كتبهابلال عبد الهادي ، في 25 كانون الثاني 2012 الساعة: 07:45 ص
اللغة مثلما هي أداة تواصل/تفاعل خطابي بين
أفراد المجتمع، هي أيضاً وعلى المستوى نفسه من حيث النشأة والتطور أداة تعبير رمزي
عن الموارد المعرفية للمجتمع، أي عن الرؤى والصور والمفاهيم؛ وكذا أداة تقسيم
وتصنيف ومن ثم تصور أو فهم العالم. وتشكل اللغة بذلك أساساً لرؤية اجتماعية حاكمة،
وضماناً لتوفر رابط جدلي بين
اللغة/الكلمة وبين
الفعل/الواقع.
وطبيعي أن اللغة حسب هذا الفهم متطورة بطبيعتها بتطور الفعل المجتمعي، وتركد أو تجمد بركود هذا الفعل. وتمثل، والحال كذلك، تجسيداً لفعل التطور والتجديد في مسيرة المجتمع التاريخية، وشهادة على ذلك. وهكذا تكون الصور والمفاهيم السائدة إما متطورة أو جامدة، ويعبر جمودها عن جمود الزمان، حيث الزمان هو فعل التغيير أو التاريخ؛ ويعبر تطورها عن الحيوية الدينامية المتجددة للوجود الاجتماعي، ومن ثم حين نقول اللغة قاصرة فإن هذا يعني تحديداً قصور الفعل المجتمعي النشط. ونحن نعيش أسرى لغة تقليدية لها السيادة بتصوراتها ومفاهيمها الذهنية الموروثة منذ زمان، واختلفت كثيراً عما أفرزته إنجازات العلوم والتكنولوجيا من مفاهيم وتصورات مغايرة ومتطورة. ويكفي أن نتأمل كلمات أو الصور الذهنية لكلمات مثل: السماء، النجم، الزمان، روح العصر… وغيرها، ومقارنة معانيها التقليدية بالمعاني الحديثة المضافة إليها. ونحن بحكم الإرث اللغوي، وبحكم جمود الفعل المجتمعي، نتعامل ونتفاعل بلغة على الرغم مما تكشف عنه من مفارقة بين الماضي والحاضر، ناهيك على المستقبل. مثال ذلك مصطلحاً العقل والمخ.. ما هما؟ ما هي الصورة الذهنية لكل منهما والعلاقة بينهما وانعكاس هذا الفهم على السلوك؟ وواضح أن تعريفات الموسوعات والمعاجم باتت قاصرة أو بالية أو لنقل تاريخية. وكشفت إنجازات العلوم والتكنولوجيا خلال العقود الأربع الأخيرة عن تفاوت خطير بين المدلول والمفاد للمصطلحين في الموسوعات والمعاجم وبين ما يجاهد العلم لصياغته من محتوى ذهني وعملي لكل من المصطلحين.. لم يعد المخ هو تلك الكتلة البيولوجية، وإنما الفارق بين المفهوم العلمي والقاموسي فارق ممتد بعمق الزمان التطوري الحي في التاريخ، ونحن نظل فقط على مشارف هذا العمق السحيق. ويبذل العلماء جهداً دؤوباً من أجل كشف ما اعتدنا أن نسميه تاريخياً (اللغز)، وكفى بمعنى العقل، أو أن نفسره بالرجوع إلى قوى خارقة خارج الظاهرة. وليس العقل وجوداً مستقلاً مكتفياً بذاته كامناً في ناحية من نواحي الوجود لا نعرفها وله فعالية لا نعرف حقيقتها ولا مصدرها؛ ولا هو قسمة أو خاصية سواء بين البشر، أو وجود مكتمل خارج الزمان مرة وإلى الأبد. وإنما العقل، حسبما هو مفهوم الآن، تاريخ نشوئي تطوري، وليس إضافة إلى المخ؛ ولا هو المخ ذاته كما نفهمه تقليدياً، ولا هو المجتمع وإن تجسد في الذات الفرد وفي المجتمع ثقافة وفكراً متفاعلين في شبكة الاتصال المجتمعي تاريخياً. فقط تضاعف اللغز عمقاً، وتشعبت زواياه مما ضاعف من طموح العلماء لكشف الحجاب عنه. وتجدر الإشارة هنا، على سبيل المثال، إلى كتاب صدر عام 2007 يجتهد مؤلفه في محاولة منه لمعالجة هذا اللغز. الكتاب من تأليف عالم متخصص في علم النفس العصبي واسمه كريس فريت بعنوان (تكوين العقل: كيف يخلق المخ عالمنا الذهني)، والصادر عن دار نشر بلاك ويل. الكتاب تجسيد لجهد علمي يحاول إماطة اللثام عن كل من العقل والمخ وعلاقة التكامل أو التضايف بين الاثنين. ولكنه، وإن جاء العنوان في صيغة إجابة، إلا أنه يثير أسئلة أكثر مما يقدم إجابات. وهذا هو شأن العلم في تطوره المطرد، إذ حين يجيب يفتح أمام الإنسان آفاقاً جديدة للبحث، ويطرح أسئلة كثيرة يرصد لها العلماء الجهد. إنه يفجِّر لدى قارئه حالة من القلق الوجودي العميق، ويحفزه على السؤال والشك والتماس جواب. وما أحوجنا إلى الشك المنهجي وإلى ثقافة فعل التغيير والتجديد، وما أحوجنا كذلك إلى طرح أسئلة تمس الصميم في فكرنا وواقع فهمنا لأنفسنا.. في إطار الجدل النشط بين الفكر والفعل على صعيد اجتماعي. أين الحقيقة وأين الوهم في محتوى المخ/العقل، وعلاقة التفاعل والاتصال بيننا وبين الوجود من حولنا؟ وما هي حدود الأنا أو النحن في الوجود والزمان والعقل والفكر، أي إجمالاً حدود العقل الآن وحدود الآخر في الزمان؟ وأين في هذا كله معالم الفعالية ومعالم الاستقلال أو معالم الهوية. إن ما أسميه (أنا) سواء الجسم أم الشعور أم الفكر.. إلخ، صلته بالوجود إنما تأتي حصراً عبر المخ أو لنقل عبر الأداء الوظيفي للمخ، وهو ما ينفي التميز أو التمايز والفصل، وكأن (الأنا) بعض نسيج الوجود وظيفياً ومادياً وإن تنوعت تجلياتها وصورها ومحتواها حسبما تصورنا إلى حين، إذ الامتداد كله هنا وهناك نسيج واحد. ترى هل يدفعنا هذا إلى تصحيح معنى ودور الموروث عن صورة الإنسان كفعالية مستقلة ووجود متمايز خاص بذاته وغريب عن هذا الوجود المعيش؟ اعتاد البعض النظر إلى أنفسهم على أنهم من غير أرومة أو جنس الوجود/الطبيعة أو ما يسمى الوجود المسكوني/الأرضي. واقترن هذا بالظن أن الوجود من حولهم نشأ لخدمتهم، ولهم حق الامتياز إلى حين يرحلون عائدين، وكان لهذا الفهم أو التصور تجلياته في الواقع الاجتماعي والذاتي تجسدت في أخطاء أو في تعثر الوصول إلى فهم صحيح عن ماهية ودور ورسالة الإنسان تجاه نفسه وتجاه الآخرين من بشر وغير بشر، وتجاه الوجود. إذ ساد الظن أو الاعتقاد بأن الواجب الإنساني واجب لصالح الإنسان – هذا الكيان الفرد الذي أتى عابراً. فهل يتحول الواجب إلى واجب وجودي تجاه الوجود كله بفهم جديد لمعنى الوجود الذي يحتويني وأنا بعض منه؟ وأن يتحول الواجب والقيمة الأخلاقية العليا إلى إيمان ذي محتوى جديد لا يباعد بيني كامتداد وبين الوجود بكل تنوعاته الظاهرة، ومن ثم يتجلى إبداعي في صنع حياة لخير البشرية تعبيراً جديداً عن رؤية واقعية علمية. ويمثل الكتاب سالف الذكر أساساً بالغ الأهمية لنقد مفهوم العقل الموروث، ومن ثم فهم التراث في سياق علمي جديد. ويتجلى هذا واضحاً حين نجد أنفسنا نكرر دون وعي علمي نقدي كلمات تصف العقل القومي والهوية القومية وكأنها مطلقات بدأت كاملة متجاوزة حدود وضرورات الزمان والمكان. العقل هنا إشارة إلى وظائف معينة لقشرة المخ في تفاعل اجتماعي–بيئي. إنه نابع من العلاقات الاجتماعية أو شبكة الاتصال للمجتمع. وطبيعي أنه عقل متطور بتطور الفعل والتفاعل بين الإنسان/المجتمع والوجود من حوله. ويتطور المخ أيضاً كنتاج لهذا كله، وإن جاء على مدى زمان طويل. إنه تطور مشترك على مدى ما يمكن أن نسميه الامتداد التاريخي التطوري للزمان البيولوجي أو الحي بمعنى الحياة التي يفهمها الإنسان. ولنا أن نصف المخ والعقل بلغة العصر، بأن المخ أشبه بعتاد الحاسوب (الكومبيوتر) خزانة المعلومات hardware، بينما العقل هو البرنامج software الذي يقوم بمعالجة المعلومات والبيانات وتحديد الاستجابة في إطار المخزون المتاح. ولكن الوجود متجدد متغير أبداً، والتفاعل معه في تغير مستمر، والناتج المعرفي متجدد أيضا. وطبيعي أن يتوقف البرنامج عند التصدي لمعالجة جديد ليس له مقابل في المخزون (التراث). وهنا يفيد الوعي والعقل الإنساني في بذل المحاولة –الاجتهاد– لتغذية معرفية جديدة، وتحقيق تراكم معرفي في خزانة منهج المعالجة. وهكذا في تضافر مشترك بين المخ/العقل (الوعي) والفعل الإنتاجي الاجتماعي. وطبيعي أيضاً أن تتباين عناصر التفاعل باختلاف الزمان والمكان. ومن هنا يتأكد مبدآن: الأول، الاستمرار والتغير كعاملين أساسيين لصناعة تاريخ المجتمع، وليس الاستمرار أو البقاء الساكن في ركود. والثاني هو ضرورة التفاعل بين الإنجازات المعرفية المتنوعة بحكم تنوع المكان. وهنا نقول إن التفاعل عمل إبداعي لأنه فعل الطرفين معاً وليس طرفاً واحداً. كذلك فإن ذاكرة الماضي (التراث) إذ نستعيده لنستعين به في فهم ومعالجة الحاضر الجديد إنما نؤسس قاعدة للاستعادة الإبداعية. إنها ليست تكراراً بل إبداعاً جديداً تأكيداً لمبدأ التراكم المعرفي كذاكرة جمعية على نطاق الإنسانية، أو لنقل عقلاً جمعياً. وتأكيداً أيضاً لمبدأ التجدد والإضافة المتمايزة مع دورات عجلة الزمان. ويحفزنا هذا بعد ذلك إلى التساؤل عن معنى العقلانية التي كثيراً ما يرددها البعض وكأنها إحدى المطلقات. نراهم يؤكدون إيمانهم بالنسبية في العلم ولكنهم يسوقون مصطلحات مثل العقلانية في صياغة مطلقة. ترى هل هي العقلانية الثقافية أي المحكومة مجتمعياً بإطار ثقافي ما، ومن ثم مرهونة بمكان وزمان؟ هل العقلانية مقولة شاملة باختلاف، أو خارج الزمان والمكان؟ وهل العقلانية العلمية مطلقة أيضاً أم هي نتاج مرحلة ظهرت في زمن باعتبارها منهجاً جديداً للمعالجة، وليست مطلقة لكل زمان، وإنما مثلما ظهرت في صورة ميلاد جديد وحققت إنجازات علمية فإنه قد يتطور المنهج العلمي مستقبلاً ويتطور معه مفهوم العقلانية؟ وحري بنا أن نمايز بين العقلانية الثقافية التي لها مقولاتها الفكرية المميزة على الرغم من أن العقلانية العلمية تدعو مرحلياً إلى إزاحتها بعد أن تجاوزها الواقع العلمي السائد الآن. ويبين هنا واضحاً حالة التوتر بين العقلانيتين، لذا يتعين تحديد منهج عقلاني، أي علمي، للتحكم في هذا التوتر وصولاً إلى حالة من الوفاق والتطابق في اتساق مع الواقع العلمي المتجدد. ويتجلى هذا واضحاً بشكل خاص حين نعرف أن الثقافة غير العلمية لها رسوخها الذهني كإطار فكري ودائماً تتطور متخلفة زمناً عن التطور العلمي والتكنولوجي وإطارهما المفاهيمي. ومع هذا، تمثل العقلانيات الثقافية في المجتمعات والأزمنة المختلفة أساساً لفهم وتفسير أفعال ومعتقدات أفراد أو جماعات داخل مجتمعات نصفها بالتقليدية أو المتخلفة أو البدائية. وتقضي العقلانية العلمية بضرورة فهم مقولات الفكر الخاصة لكل مجتمع، ولهذا تمثل ضرورة للبحث السوسيولوجي. وأجد في ضوء ما سبق أننا بحاجة ملحة إلى مراجعة خزانة معلوماتنا (المخ العربي) وثقافتنا (العقل العربي) في تطورهما التاريخي. وكذا مراجعة ما في هذه الثقافات من جذور ممتدة مشتركة وما بينها من عوائق تحول دون سيادة العقلانية العلمية أو العقل العلمي. أي معالجة التوتر وصولاً إلى تطابق أو مواكبة للذروة المرحلية من تطور الفكر الإنساني وما يبشر به من مستقبل شبكي عالمي يمثل تحدياً صارخاً لكل مظاهر الجمود. هذا بدلاً من الاستسلام لتهويمات عن ثوابت تقطع الطريق دوننا والفعل الثقافي لإنتاج الوجود والمشاركة الفاعلة على صعيد عالمي. |
اللغة مثلما هي أداة تواصل/تفاعل خطابي بين
أفراد المجتمع، هي أيضاً وعلى المستوى نفسه من حيث النشأة والتطور أداة تعبير رمزي
عن الموارد المعرفية للمجتمع، أي عن الرؤى والصور والمفاهيم؛ وكذا أداة تقسيم
وتصنيف ومن ثم تصور أو فهم العالم. وتشكل اللغة بذلك أساساً لرؤية اجتماعية حاكمة،
وضماناً لتوفر رابط جدلي بين
اللغة/الكلمة وبين
الفعل/الواقع.
وطبيعي أن اللغة حسب هذا الفهم متطورة بطبيعتها بتطور الفعل المجتمعي، وتركد أو تجمد بركود هذا الفعل. وتمثل، والحال كذلك، تجسيداً لفعل التطور والتجديد في مسيرة المجتمع التاريخية، وشهادة على ذلك. وهكذا تكون الصور والمفاهيم السائدة إما متطورة أو جامدة، ويعبر جمودها عن جمود الزمان، حيث الزمان هو فعل التغيير أو التاريخ؛ ويعبر تطورها عن الحيوية الدينامية المتجددة للوجود الاجتماعي، ومن ثم حين نقول اللغة قاصرة فإن هذا يعني تحديداً قصور الفعل المجتمعي النشط. ونحن نعيش أسرى لغة تقليدية لها السيادة بتصوراتها ومفاهيمها الذهنية الموروثة منذ زمان، واختلفت كثيراً عما أفرزته إنجازات العلوم والتكنولوجيا من مفاهيم وتصورات مغايرة ومتطورة. ويكفي أن نتأمل كلمات أو الصور الذهنية لكلمات مثل: السماء، النجم، الزمان، روح العصر… وغيرها، ومقارنة معانيها التقليدية بالمعاني الحديثة المضافة إليها. ونحن بحكم الإرث اللغوي، وبحكم جمود الفعل المجتمعي، نتعامل ونتفاعل بلغة على الرغم مما تكشف عنه من مفارقة بين الماضي والحاضر، ناهيك على المستقبل. مثال ذلك مصطلحاً العقل والمخ.. ما هما؟ ما هي الصورة الذهنية لكل منهما والعلاقة بينهما وانعكاس هذا الفهم على السلوك؟ وواضح أن تعريفات الموسوعات والمعاجم باتت قاصرة أو بالية أو لنقل تاريخية. وكشفت إنجازات العلوم والتكنولوجيا خلال العقود الأربع الأخيرة عن تفاوت خطير بين المدلول والمفاد للمصطلحين في الموسوعات والمعاجم وبين ما يجاهد العلم لصياغته من محتوى ذهني وعملي لكل من المصطلحين.. لم يعد المخ هو تلك الكتلة البيولوجية، وإنما الفارق بين المفهوم العلمي والقاموسي فارق ممتد بعمق الزمان التطوري الحي في التاريخ، ونحن نظل فقط على مشارف هذا العمق السحيق. ويبذل العلماء جهداً دؤوباً من أجل كشف ما اعتدنا أن نسميه تاريخياً (اللغز)، وكفى بمعنى العقل، أو أن نفسره بالرجوع إلى قوى خارقة خارج الظاهرة. وليس العقل وجوداً مستقلاً مكتفياً بذاته كامناً في ناحية من نواحي الوجود لا نعرفها وله فعالية لا نعرف حقيقتها ولا مصدرها؛ ولا هو قسمة أو خاصية سواء بين البشر، أو وجود مكتمل خارج الزمان مرة وإلى الأبد. وإنما العقل، حسبما هو مفهوم الآن، تاريخ نشوئي تطوري، وليس إضافة إلى المخ؛ ولا هو المخ ذاته كما نفهمه تقليدياً، ولا هو المجتمع وإن تجسد في الذات الفرد وفي المجتمع ثقافة وفكراً متفاعلين في شبكة الاتصال المجتمعي تاريخياً. فقط تضاعف اللغز عمقاً، وتشعبت زواياه مما ضاعف من طموح العلماء لكشف الحجاب عنه. وتجدر الإشارة هنا، على سبيل المثال، إلى كتاب صدر عام 2007 يجتهد مؤلفه في محاولة منه لمعالجة هذا اللغز. الكتاب من تأليف عالم متخصص في علم النفس العصبي واسمه كريس فريت بعنوان (تكوين العقل: كيف يخلق المخ عالمنا الذهني)، والصادر عن دار نشر بلاك ويل. الكتاب تجسيد لجهد علمي يحاول إماطة اللثام عن كل من العقل والمخ وعلاقة التكامل أو التضايف بين الاثنين. ولكنه، وإن جاء العنوان في صيغة إجابة، إلا أنه يثير أسئلة أكثر مما يقدم إجابات. وهذا هو شأن العلم في تطوره المطرد، إذ حين يجيب يفتح أمام الإنسان آفاقاً جديدة للبحث، ويطرح أسئلة كثيرة يرصد لها العلماء الجهد. إنه يفجِّر لدى قارئه حالة من القلق الوجودي العميق، ويحفزه على السؤال والشك والتماس جواب. وما أحوجنا إلى الشك المنهجي وإلى ثقافة فعل التغيير والتجديد، وما أحوجنا كذلك إلى طرح أسئلة تمس الصميم في فكرنا وواقع فهمنا لأنفسنا.. في إطار الجدل النشط بين الفكر والفعل على صعيد اجتماعي. أين الحقيقة وأين الوهم في محتوى المخ/العقل، وعلاقة التفاعل والاتصال بيننا وبين الوجود من حولنا؟ وما هي حدود الأنا أو النحن في الوجود والزمان والعقل والفكر، أي إجمالاً حدود العقل الآن وحدود الآخر في الزمان؟ وأين في هذا كله معالم الفعالية ومعالم الاستقلال أو معالم الهوية. إن ما أسميه (أنا) سواء الجسم أم الشعور أم الفكر.. إلخ، صلته بالوجود إنما تأتي حصراً عبر المخ أو لنقل عبر الأداء الوظيفي للمخ، وهو ما ينفي التميز أو التمايز والفصل، وكأن (الأنا) بعض نسيج الوجود وظيفياً ومادياً وإن تنوعت تجلياتها وصورها ومحتواها حسبما تصورنا إلى حين، إذ الامتداد كله هنا وهناك نسيج واحد. ترى هل يدفعنا هذا إلى تصحيح معنى ودور الموروث عن صورة الإنسان كفعالية مستقلة ووجود متمايز خاص بذاته وغريب عن هذا الوجود المعيش؟ اعتاد البعض النظر إلى أنفسهم على أنهم من غير أرومة أو جنس الوجود/الطبيعة أو ما يسمى الوجود المسكوني/الأرضي. واقترن هذا بالظن أن الوجود من حولهم نشأ لخدمتهم، ولهم حق الامتياز إلى حين يرحلون عائدين، وكان لهذا الفهم أو التصور تجلياته في الواقع الاجتماعي والذاتي تجسدت في أخطاء أو في تعثر الوصول إلى فهم صحيح عن ماهية ودور ورسالة الإنسان تجاه نفسه وتجاه الآخرين من بشر وغير بشر، وتجاه الوجود. إذ ساد الظن أو الاعتقاد بأن الواجب الإنساني واجب لصالح الإنسان – هذا الكيان الفرد الذي أتى عابراً. فهل يتحول الواجب إلى واجب وجودي تجاه الوجود كله بفهم جديد لمعنى الوجود الذي يحتويني وأنا بعض منه؟ وأن يتحول الواجب والقيمة الأخلاقية العليا إلى إيمان ذي محتوى جديد لا يباعد بيني كامتداد وبين الوجود بكل تنوعاته الظاهرة، ومن ثم يتجلى إبداعي في صنع حياة لخير البشرية تعبيراً جديداً عن رؤية واقعية علمية. ويمثل الكتاب سالف الذكر أساساً بالغ الأهمية لنقد مفهوم العقل الموروث، ومن ثم فهم التراث في سياق علمي جديد. ويتجلى هذا واضحاً حين نجد أنفسنا نكرر دون وعي علمي نقدي كلمات تصف العقل القومي والهوية القومية وكأنها مطلقات بدأت كاملة متجاوزة حدود وضرورات الزمان والمكان. العقل هنا إشارة إلى وظائف معينة لقشرة المخ في تفاعل اجتماعي–بيئي. إنه نابع من العلاقات الاجتماعية أو شبكة الاتصال للمجتمع. وطبيعي أنه عقل متطور بتطور الفعل والتفاعل بين الإنسان/المجتمع والوجود من حوله. ويتطور المخ أيضاً كنتاج لهذا كله، وإن جاء على مدى زمان طويل. إنه تطور مشترك على مدى ما يمكن أن نسميه الامتداد التاريخي التطوري للزمان البيولوجي أو الحي بمعنى الحياة التي يفهمها الإنسان. ولنا أن نصف المخ والعقل بلغة العصر، بأن المخ أشبه بعتاد الحاسوب (الكومبيوتر) خزانة المعلومات hardware، بينما العقل هو البرنامج software الذي يقوم بمعالجة المعلومات والبيانات وتحديد الاستجابة في إطار المخزون المتاح. ولكن الوجود متجدد متغير أبداً، والتفاعل معه في تغير مستمر، والناتج المعرفي متجدد أيضا. وطبيعي أن يتوقف البرنامج عند التصدي لمعالجة جديد ليس له مقابل في المخزون (التراث). وهنا يفيد الوعي والعقل الإنساني في بذل المحاولة –الاجتهاد– لتغذية معرفية جديدة، وتحقيق تراكم معرفي في خزانة منهج المعالجة. وهكذا في تضافر مشترك بين المخ/العقل (الوعي) والفعل الإنتاجي الاجتماعي. وطبيعي أيضاً أن تتباين عناصر التفاعل باختلاف الزمان والمكان. ومن هنا يتأكد مبدآن: الأول، الاستمرار والتغير كعاملين أساسيين لصناعة تاريخ المجتمع، وليس الاستمرار أو البقاء الساكن في ركود. والثاني هو ضرورة التفاعل بين الإنجازات المعرفية المتنوعة بحكم تنوع المكان. وهنا نقول إن التفاعل عمل إبداعي لأنه فعل الطرفين معاً وليس طرفاً واحداً. كذلك فإن ذاكرة الماضي (التراث) إذ نستعيده لنستعين به في فهم ومعالجة الحاضر الجديد إنما نؤسس قاعدة للاستعادة الإبداعية. إنها ليست تكراراً بل إبداعاً جديداً تأكيداً لمبدأ التراكم المعرفي كذاكرة جمعية على نطاق الإنسانية، أو لنقل عقلاً جمعياً. وتأكيداً أيضاً لمبدأ التجدد والإضافة المتمايزة مع دورات عجلة الزمان. ويحفزنا هذا بعد ذلك إلى التساؤل عن معنى العقلانية التي كثيراً ما يرددها البعض وكأنها إحدى المطلقات. نراهم يؤكدون إيمانهم بالنسبية في العلم ولكنهم يسوقون مصطلحات مثل العقلانية في صياغة مطلقة. ترى هل هي العقلانية الثقافية أي المحكومة مجتمعياً بإطار ثقافي ما، ومن ثم مرهونة بمكان وزمان؟ هل العقلانية مقولة شاملة باختلاف، أو خارج الزمان والمكان؟ وهل العقلانية العلمية مطلقة أيضاً أم هي نتاج مرحلة ظهرت في زمن باعتبارها منهجاً جديداً للمعالجة، وليست مطلقة لكل زمان، وإنما مثلما ظهرت في صورة ميلاد جديد وحققت إنجازات علمية فإنه قد يتطور المنهج العلمي مستقبلاً ويتطور معه مفهوم العقلانية؟ وحري بنا أن نمايز بين العقلانية الثقافية التي لها مقولاتها الفكرية المميزة على الرغم من أن العقلانية العلمية تدعو مرحلياً إلى إزاحتها بعد أن تجاوزها الواقع العلمي السائد الآن. ويبين هنا واضحاً حالة التوتر بين العقلانيتين، لذا يتعين تحديد منهج عقلاني، أي علمي، للتحكم في هذا التوتر وصولاً إلى حالة من الوفاق والتطابق في اتساق مع الواقع العلمي المتجدد. ويتجلى هذا واضحاً بشكل خاص حين نعرف أن الثقافة غير العلمية لها رسوخها الذهني كإطار فكري ودائماً تتطور متخلفة زمناً عن التطور العلمي والتكنولوجي وإطارهما المفاهيمي. ومع هذا، تمثل العقلانيات الثقافية في المجتمعات والأزمنة المختلفة أساساً لفهم وتفسير أفعال ومعتقدات أفراد أو جماعات داخل مجتمعات نصفها بالتقليدية أو المتخلفة أو البدائية. وتقضي العقلانية العلمية بضرورة فهم مقولات الفكر الخاصة لكل مجتمع، ولهذا تمثل ضرورة للبحث السوسيولوجي. وأجد في ضوء ما سبق أننا بحاجة ملحة إلى مراجعة خزانة معلوماتنا (المخ العربي) وثقافتنا (العقل العربي) في تطورهما التاريخي. وكذا مراجعة ما في هذه الثقافات من جذور ممتدة مشتركة وما بينها من عوائق تحول دون سيادة العقلانية العلمية أو العقل العلمي. أي معالجة التوتر وصولاً إلى تطابق أو مواكبة للذروة المرحلية من تطور الفكر الإنساني وما يبشر به من مستقبل شبكي عالمي يمثل تحدياً صارخاً لكل مظاهر الجمود. هذا بدلاً من الاستسلام لتهويمات عن ثوابت تقطع الطريق دوننا والفعل الثقافي لإنتاج الوجود والمشاركة الفاعلة على صعيد عالمي. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق