الكلمة الواحدة
تخرج من فمين ليس لها بالضرورة معنى واحد. والرسالة الواحدة تخرج من فمين ليس لها
أيضاً معنى واحد. كلّ فم له رسالته، حتى ولو لم يتفصد أي فم ذلك. لأنّ أذن السامع
ليست فم الناطق وهي التي تقوم بعملية تفكيك المعنى. وإذا تتبعنا العبارات التي
تشير إلى سوء الفهم أو سوء الظنّ نلحظ ذلك ومنها: " ما هيك بقصد"،
"فهمت غلط" ومترادفات هذه العبارات كثيرة دالة على التشنج الحاصل بين
الفم والأذن.
لأن القول لا
يمكن له بكل بساطة أن يتحرّر لا من القائل ولا من السامع ولا أيضاً من الطريق التي
اختارها للوصول إلى مستقبِل الرسالة. رسالة شفهية ليست رسالة خطية حتى ولو تضمنت
نفس المفردات. الخلاف في صياغة أداة الرسالة يحتم فروقات كثيرة، إنّ الأداة ليست
مجرد شكل ظاهري، الرسالة الشفهية أداتها الفم والناطق كلّه بما في ذلك هندامه،
والهندام ثرثار ومنافق أحيانا. بينما الرسالة الخطية أداتها الأصابع، الورق وشكله،
الحبر ولونه وغير ذلك. قد يرى بعض الناس في هذه المسألة أمراً غير ذي بال، ولكن
واقع الحال يظهر عكس ذلك. لنفترض أنّ الهدية رسالة، (وهي كذلك!) والغلاف هو حامل
الرسالة. من الذي يوجه ذهني، في لحظات معينة، إلى قراءة الرسالة/الهدية؟ الهدية أم
الغلاف؟ لا يمكن إلا في النادر أن تكون قيمة الغلاف أغلى من قيمة الهدية. ولكن حتى
ولو كانت الهدية أغلى من الغلاف؟ من يضمن وصول الرسالة/ الهدية إلى برّ الأمان.
اعرف حكاية شقيقين كان الخلاف بينهما ليس على الهدية وإنما على غلاف الهديّة. شقيق
مسافر، حين عاد إلى بلده حمل معه هدايا لإخوته. الكلّ تقبل هديته قبولا حسنا إلا
واحدا شعر بإهانة والسبب إن الهدية كانت في كيس وليس في مغلّف فرأى في غياب الغلاف
نوعاً من الاستخفاف به.
في أي حال سوق
أغلفة الهدايا أو ما يمكن أن يسمى بسوق التعليب أو التغليف رائج جدا ومرغوب جدّاً.
وهو أي الغلاف لا يمتّ إلى الرسالة/الهدية الداخلية بصلة مباشرة. ولكن الإنسان
يحبّ المظاهر ويعميه الظاهر أحيانا عن أعماق الأشياء، فيخاف من الحبل لأنّ له شكل
الحيّة أو ظاهرها.
وإذا كانت
الكلمة رسالة يمكن أن نعتبر إن الناطق بها هو الغلاف الذي يحمل هذه الكلمة ويحدد مصير
معناها.( البرامج الهزليّة تلعب أحيانا على هذا الأمر، طرفة فاترة من فم غنيّ أو
مدير تصير في أذن سامعها حارّة جدّاً) اختلاف الغلاف قد يؤدي إلى قراءة الأمر
قراءة مختلفة. وإليكم هذه الحكاية التي قرأتها عن رجل رأى أن جزءا من سقف بيت جاره
قد تداعى من غزارة المطر. فذهب إلى جاره ليلفت نظره إلى الضرر الذي لحق بسقف بيته
منبها إياه الى ضرورة الإسراع بإصلاحه حتى لا يستغله لص للدخول إلى بيته وسرقة
محتوياته.كان لصاحب البيت أيضا ولد انتبه إلى الضرر اللاحق بالسقف فقال لأبيه
القول نفسه. شاءت الصدف في ذلك الليل أن ينتبه لصّ إلى الثقب فتسلل منه وسرق
محتويات نفيسة من داخل البيت.
فرح الأب رغم
حصول السرقة من ولده الذي رآه نبيهاً فطناً، وكال له المديح. ولكن الأب في نفس
الوقت راح يتهم جاره المسكين الذي لا ناقة له ولا جمل بقصة السرقة، معتبرا إن
الكلام الصادر عن جاره لم يكن إلا للتضليل وإبعاد الشبهات عنه.
لم تختلف
النصيحة ولا في أي تفصيل إلا أنها لم تقرأ قراءة واحدة، تشعبت الرسالة الواحدة إلى
رسالتين: رسالة مدح وأخرى اتهاميّة.
وهذا يشير إلى
أنّ معنى الرسالة لا يكمن في تضاعيف الرسالة فقط، وإلا لكان انتفى احتمال انفصامها
إلى رسالتين، وتأويلها تأويلين مختلفين، رغم أنها في واقع الحال لا تحمل إلا
تأويلا واحدا. لأنّ ثمة أشياءَ أخرى لا صلة لها بالرسالة تحمل معنى الرسالة. بعض
حملة الرسائل لا ينتبهون إلى خطورة ما يحملون، لأنّه يغيب عن بالهم أنّ الوسائل
أيضاً رسائل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق