ما يميزّ الإنسان عن الحيوان هو البيان،
ولكن هذا الأخير لا يزال إلى اليوم مغلفّاً بالأسرار. وعلم اللغة النفسيّ والعصبيّ
يتقدّم بخطى وئيدة في منطقة الدماغ الفاتن لقراءة آليات اللغة المذهلة حقّاً والتي
لا ننتبه إلى مفاتنها لأننا نتعامل معها تعاملاً عفوياً، فطرياً إلى حدّ بعيد - وان
لم تكن كذلك - لأنّ البيان مكتسب، ولا نلتفت إلى بعض المشاكل اللغوية التي نقع في
أحابيلها إلاّ حين تعلق كلمة متمرّدة على طرف اللسان وترفض الاستسلام لرغباتنا في
التعبير.
نظريات وفرْضيات لغوية كثيرة تحاول إماطة اللثام
عن دور الكلام في تشكيل أفكار الناس، منها ما يعرف بـ "فرْضيّة وورف وسابير"
وهما من كبار رجالات علم اللغة في الولايات المتحدة. ومفاد فرضيتهما أن الإنسان أسير
لغته، ولكنه أسير لا يعي أنه مأسور، فالأغلال اللغوية الشفّافة أشبه بنظارات تريه الأشياء
وفق لون زجاجها أي أن وجهة نظر كلّ مجتمع هي وجهة نظر يمليها عليه نظام لغته، فيقول
ما تقوله له لغته، وكلّ لغة هي وجهة نظر، ولا يمكن للغتين أن تريا العالم من منظور
واحد، أو ترياه بلون واحد، وبما أنّ مروحة اللغات في العالم أكثر من خمسة آلاف لغة
فهذا يعني أن هناك إمكانية لرؤية العالم والأحداث من خلال ما لا يقلّ عن خمسة آلاف
وجهة نظر، وهذا يعني، أيضاً، نسبيّة المفاهيم التي يعيش الإنسان في أجوائها. لغة الإنسان
هي التي تحدّد إدراكه للواقع وتعامله معه لأنّه يسكن في عالم ملوّن بألوان لغته ولعلّ
عبارة الفيلسوف الألماني هايدغر " أنّ اللغة بيت الإنسان " تنحو هذا
المنحى ولا تغاير وجهة نظر "وورف" أو "سابير". إذا نظرنا، على
سبيل المثال، إلى مفهوم الصداقة في العربية وفي الفرنسية فإننا نلحظ من خلال ما
تقوله لنا اللغة أنّ نظرة العربيّ للصداقة مختلفة في المنطلقات عن نظرة الفرنسي
لها، منبع الصداقة في العربية هو "الصدق" وليس "الحبّ" الذي
انبثقت منه كلمة "Amitié". يمكن للمرء أن يفتش عن مفاهيم أخرى تظهر هذا الاختلاف منها تقسيم
الألوان وتسمياتها مثلاً في اللغات المتعددة. كلّ لغة تعكس طريقة بناء المجتمعات
وهي طريقة مغايرة من لغة إلى أخرى. إن وجود كلمة واحدة في الفرنسية "Oncle"
للتعبير عن شقيق الأم وشقيق الأب تعني أنّ نظرة الإنسان الفرنسي إلى
الروابط العائلية مختلفة عن نظرة الإنسان العربي الذي لا ينظر إلى العمّ نظرته إلى
الخال ( بسبب وجود مفردتين) مع ما يعنيه ذلك من تقسيم للمجتمع العربيّ بشكلّ يغاير
التقسيم الفرنسيّ. ومعجم القرابة في اللغة الصينية غنيّ جدّاً في هذا المجال غنىً
لا تعرفه العربية أو الفرنسية أو الإنكليزية فالصينيّة لا تستعمل مفردة واحدة للأخ
دون تعيين وإنما هناك كلمتان فالأخ الأكبر (gege)
ليس له المفردة نفسها التي أشير بها إلى الأخ الأصغر(didi) لأنّ الرابط الأسري المقدّس في الصين الذي يصل إلى مرتبة "عبادة
الأسلاف" يقوم على تصنيف العلاقات الأسرية تصنيفاً شديد الدقّة وهذا يفصح عن
النظرة الكونفوشيوسيّة للروابط العائلية.
ما نراه من تعددية في التسميات مع ما
يولّده ذلك من تعددية في المفاهيم هو من صلب " فرضية وورف وسابير".
ويستشهد وورف الذي لم يدخل إلى عالم اللغة من باب واحد هو باب اللغة وإنما من
بابين: اللغة والكيمياء - وللغة، في أيّ حال، صلة رحم مع الكيمياء يعرفها العاملون في ميدان اللغة والكتابة- بكلمة
"فارغ" لتفسير فرضيته. حصل وورف بداية على شهادة في الهندسة الكيميائية
ومارس مهنته من خلال عمله في شركة تأمين في " هارفورد" بولاية "كونكتيكت"
في أميركا، كان يهتم في شركة التأمين بتحليل التقارير حول كيفية اندلاع الحرائق.
كان افتراضه، في بداية الأمر، إنّ العوامل الفيزيائية فقط كانت المسؤولة عن الحرائق
ولكن تبيّن له فيما بعد أنّ اللغة كانت تلعب دوراً ماكراً في اندلاع الحرائق. لاحظ
" وورف " أنّ الناس يتوخّون الحذر بالقرب مما يعرفون انه براميل مليئة
بالبنزين ويتصرّفون بلامبالاة حارقة بالقرب من براميل البنزين "الفارغة"
بالرغم من أن البراميل "الفارغة" ليست " فارغة " عمليّاً وإنما
هي مشبعة ببخار البنزين القابل للانفجار مما يجعلها أشد خطراً من البراميل المليئة.
ولكن اللغة حين وسمت البراميل "الفارغة" من البنزين بهذه التسمية أوقعت
المستعملين في اللامبالاة التي أحرقت بلهيبها أناساً كثيرين.
طبعاً ثمة، دائماً، وسائل للهروب من سجن
اللغة ولعلّ أبرزها هو اكتساب لغة ثانية وثالثة لفكّ الأسر اللغويّ. ولكن هل يتحرّر
الإنسان فعلاً من الأسر حين يكتسب لغة جديدة أم انه يصير يتحرك في سجنين بدلاً من
أن يكون أسير سجن واحد؟ في سجنين يزيد المرء، في الأقلّ، من حجم الرقعة الجغرافية
التي يتحرّك فيها لسانه وفكره، ويكتسب فضلاً عن ذلك شيئاً على درجة كبيرة من النفع
وهو إدراكه لمفهوم النسبية الذي يرافقه طوال فترة إقامته في سجن اللغة.
بلال
عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق