الورقة البيضاء
الطائفية ليست بنت اليوم، يكتوي المواطن اللبناني بنارها
منذ زمن بعيد، يكتوي بنارها معارضها ومؤيدها على السواء. والطائفية علّمت النفاق، ولكننا
نكاد اليوم ان نترحم على ايامها السوداء مقاربة بما هو اشدّ وأفدح من مذهبيّة
فتّاكة تكاد أن تطيح بما تبقى من هذا الوطن الرثّ. كنت أشهد فيلما وثائقيا عن ثورة
شمعون عام 58، فلفت سمعي عبارة عن بولس بطرس المعوشيّ البطريرك
الماروني
الرابع
والسبعين
منذ
عام
1955
وحتى
وفاته
عام
1975 قبل شهرين من بدء
الحرب المجنونة في لبنان. كان من معارضي التمديد لشمعون وله موقف عروبي واضح، ودرج
اللعب باسمه فصار لدى خصومه من الموارنة البطريرك محمد المعوشيّ. وأذكر ان مارون
عبود قرّر ان يعبّر عن روحه المنفتحة على الديانة الاسلامية، فسمّى ابنه محمّد،
وهكذا صار نجل مارون جامعاً بين الاسمين" محمّد مارون" وهو تركيب غريب في مجتمع طائفيّ حتّى العظم، ولكن
شاءت الأقدار الخبيثة ان تلعب بمصير ابنه، فكان " محمّد مارون عبود"،
على ما يقال، ذا طبيعة شديدة البساطة والسذاجة، فراح الناس يشمتون به، ويقولون:
هذا جزاء من يلعب بالأسماء والانتماء. فالأسماء تعاقب من يلعب بها!
ومن الذين وقفوا ضدّ الطائفية والتنديد بها الأديب
اللبنانيّ سعيد تقيّ الدين. ولقد دعي هذا الأديب ذات يوم الى القاء محاضرة في احدى
هذه الجامعات وكان موضوعها الطائفية. قبل البدء بمحاضرته وزّع على الحضور ورقة
بيضاء، وطلب اليهم ان يدوّن كلّ منهم أسماء اللحام والحلاق والبائع الذين يتعامل
معهم. وبعد جمع الأوراق، وضعها جانبا من غير قراءتها، وخاطب الجمهور قائلا: أنا
متأكّد من أنّ من يسكن في المنطقة الشرقية قد كتب اسماء جورج والياس وايلي، ومن
يسكن في المنطقة الغربية قد كتب اسماء علي وحسين ومحمد. هنا مكمن الطائفية، وبدأ
محاضرته في موضوع الطائفيّة التي لم تكتمل فصولها الحارقة بعد. والمذهبيّة الغبيّة
بنت الطائفية الضالّة!
قلّة ادب ادوار حنين
بدأ ادوار حنين حياته أديباً، وكان له انتاجات ادبية
متعددة، الا انّه في منتصف الطريق جذبته السياسة الى عالمها، وترشّح على النيابة وصار
نائبا في البرلمان اللبناني. كان الياس ابو شبكة على علاقة ادبية طيبة معه. انتبه
ابو شبكة الى ان السياسة اخذت حنين من عالم الادب، سرقت وقته وقلمه، فما كان من
الياس ابو شبكة الا ان قال لزميله مازحا ولاعباً على الكلام: حين دخلت السياسة
قلّلت الأدب، ويقصد ابو شبكة، طبعا، بقلّة الأدب ان الانتاج الادبيّ لادوار حنين
قد قلّ، لا أكثر ولا أقلّ، ولكن اللغة لا تخلو من بعض الخبث!
أسوار لغويّة
ما هي علاقة الاصوات بأسوار المدن؟
سؤال ما كان ليخطر بالبال لولا عبارة وردت على لسان
افلاطون حول اللغة والمدن، وحول اللسان وبناء أسوار المدن؟
السور في المدن القديمة حماية، والصوت حماية. ما هي
الاستغاثة؟ اليست صوتا يخرج من حنجرة
الناس؟ يقول افلاطون ان المدن كانت دائرية لأسباب صوتية، فالامواج الصوتية تشبه
دوائر الماء التي تولد من رمي حجر في البحر . نجد دوائر دوائر تعلو صفحة الماء.
الدائرة هي وجه الشبه الاول بين الصوت وجغرافية المدن ودوائر الأسوار التي تشبه
الاسوارة في المعصم (الاسوارة والسور من جذر واحد). يقول افلاطون ان شخصا من اهل
المدينة المنوي انشاؤها كان يصرخ بأعلى صوته وآخر من يسمعه عن بعد يكون مكانه
اساسا للسور الدائريّ وترسيم حدود المدينة. اليس في " الاستصراخ" الذي
هو طلب نجدة علاقة ظاهرة بالصوت؟
بيوت الناس عند العرب دائرية ( ومن هنا كلمة الدار) بخلاف
بيت الله التي تميّز بكونه مربعاً، ومن التربيع جاء اسم الكعبة.
حرف لاتينيّ
لا يمكن لأحد ان يستغني عن الحرف اللاتيني، اليوم، الا
اذا اراد ان يعيش أعزل، بعيداً عن متطلبات العصرالراهن. أيا كانت لغتك الأم، فإنه
لا يمكنها أن تدير ظهرها للحرف اللاتينيّ، ومهما كانت انتماؤك إلى لغتك شديداً
فإنّه محكوم عليك أن تتعامل مع الحرف الللاتينيّ رغما عن أنفك وحرفك الأمّ. يعيش
الحرف اللاتينيّ عزّا لم يسبق له أن عاشه من قبل. غيّر الأنترنت حياته. تجده حاضراً
ناضراً في عقر دار كلّ اللغات التي لا تعتمد الحرف اللاتيني، تجده في الدول المتحضرة
منها والدول النامية، يطلّ برأسه في اليابان وفي الصين وفي الهند وطبعاً في العالم
العربيّ. يكفي ان تنظر الى عنوان بريدك الالكتروني لتعرف ان الحرف اللاتيني هو
وسيلتك للتواصل عبر البريد. مفتاح صندوق بريدك الرقميّ خرف لاتينيّ، هذه واقعة لا
يمكن دحضها. الحرف اللاتينيّ والتقويم الميلاديّ شيئان لا يمكن الاستغناء عنهما
حتى في أكثر الدول انغلاقا او عنصرية. نعيش اليوم في زمن الحرف اللاتيني، كما نعيش
في زمن التقويم الميلاديّ، انظر الى اي مجلة عربية او جريدة عربية او كتاب عربي
تجد في مكان ما يقبع الحرف اللاتيني حتى ولو صدر الكتاب في الرياض أو مكة المكرّمة
او المدينة المنورة.
الاعتراف
بالواقع لا يعني ان الواقع راسخ رسوخ الجبال، ولن يتغيّر. فجبال الواقع الراسخة
ليست، عند التدبّر أكثر من كثبان، تاريخ الحروف كتاريخ اللغات دولاب لا يكفّ عن
الدوران.
مع...
دهشني حرف الجرّ " مع" في هذه الآية الكريمة :"
إنّ مع العسر يسرا". هذا العسر المعرّف يرافقه، يلازمه، يأتي معه
"يسر"، يسر غير معرّف، يسر لا يحتاج الى تعريف، يسر غريب، فاتن، غير
مرئيّ للعين العجول، وللشعور الخامد، قد لا يكون مألوفا، قد لا تتعرّف إليه، ولكنه
موجود مع تلافيف العسر. الإيمان بأن العسر لا يكون بمفرده وإنّما يأتي مشفوعاً
بيسر ما يبعث في النفس المتوترة اطمئنانا جميلا، لا يحسّ به الا من يعمر قلبه
الإيمان. والايمان بحضور" مع" يحتاج الى مكابدة ايمانية، وتدبّر لغويّ
وبلاغيّ ونفسيّ وروحيّ.
"مع"
ليست، في هذا الموضع، مجرّد "حرف جر" يرضى أن يكون معناه في غيره!
تكرير الآية مرتين متتاليتين يعمّق حضور هذه
الـ"مع" البهيّة، الألهيّة، في هذا المقام، فهي تقلّم مخالب الألم
الناهشة في الروح.
فسبحان
الله!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق