تعلَّم تسعة آلاف كتاب عن ظهر قلب حتى الآن. إنه يقرأ صفحة في ثماني ثوان إلى عشر ويضع الكتاب مقلوبا رأسا على عقب في رفوف المكتبة للدلالة على استظهاره إياه في سوّاقته hard drive العقلية.


تمتد ذاكرة <كيم> لتشمل ما لا يقل عن 15 موضوعا تتناول فيما تتناول تاريخ العالم، تاريخ أمريكا، الرياضيات، الأفلام السينمائية، الجغرافيا، برامج الفضاء، الممثلين والممثلات، الإنجيل وتاريخ الكنيسة، الآداب، شكسبير، والموسيقى الكلاسيكية. إنه يعرف كودات المناطق والكودات البريدية في الولايات المتحدة إلى جانب محطات التلفزة التي تغطي هذه المواضع. إنه يعرف كذلك الخرائط الموجودة في مقدِّمات أدلة الهاتف ويستطيع أن يروي تعليمات السفر كتلك التي ترد في موقع الياهو Yahoo بالنسبة إلى أي مدينة في الولايات المتَّحدة أو بين كل مدينتين. إنه يستطيع تمييز مئات المؤلفات الموسيقية الكلاسيكية وزمان ومكان نظمها وتنفيذها لأول مرة، وكذلك اسم من نظمها والعديد من تفاصيل سيرهم الذاتية، وحتى مناقشة المكوِّنات النغمية والمنهجية للقطع الموسيقية. ولعل ما هو أكثر إثارة أنه حاليا أخذ على ما يبدو تطوير مهارة جديدة في منتصف العمر. فبينما كان من قبل يستطيع مجرد التحدث في الموسيقى، فإنه في السنتين الماضيتين أخذ يتعلم عزفها.


إن هذا إنجاز مذهل في ضوء مشكلاته الخِلْقية الشديدة، التي تعدُّ خصائص يتشارك فيها بدرجات متفاوتة جميع أصحاب الذاكرات الخارقة. فهو يمشي مشية مائلة ولا يستطيع أن يزرّر ثيابه ولا أن يتدبر أعماله الروتينية اليومية، كما يلاقي صعوبات في التجريد abstraction. وفي مقابل هذه العاهات، فإن مواهبه، التي تتفوق على نحو استثنائي على مثيلاتها لدى أي شخص، تشرق أيَّ ما إشراق. وتفسير الطريقة التي يؤدي بها<كيم>أفعاله قد توضح بصورة أفضل لِمَ تحدث مهارات معينة (بما في ذلك تلك المهارة الغامضة المعتادة في حساب المفكرة calendar calculating التي تصحب على الدوام الذاكرة الضخمة) بمثل هذا الانتظام بين أصحاب الذاكرات الخارقة. ومؤخرا، حينما قال له شخص كان قد أجرى مقابلة معه بأنه ولد في 31/3/1956، قال له <كيم> في أقل من ثانية: إن ذلك كان في يوم السبت من نهاية أسبوع عيد الفصح.


تبدي دراسات تصوير دماغ <كيم> المأخوذة حتى الآن شذوذا بنيويا كبيرا (انظر الإطار في الصفحة 63). ولكن لا يمكن حتى اليوم الربط المباشر بين هذه المكتشفات وأي من مهارات <كيم>؛ وذلك البحث قد بدا للتوّ. ولكن، قد تستطيع تقنيات جديدة للتصوير تتناول وظائف الدماغ (بدلا من بنيته فقط) أن توفر لنا فهما أفضل في هذا الصدد. وفي هذه الأثناء، نعتقد أن توثيق الأشياء المهمة التي يفعلها <كيم> أمر جدير بالاهتمام؛ إذ ليس من السهل العثور على أناس مثله ممن يفيدنا أن نسجل خاصِّياتهم لصالح الأبحاث المستقبلية. هذا ويفتح موضوع الذاكرات الخارقة نافذة فريدة داخل العقل. فإذا لم نتمكن من تفسيره، فلن نتمكن من ادعاء فهمٍ تام لكيفية عمل الدماغ.


دماغ غير عادي(***)


ولد كيم في 11/11/1951 (وكان ذلك يوم أحد حسبما يقول). كان رأسه كبيرا وفي قفاه قيلةٌ دماغية encephalocele (أو بثرة بحجم البيسبول) تحلّلت تلقائيا. ولكن وجدت لديه أيضا شذوذات دماغية أخرى تتضمن مخيخا مشوَّها. وقد قام أحدنا (كرستنسن) بعمل المسوح الأولية لدماغ <كيم> في عام 1988، ثم تابع تقدُّمه منذ ذلك الحين.


يمكن أن تعلِّل النتائج المخيخيّة مشكلات <كيم> المتعلقة بالتنسيق والحركية mobility. ولكن الأكثر لفتا للانتباه هو غياب الجسم الثفني corpus callosum الذي يشكل تلك السويقة الكبيرة من النسيج العصبي التي تربط في الحالة السوية بين نصفي الكرة المخية الأيمن والأيسر. إننا لا نعرف ماذا يترتب على هذا العيب؛ لأنه، على ندرته، لا يترافق باضطرابات وظيفية. فقد وجد من الناس من افتقد هذه البنية من دون أن يعاني أي مشكلات يمكن الكشف عنها. ولكن مع ذلك فإن من أجريت لهم عملية شق للجسم الثفني في كُهولتهم (بقصد محاولة منع انتشار نوبات الصرع من أحد النصفين المخيَّين إلى النصف الآخر) تنشأ لديهم متلازمة مميزة للدماغ المشطور يبدأ فيها نصفا الكرة المخيِّة المنفصلان بالعمل مستقِلين تقريبا أحدهما عن الآخر.


<كيم بيك> واقفا أمام صورة لدماغه


قد يبدو أن أولئك الذين يولدون من دون جسم ثفني يطوِّرون قنيوات اتصال بين نصفي الكرة المخية. وربما كانت هذه البنى الحاصلة تتيح للنصفين المخيين أن يعملا في نواح معينة وكأنهما نصف مخيّ واحد عملاق يضم تحت سقف واحد وظائف كانت منفصلة. فإذا كان الأمر كذلك، فإن <كيم> قد يدين ببعض مواهبه إلى هذا الشذوذ الخاص. وفي جميع الأحوال، فإن حقيقة كون بعض الناس الفاقدين للجسم الثفني لا يبدون شذوذات فيما يتمتع آخرون بذاكرات خارقة، إنما تجعل وظيفة الجسم الثفني أقل وضوحا عما كان يعتقد. ويتندَّر علماء الأعصاب بأن وظيفتي الجسم الثفني الوحيدتين تقتصران على نشر نوبات الصرع وضم الدماغ بعضه إلى بعض.


تقودنا الناحية النظرية في اتجاه واحد وهو كون دماغ <كيم> يبدي شذوذات في نصف الكرة المخية الأيسر، وهذا نموذج يلاحَظ لدى العديد من أصحاب الذاكرات الخارقة. وأكثر من ذلك، فقد اعتبر عُطْلُ النصف المخي الأيسر تفسيرا لكون الذكور أكثر احتمالا من الإناث ليس فقط لامتلاك ذاكرات خارقة وإنما أيضا لإظهار خلل القراءة dyslexia والتأتأة stuttering وتأخر النطق والذاتوية (التوحد) autism. وتتضمن الآلية المقترحة لذلك منحنيين اثنين: أولهما امتلاك الأجنة الذكرية مستوى عاليا من التستوستيرون الجوّال في الدم بحيث تكون سامة لنسج الدماغ المتنامية، والآخر أن النصف المخي الأيسر يتنامى بشكل أبطأ من نمو النصف المخي الأيمن فيبقى لذلك عطوبا مدة أطول. وكذلك تؤيد دور أذية النصف المخي الأيسر حالاتُ متلازمة الذاكرة الخارقة المكتسبة acquired savant syndrome التي ذكرتها تقارير عديدة حول الظهور المفاجئ لذاكرات خارقة لدى أطفال كبار وبالغين عقب إصابتهم بأذية في نصف الكرة المخية الأيسر.


ماذا يعني هذا الدليل ضمنا؟ ثمة إمكانية بأن النصف المخي الأيسر حينما لا يستطيع أن يعمل كما ينبغي، يقوم النصف المخي الأيمن بالتعويض عنه عبر مهارات جديدة، ربما عن طريق تجنيد نُسُج دماغية تكون في الحالة السوية معدّة لأغراض أخرى. وثمة إمكانية أخرى تتمثل في أن عطل النصف المخي الأيسر يكشف مهارات كانت كامنة في النصف المخي الأيمن طوال الوقت، وهي ظاهرة دعاها البعض بالتحرر من «طغيان» النصف المخي الأيسر المهيمن.


<كيم> وهو يقرأ صفحة في غضون ثماني ثوانٍ إلى عشر، وفي الوقت نفسه مستظهرا إياها عن ظهر قلب. وتتضمن مكتبته الذهنية ذات التسعة آلاف كتاب تغطية موسوعية لكل شيء من <شكسبي> وصولا إلى الملحنين الموسيقيين، ثم إلى خرائط جميع المدن الرئيسية في الولايات المتحدة


لقد خضع <كيم> لاختبار نفساني في عام 1988 . وقد كان «نسبة الذكاء»(2) IQ لديه 87. ولكن الاختبارات الفرعية اللفظية والأدائية لهذه النسبة تفاوتت كثيرا، إذ وقعت بعض نسب الذكاء في المدى الأعلى للذكاء ووقع بعضها الآخر في مدى المعوقين عقليّا. ولذلك خلص التقرير النفساني إلى أن «تصنيف نسبة الذكاء لدى <كيم> لا يشكل وصفا صحيحا لمقدرته الفكرية.» والنقاش حول الذكاء العام general intelligence مقابل الذكاءات المتعددة multiple intellegencies يحتدم أواره في علم النفس. وإننا نعتقد أن حالة <كيم>هذه تناصر ما خلص إليه ذلك التقرير النفساني.


لقد وصّف التشخيص الإجمالي حالة <كيم> بأنها «حالة اضطراب في التشكل والنمو ليس إلاّ» وتخلو من أي تشخيص لاضطراب ذاتوي (توحدي) autistic. وبالفعل، فمع أن الذاتوية غالبا ما تترافق بمتلازمة الذاكرة الخارقة أكثر من أي اضطراب وحيد بعينه، فإن أكثر من نصف عدد الذين تظهر لديهم هذه المتلازمة هم ذاتويون. ولكن على العكس من الذاتويين، فإن <كيم> شخص صدوق ووسيم. ولعل أحد الأمور التي لا تبدو ضرورية للتنامي الكامل لمهارات متلازمة الذاكرة الخارقة هو الانكباب القوي على مادة الموضوع ذي الصلة.


الذاكرة والموسيقى(****)


في حالة <كيم>، بدأت جميع اهتماماته باستظهار فطري، ولكنها تقدمت لاحقا إلى ما هو أكثر من ذلك. ومع أن <كيم> لا يمتلك سوى مقدرة محدودة على التجريد أو التفكير المفاهيمي (إذ إنه لا يستطيع على سبيل المثال أن يشرح العديد من الأمثال العادية)، فإنه يفهم فعلا الكثير من المواد التي استودعها في ذاكرته. وتعدُّ هذه الدرجة من الفهم غير عادية بين من لديه متلازمة الذاكرة الخارقة. وقد صاغ «داون»(3) نفسه عبارة الالتصاق اللفظي verbal adhesion كوصف لمقدرة مرضى متلازمة الذاكرة الخارقة على تذكر كميات هائلة من الكلمات من دون أن يفهمها. وقد أبرزت ذلك <سارة باركر> [وهي طالبة في علم النفس بجامعة پنسلفانيا] على نحو زاهٍ في وصفها أحد هؤلاء المرضى يدعى <كوردون> قائلة: «إن امتلاك ترسانة طوب لا يجعل منها عمارة من الحجر.» أما <كيم> فإنه لا يمتلك ترسانة كبيرة من الطوب فحسب، بل أصبح أيضا عمارة مفردات مبدعة وجامعة للفنون ضمن ساحات مهارته.


أحيانا تكون ردود <كيم> على الأسئلة أو التوجيهات حصرية وحرفية تماما. فحينما طلب إليه والدُه ذات مرة في أحد المطاعم أن يخفض صوته، انزلق منخفضا في كرسيه وبذلك خفَّض صندوق صوته. وفي حالات أخرى قد تبدو أجوبته ألمعية تماما. ففي أحد أحاديثه أجاب عن سؤال حول خطاب ألقاه أبراهام <لنكولن> في عام 1863 بخصوص معركة جيتسبرگ بقوله: «في دار ويلز will's house، 227 شارع نورث وست فرونت، ولكنه مكث هناك ليلة واحدة. لقد ألقى خطابه في اليوم التالي.» لم يقصد <كيم> النكتة، ولكن حينما رأى سائله يضحك أدرك النقطة، وأخذ منذئذ يكرر القصة بقصدٍ وتأثير مرحين.


لكن <كيم> يمتلك قوة لا تقبل الجدل على إقامة ترابطات ذكية. ففي أحد الأيام حضر احتفالا يخص شكسبير رعاه فاعل خير سُمِّيَ بالأحرف الأولى من اسمه <.O.C>، وقد حال مرض هذا الأخير بالتهاب الحنجرة دون قيامه بالإعراب عن امتنانه لتكريمه، وهنا بادر <كيم> المحب لشكسبير والمولع مثله بالتورية punsterإلى القول مازحا: «هيا <.O.C>، ألا يمكنك قول ذلك؟»


إن مثل هذا الاستخدام الخلاّق لمادة كانت قد استظهرت أصلا على السجيّة، يمكن أن ينظر إليه كمكافئ لفظي لارتجال موسيقار. فمثلما هي حال الموسيقى، يفكرِّ <كيم> بسرعة تبلغ حد صعوبة مجاراة ترابطاته المعقدة. فهو يتقدّم على جمهوره خطوتين أو ثلاث خطى في استجاباته.


ومؤخّرا تجلّى بُعْدٌ جديد مذهل إلى حدٍّ ما في مهارات متلازمة الذاكرة الخارقة لدى <كيم>. ففي عام 2002 قابل <كيم> مديرة المكتبة الموسيقية McKay وأستاذة الموسيقى في جامعة يوتا، <A.كرنيان>. وسرعان ما بدأ بفضل مساعدتها يعزف على البيانو ويحسِّن حوار صياغاته الموسيقية بعزف فقرات منها عارضا على لوحة مفاتيح البيانو عدة قطع استذكرها من مكتبته الذهنية الضخمة. ونشير إلى أن <كيم> يمتلك ذاكرة طويلة الأمد لطبقة الصوت، إذ يتذكر مستوى الطبقة الأصلية لكل قطعة موسيقية.


هل هو اتصال مفقود؟(*****)
يختلف دماغ <كيم> (الصورة اليسرى في الأسفل) عن الأدمغة النمطية (المخطط والصورة اليسرى في الأعلى) في عدة نواح. [تصوِّر المسوح أدناه مقاطع عرضية من الأمام إلى الخلف جرى إعدادها باستخدام التصوير الرنيني (التجاوبي) المغنطيسي]. ويلاحظ أن دماغ <كيم> ورأسه كبيران، كل منهما في المئيني(4) ال99. وأكثر ما يلفت النظر هو الغياب الكامل للجسم الثفني الذي يربط في العادة النصفين المخيين الأيمن والأيسر أحدهما بالآخر. كما يغيب الملتقيانcommissures الأمامي والخلفي اللذان يربطان أيضا بين النصفين المخيين ذاتهما. أما المخيخ المسؤول عن وظائف حركية معينة فهو لدى <كيم> أصغر من المعتاد، إضافة إلى كونه مشوَّها ويشغل سائل معظم الحيِّز المحيط به، الأمر الذي يفسِّر بعض صعوبات <كيم> في التنسيق الحركي. فموضوع البحث والحالة هذه يتعلق بدور هذه الشذوذات في قدراته العقلية



يمتلك <كيم> معرفة تامة بأجهزة أوركسترا السمفونية التقليدية ويحدِّد بسرعة طابع (جرس) أي مقطوعة آلاتية instrumental. فعلى سبيل المثال، قدّم <كيم> النغم الافتتاحي لقصيدة أوركسترا<بدريش سامانتا> التي تحمل اسم <مولداو> The Moldau عبر تخفيض أدوار الناي flute والمزمار clarinet على نحو متصاعد الإيقاع بيده اليسرى وإظهار أن الشبّابات والمزامير تتداخل مع اللازمة الرئيسية التي خفّضها بعدئذ إلى طبقات pitchesيتم عزفها على نحو منفرد في ثلاثيات باستخدام يده اليمنى. هذا ويتبيَّن استيعابه للأساليب الموسيقية في مقدرته على تحديد أسماء ملحِّني قطع موسيقية لم يسبق له سماعها سابقا وذلك عن طريق تخمين الفن الموسيقي للقطعة واستنباط هوية الملحِّن الممكن.


ومع أن <كيم> مازال أخرق من الناحية البدنية، فإن إتقانه اليدوي في تحسُّن مستمر. فحينما يجلس إلى البيانو، يمكنه عزف القطعة التي يرغب في تناولها، فيغني المقطوعة ذات الشأن أو يصف الموسيقى لفظيا ويتحول انسيابيا من صيغة إلى أخرى. إنه ينتبه إلى الإيقاع ويدق بخفّة على صدره بيده اليمنى أو يدق الأرض برتابة بقدمه اليمنى أثناء العزف.


تسجِّل <گرينان> (تلميذة موسيقى <موزارت>) الملاحظات التالية بقولها: «إن إلمام <كيم> بالموسيقى كبير. وتعد مقدرته على تذكّر أي تفاصيل تخص قصيدةً ما كان قد سمعها (ولو لمرة واحدة فيما ينوف على أربعين سنة خلت) أمرا مذهلا. أما الترابطات التي يقيمها بين الحبكات weaves عبر القصائد، وكذلك سير حياة الملحّنين، والحوادث التاريخية، والمرافقات الصوتية للأفلام السينمائية، وآلاف الحقائق التي تختزنها قاعدة بياناته، فإنها تكشف عن مقدرة عقلية هائلة.» ويصل الأمر بالباحثة <گرينان> أن تقارن بينه وبين <موزارت> الذي كان يمتلك رأسا كبير الحجم كذلك، وشغفه بالأعداد وبمهارات اجتماعية متفاوتة. وليس عجبا، حسب <گرينان>، أن يكون باستطاعة<كيم> أن يتعلم حتى التلحين.


حياة <كيم> بعد فيلم «رجل المطر»(******)


ليس مستغربا أن تكون ذاكرة <كيم> الضخمة قد أسرت انتباه الكاتب <B.مورو> (حين التقاه صدفة في عام 1984) وألهمته أن يكتب سيناريو الفيلم السينمائي رجل المطرRain Man ، الذي أدى دور البطل فيه<D.هوفمان> تحت اسم <ريموند بابيت> باعتباره يعاني «متلازمة الذاكرة الخارقة». إن هذا الفيلم السينمائي محض خيال علمي ولا يروي قصة حياة <كيم> ولو بالإجمال. ولكن في أحد مشاهده المستبصرة على نحو لافت يحسب <ريموند> الجذور التربيعية ذهنيا. ويقول أخوه <شارلي> في هذا الصدد: «إنه يجب أن يعمل لحساب ناسا NASA أو شيء من هذا القبيل.» أما بالنسبة إلى <كيم> فإن مثل هذا التعاون قد يحدث فعلا.


أجل، فقد اقترحت الوكالة ناسا نموذجا تشريحيا ثلاثي الأبعاد 3-D عالي المَيْز(5) لبنيان دماغ <كيم>. ويصف<R.بويل>[وهو مدير المركز NASA BioVis] هذا المشروع كجزء من جهد أكبر يستهدف دمج وترصيع بيانات صور تشكيلة واسعة من الأدمغة قدر الإمكان، ولهذا السبب يعتبر دماغ <كيم>الاستثنائي ذا قيمة خاصة. وينبغي لهذه البيانات، سواء الوصفيّة منها أو الوظيفية، أن تمكِّن الباحثين من تحديد مواقع وماهية التغيُّرات الدماغية التي تصحب الفكر والسلوك. وتأمل ناسا أن يمكِّن هذا النموذج التفصيلي الباحثين من تحسين مقدرتهم على تأويل خَرْج output منظومات التصوير فوق الصوتي ultrasound الأقل كفاءة والتي تؤلِّف النوع الوحيد الذي يمكن حمله الآن إلى الفضاء واستخدامه لمراقبة رواد الفضاء.


لقد برهن نجاح تصوير فيلم رجل المطر Rain Man والأفلام السينمائية اللاحقة أنه نقطة تحوّل في حياة <كيم>؛ إذ إن هذا الأخير كان قبل ذلك اعتكافيّا ينسحب إلى غرفة نومه حين يأتيه الأصحاب. لكنه بعد الثقة التي اكتسبها من اتصالاته مع صانعي الفيلم، وكذلك من الشهرة التي زوده بها النجاح السينمائي، استلهم ووالده <F.بيك>مشاركة مواهب <كيم> مع عديد من الحضور فأصبحوا رسل حماس لذوي الإعاقات، وبمرور السنوات شارك قصتهم ما ينوف على مليوني شخص إلى ستة ملايين.


يشكل العزف على البيانو أحدث مهارة اكتسبها <كيم>، وهي تزداد يوما بعد يوم على الرغم من ضعف التنسيق الحركي لديه. وتشاهد في هذه الصورة إلى جانبه المدرِّسة (جالسة) ووالده، وكلاهما عمل على تشجيع جهود <كيم>


إننا نعتقد أن لهذا التحوُّل في حياة <كيم> قابلية تطبيق عامة. فالكثير مما يعرفه العلماء عن الصحة يتأتى من دراسة الإمراضيات pathologies ، وسيأتي الكثير مما سنتعلمه حول الذاكرة العادية من دراسة الذاكرة الاستثنائية أو الفريدة. وفي الوقت نفسه، فإننا سنتوصل إلى بعض الاستنتاجات العملية لصالح رعاية أشخاص آخرين من ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يمتلكون مهارة من مهارات متلازمة الذاكرة الخارقة. إننا نوصي بأن تعمد الأسرة والجهات الأخرى المانحة للرعاية إلى «تدريب الموهبة»(6)، بدلا من نبذ مثل هذه المهارات بوصفها سخيفة، وذلك من أجل ربط من تظهر لديه متلازمة الذاكرة الخارقة بالناس الآخرين وتخفيف تأثيرات إعاقته. إن هذا الأمر ليس بالسبيل السهل، لأن الإعاقة وقيودها تتطلب قدرا كبيرا من التفاني والصبر والعمل الشاق حسبما يبيِّن بشكل مقنع والد <كيم> على سبيل المثال.


هذا ولسوف يمدُّنا المزيد من استكشاف متلازمة الذاكرة الخارقة باستبصارات وقصص علمية ذات اهتمام إنساني شاسع. ويقدم <كيم بيك> أدلة وافرة لكلتيهما.




المؤلفان

Darold A. Treffert - Daniel D. Christensen


لطالما فتنتهما ظاهرة الذاكرات الخارقة. <تريفيرت> طبيب نفساني في وسكونسن، وقد أجرى منذ عام 1962 أبحاثا على الذاتوية (التوحد) autism ومتلازمة الذاكرة الخارقة، حيث قابل أول مرة أحد الذين يعانون هذا الاضطراب. وكان مستشارا لفيلم رجل المطر، وهو مؤلف كتاب «الناس الاستثنائيون: فَهْم متلازمة الذاكرة الخارقة». أما <كريستنسن> فهو أستاذ عيادات الطب النفسي وأستاذ عيادات علم الأعصاب وأستاذ مشارك للفارماكولوجيا في كلية طب جامعة يوتا. ويركِّز بحثه على مرض ألزايمر، لكنه بعد <كيم بيك> انصرف لأكثر من عقدين إلى الاهتمام بمتلازمة الذاكرة الخارقة.




مراجع للاستزادة


The Real Rain Man. Fran Peek. Harkness Publishing Consultants, 1996.


Extraordinary People: Understanding Savant Sgndrome. Reprint

edition. DaroldA.Treffert.iUniverse,1nc.,2000.


Islands of Genius. Darold A. Treffert and Gregory L. Wallace in

ScientificAmerican, Vol. 286, No. B, pages 76—85; June 2002.


www.savantsgndrome.com, a Web site maintained bg the Wisconsin

Medical Society.




(*) فهذا التغيير في العنوان الأصلي أملاه مضمون المقالة. وجدير بالذكر أن المترادفات الإنكليزية لكلمة savant هي :INSIDE THE MIND OF A SAVANT :العنوان الأصلي

scholar, learned man, giant of learning, colossus of knowledge, mine of information. walking encyclopedia

(**) Overview / Peek's Peaks

(***) An Unusual Brain

(****) Memory and Music

(*****) A Missing Connection?

(******) Life after Rain Man :العنوان الأصلي




(1) Kim-Puter (التحرير)

(2) Intellegence Quotient نسبة الذكاء

(3) الطبيب (J. L. Down) أول من وصف أعراض المتلازمة المسماة باسمه [انظر: أسباب متلازمة «داون»، مجلة العلوم، العدد 4 (1988)، ص 37] (التحرير)

(4) percentile مُئيني

(5) high-resolution

(6) train the talent

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق