لكلّ لغة عدد
محدود من الأصوات اللغوية، وهو عدد افتراضيّ، وذلك لأن الصوت اللغويّ الواحد هو،
عمليّاً، عدّة أصوات. وسآخذ مثالا واحدا من العربية. فاللام العربية لامان: لام
مرققة ولام مفخّمة، كما نجد ذلك في لام اسم الجلالة " الله" التي تخضع
صوتيا لحركة الكسرة أو الفتحة التي تسبقها، وهو تفخيم لا يغيّر من دلالة الكلمة،
بخلاف الانتقال من التاء الى الطاء مثلا في العربية، فالتين غير الطين. ليس كل
انتقال من الترقيق الى التفخيم يغير المعنى. فالصوت ليس حرّا بالمطلق، الصوت اللغوي
لا يعيش بمنأى عن البيئة الصوتية التي تحيط به وهو ما يمكن تسميته بالسياق الصوتي.
انظر إلى الفاء التي تخرج من بين شفتيك وأنت تتلفظ بكلمة " فادي" أو
بكلمة " فاضي" تجد طرفاً من تفخيم في " فاضي" تحكّم بمجراه
الصوتي حرف الضاد.
عوامل متعددة
تتحكم بأصوات اللغة، منها الانتماء الى طبقة اجتماعية معيّنة، والطبقات الاجتماعية
تتحكم بأصوات اللغة كما تتحكم الموضة بأذواق الناس. وفي اللغة العربية الدارجة ،
اليوم، على الأفواه نلمس كيف أن الانسان يلعب بمخارج حروف الكلمات لأسباب غير
لغوية، أو قل بشكل أدقّ لأسباب لغوية غير عربية. فأنت تجد استعمال المرقق بدل
المفخم، والمفخم بدلا من المرقق في أفواه بعض النشء الجديد. ومن أمثلة ذلك كلمة
عربية كثيرة الدوران على الألسنة التقية وهي كلمة " آية" . والكلمة
الواحدة لا تعيش حياة واحدة. تشاء الأقدار
أو الظروف أن تشقّ كلمة ما لنفسها طريقا جديدة فتتبدّل معالمها الصوتية او
تبقى على ما هي عليه. كان من حظّ كلمة "آية " أن تصير اسم علم مؤنث ،
ولكن يختلف شكلها الصوتي اسميا عن شكلها الصوتي وهي في حالتها المعتادة، تسمع اذنك
تفخيماً لصوت الهمزة حين تكون اسم علم. ما سبب تغليب التفخيم على الترقيق في هذه
الحالة؟ أظن ان غلبة التفخيم على الترقيق هو ابن عقدة النقص اللغوية التي يعيشها
العربي الراهن ازاء لغته، وابن استخدام الحرف اللاتيني في كتابة الاسماء فاكتسب
الاسم رنة صيغته المكتوبة بالحرف اللاتيني، فاسم آية على سبيل المثال يكتب Aya حرف ألـ a في اسم آية
يقصف عمر الهمزة ويبدلها بحرف آخر. وما أقوله عن اسم آية يمكن أن يقال عن أسماء
أخرى : ندى، علا ...الخ. ومن الطريف في أي حال تتبع مسار اسم ما وتحولاته الصوتية
ليس في اللغة الواحدة، وانما في اللغات التي يستقر فيها. فنحن نعرف ان الأسماء
العربية هي بفضل الإسلام لم تعد أسماء عربية فقط بل صارت جزءا من معجم الأسماء في
البلدان الإسلامية، تجدها في تركيا واندونيسيا وباكستان وإيران وافغانستان وغيرها
من البلدان الإسلامية، ولكنها اكتسبت حلّة صوتية جديدة هي بنت النظام الصوتي التي
تعيش في كنفه.
ذكرت منذ قليل
عبارة عقدة نقص لغوية، والآن سأظهر ذلك عبر الكلام على اللغة العبرية، وكيف ان
العقدة الصوتية غيرت من النظام الصوتي للغة العبرية. وما سأقوله عن العبرية نجد
أمثلة شبيهة له في مسار النظام الصوتيّ العربيّ.
مثالي عن
العبرية هو حرف الخاء، حرف كثير الظهور في الكلمات العبرية، واللغة العبرية اليوم
هي لغة " خائية" بامتياز. الطريف في اللغة العبرية هو خلوّ أبجديتها من
حرف الخاء! فكيف تكون لغة خائية، وهي تخلو من حرف الخاء؟ وما دور اللغات الأوروبية في تعزيز حضور هذا
الحرف؟ الصراع الطبقيّ يتجلّى في صراع لغوي. الصراع اللغويّ قدر كلّ اللغات تقريباً،
ومن هذا الصراع تولد لغات وتباد لغات وتتغير لغات. ودراسة المعارك التي تخوضها اللغات دراسة شيقة
تشبه حضور أفلام الحركةّ!
تأسست إسرائيل
على يد يهود غرباء عن المنطقة. كان يهود المنطقة لهم نظام صوتيّ محافظ على نظام اللغة
العبرية، ولكن حين جاء يهود الغرب لوّثوا أصوات اليهود المشارقة. حاء اليهودي
الغربيّ الى فلسطين حاملا معه عاداته الصوتية المغايرة لعادات اليهود العرب. من
طبع المغلوب أن يقلّد الغالب، في المأكل والمشرب والملبس والكلام. فنحن مثلا اليوم
نأكل الهمبرغر، ونشرب البيبسي، ونلبس الجينز، ونرطن بالإنكليزية . وجاء وقت كنا
نأكل فيه الشيشبرك ونرطن بالتركية ونعتمر الطربوش مثلا. ومن الطريف العودة إلى
الجرائد والمجلات المصرية لقراءة المعركة المحتمدة التي دارت بيت الطربوش والقبعة
في مصر! للإنسان قدرة مذهلة على إدخال كل الأشياء في معاركه الشخصية. فالإنسان
كائن رمزيّ، يعشق الرموز، وتحويل الأشياء إلى رموز يمنحها هالة قدسية، وهذه الخصلة
الإنسانية الترميزية ترافقه منذ أزمنة سحيقة، من زمن ربط الاسم بمقدّرات المسمّى .
ولا تزال هناك بعض العبارات التي تفصح عن الربط بين الاسم والمسمى ، منها: "
ابن الحلال من ذكرو ببان"، أو " اذكر الديب وهيئ القضيب". ذكر الشيء
استحضار له، ليس استحضارا ذهنيا وحسب بل استحضار فعليّ.
وللرموز أشكال
صوتية أيضاً، ومن هذه الأشكال الصوتية حرف الخاء في اللغة العبرية. في اللغة
العبرية يتغير صوت الحرف بتغير مكانته أحيانا. فالخاء العبرية ليست خاء انّما هي حرف
الكاف. ولعلّ من الكلمات التي تفصح عن ذلك هي كلمة " حاخام" التي لا
يختلف جذرها في شيء من حيث الدلالة عن الجذر العربي " حكم"، ومن هنا
ترجمة كتاب "بروتوكولات حاخامات صهيون" الى " بروتوكولات حكماء
صهيون". موقع حرف الكاف في المقطع يغير طبيعته الصوتية، فالكاف العبرية تبقى
كافا في أوّل المقطع مثلا، ولكنها في صلب الكلمة أو في آخر الكلمة تتحوّل صوتيا إلى
خاء، كما في كلمة " هوليخ" التي حين تتأمل حروفها المكتوبة تجد أن حرفها
الأخير هو الكاف العربية الموجودة في كلمة " هلك"، فالخاء هنا هي خاء
ليس لها شكل كتابي مخصوص بها. كانت هذه الخاء خاء عبرية ، ولكن ما تلحظه اذن
السامع للعبرية هو كثرة الخاءات، فهل يعنى هذا كثرة الكافات في المفردات العبرية
أم وراء حرف الخاء أمور أخرى؟
معروف ان
المشروع الصهيوني هو مشروع ولد في أذهان
يهود غربيين، يهود غير عرب، يهود لهم عادات صوتية غريبة عن عادات اليهود العرب،
وحين جاء يهود الغرب إلى فلسطين اصطدموا بأصوات لم تعتدها ألسنتهم، فصارت الحاء
تلفظ خاء، وصارت الراء تلفظ خاء أيضا. الراء حرف مربك، ونعرف أنّ عددا من العرب
يلثغ بهذا الحرف فيقرب من الغين، وبين الغين والخاء صلة نسب صوتية على ما يبدو!
كما ان حرف الراء حرف لا حضور له في النظام الصوتي الصيني والياباني والكوري مثلا،
واللام هي التي تقوم مقامه في هذه اللغات!
وهكذا راح
اليهود السفارديم أي اليهود المشارقة شيئا فشيئا يستغنون عن طريقتهم في لفظ الراء
والحاء ويقلدون اليهود الأشكناز في التلفظ
بهذه الحروف ، إذ لم ينظروا الى هذه المسألة على اساس انها تشويه لأصواتهم بقدر ما
اعتبروها مخارج صوتية تخرجهم من طبقتهم
الدنيا وتدخلهم في طبقة الاشكناز الغالبين. وكثيراً ما يبدو للعين القصيرة النظر أنّ
الخطأ هو عين الصواب!
بلال عبد
الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق