السبت، 22 أبريل 2017

بركة النبي اسحاق


قصص الأنبياء تتلوّن تفاصيلها من كتاب مقدّس إلى آخر.  في هذه المقالة سأتناول قصّة حصول النبيّ يعقوب على البركة من أبيه إسحاق بحسب رواية سفر التكوين، وهو فاتحة أسفار التوراة.
سأبدأ من اسم يعقوب، والتسمية لدى الشعوب القديمة السامية وغير السامية شديدة الطرافة وغنيّة في الدلالات. ومن يتتبّع سيَر الأسماء بدءا من اسم آدم وحوّاء يخرج بمجموعة وافرة من الأفكار. وغالباً ما نجد في تسمية الأنبياء أو ألقابهم في التوراة وغيره من الكتب المقدّسة للشعوب كما في أساطير الهنود واليونانيين واليابانيين والصينيين تبريرات كانت وراء اختيار هذا الاسم أو ذاك. وهي تبريرات تتحوّل إلى ما يشبه خارطة طريق للمصائر. بالنسبة لاسم يعقوب فإنّه توصيف للحظة خروجه من بطن أمّه، وهيئته حين أطلّ إلى الدنيا. في الإصحاح الخامس والعشرين  حديث عن مشقّات حمل رفقة زوجة النبيّ اسحاق، حيث تقول لنفسها: إن كان الأمر هكذا فما لي والحمل؟ فيحدثها الربّ عما في بطنها: إنّ في جوفك أمّتين، ومن أحشائك يتفرّع شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يُستعبد لصغير، فلما كملت أيّام حملها إذ في جوفها توأمان. سمّي الأول عيسو لأنّه كان أكلف اللون كفروة شعر، بينما استمدّ يعقوب اسمه من طريقته في الخروج من جوف أمه، إذ خرج " ويده قابضةٌ على عقب عيسو فدعي يعقوب". وكانا توأمين مختلفين في البنية والأمزجة، فعيسو يستهويه الصيد بينما يعقوب يحبّ الإقامة في الخيام. ولقد مالت نفس اسحاق إلى عيسو، ولكنّ قلب رفقة مال إلى يعقوب.
نعرف أنّ للبكر حظوة لدى الشعوب الشرقيّة بشكل عام، فهو بمثابة وليّ العهد، وهو الذي يمنح الأب كنيته. ألا يغيب اسم الأب خلف اسم الابن في عبارة " أبو فلان"؟ في الإصحاح السابع والعشرين تتضّح صورة الخلاف بين رغبة الأب ورغبة الأم، وتتغلّب في النهاية رغبة الأم على رغبة الأب باستعمال الحيلة. يفتتح الإصحاح بوصف حالة اسحاق وقد شاخ وضعف نظره وشعر بدنوّ أجله، فقال لعيسو ولده المفضّل: "هاأنذا قد شخت، لا أعلم يوم موتي، والآن خذ أداتك وجعبتك وقوسك وإخرج الى الصحراء، وصد لي صيداً وأصلحه لي ألوانا كما أحبّ وأتني به فآكل لكي تباركك نفسي قبل أن أموت." ( الإصحاح 27، 2-4). يظهر النص نيّة اسحاق الواضحة في منح البركة لعيسو وليس ليعقوب.  وهذه النيّة المعلنة تناهت إلى سمع رفقة التي راحت من فورها إلى تحضير ما يبطل مفعول نيّة إسحاق، فهي تريد أن تكون البركة الإسحاقيّة من نصيب يعقوب لا من نصيب عيسو، وما كان ذلك ليتمّ إلاّ باتباعها وسيلة تخدع بها عيني اسحاق الضعيفتين، وضعف نظر اسحاق كان المدخل إلى تحقيق رغبة رفقة.  وهي لن تكتفي باستثمار ضعف نظره بل تريد أيضا أن تخدع باقي حواسّه، ضغف النظر الشديد يحوّل المشاهد أمام الناظرين إلى ما يشبه الضباب، وهنا يطلب النجدة من الحواس الأخرى،  وخصوصا اللمس، وحاسّة اللمس قد تكشف لعبة رفقة، لذا ستقوم بخداع حاسة اللمس أيضا، وتعزّز ذلك بخداع حاسة الشمّ. والإنسان، عند التدقيق، ضحيّة ما تريه إيّاه حواسّه في أغلب الأحيان!
حين سمعت رفقة ما قاله اسحاق لولده عيسو، أسرعت إلى ولدها المفضّل يعقوب، وطلبت منه إحضار جَدْيين من المعز لطبخهما وتقديمهما إلى اسحاق على يدي يعقوب لأخذ البركة, وكانت الأم رفقة قد طبخت الفكرة في رأسها حتى نضجت تماماً. خاف يعقوب من أن يفضح الأب اللعبة، فهو قد كلّ منه النظر، وقد يريد الأب للتأكد من كون الابن الذي أمامه هو عيسو، فيطلب اقتراب عيسو منه للمس يديه، وهنا يسهل كشف الزيف، لأنّ عيسو أشعر، ويعقوب أملس،  فيحصل على اللعنة بدلا من أن يحصل على البركة.  لكن الأم طمأنت قرّة عينها يعقوب، وأقنعته بأنّ هذا لن يكون. فذهب وأحضر جديين، وهما سيقومان بوظيفتين، وظيفة غذائية ووظيفة تمويهية، فجلد المعز جهزته الأمّ لوضعه على الأماكن التي يمكن ان يلمسها يعقوب للتأكد من كون الذي أمامه هو عيسو، ثمّ أحضرت لباس عيسو الفاخر وألبسته يعقوب، ولباس يعقوب الفاخر ليست مهمته تزيين منظر يعقوب في عين أبيه، فالأب لا يرى، ولكن اللباس الفاخر يحمل رائحة عيسو، أي ان اللباس هنا له وظيفة خداع حاسة الشمّ وتعطيل قدرتها المائزة، وكانت رائحة عيسو العابقة من جسد يعقوب تشبه القول الفصل في مسألة البركة. فدخل يعقوب الى والده بصفته عيسو. استغرب الأب من عودته السريعة من الصيد، واستغراب يعقوب كان شكلاً من أشكال الشكّ. فقال يعقوب ان الله سهل له مهمّة الصيد. طلب اسحاق من يعقوب أن يتقدّم صوبه ليجسّه فدنى منه يعقوب فجسّه فعرف ان اليدين يدي عيسو المميزتين بكثافة الشعر، ولكن ارتاب في الصوت، فقال اسحاق: الصوت صوت يعقوب، ولكن اليدين يدا عيسو. بين حاسة اللمس وحاسة السمع ارتاب فم اسحاق فنطق بما نطق، وليمحو ظنّه حاول الاستعانة بحاسة الشمّ فقال لابنه: اقترب مني وقبّلني، فاقترب وقبّله وهنا شمّ رائحة ثيابه، ولكنها ليست ثيابه في الحقيقة وإنما هي ثياب تحمل رائحة أخيه عيسو. فقام ساعتئذ اسحاق بمنح بركته لابنه يعقوب ظنّا منه أنه عيسو. ولعن من يلعنه وبارك من يباركه.
 ولكن الحقيقة ظهرت حين عاد عيسو من الصيد وحضّر الطعام لوالده كما طلب منه  وقدّمه له، فذهل اسحاق وذهل ايضا عيسو حين أخبره اسحاق بما حصل، وكيف أخذ منه  يعقوب البركة " بمكر" حسب الكلمة الواردة في التوراة،  ولكن لا يمكن استرداد البركة، فهي من الأمور التي تتحقق بمجرد التلفظ بها، وتصير كالقدر الذي لا يمكن ردّه، كما لا يمكن منحها مرّتين، فانكشاف الحقيقة، هنا، لا يغيّر شيئا في مجريات الأحداث أو مجريات الأقدار.  فحقد عيسو على أخيه التوأم يعقوب، وقرّر التخلّص منه بعد وفاة أبيه، ولكن، هنا، تدخّلت الأمّ مجدّدا لصالح يعقوب وهرّبته عند خاله، حيث بدأت هناك قصة أخرى.

بلال عبد الهادي  




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق