الاثنين، 18 مارس 2013

الصينية وإستراتيجيا "الخروج" إلى العالم

بقلم/وليد عبد الله باحث تونسي مقيم في بكين.


تزداد مكانة الصين الإقتصادية ويزداد شعور الناس بعدم معرفتهم لها، فقد تعودوا متابعة أخبارها في النشرات الإقتصادية و معرفتها من خلال الأرقام والنسب، ومن يرغب في تعلم اللغة الصينية فربما لأنه يفكر في ممارسة التجارة أو إيجاد عمل في إحدى الشركات المتاجرة مع الصين، أما إحتمال إعجابه بالثقافة والحضارة والفلسفة الصينية فقد يعد أمرا مستبعدا لأنه لم تصله عنها شيء يذكر، فما كان يصله من الصين سوى ساعة يلبسها أو قبعة يرتديها أو هاتفا أو حاسوبا و سائر حاجياته المادية. فعلى مدى طويل من الزمن ظلت الصين كائنا إقتصاديا بالنسبة للكثير من الشعوب الأخرى، و ظل الإقتصاد بمثابة الشجرة التي غطت الغابة الصينية. الصين بدورها شعرت بخطورة هذا الوضع، و سعت لتغييره عبر تنويع مجالات إنفتاحها على العالم و لاسيما المجال الثقافي، خاصة وأن الصين وصلت إلى مرحلة من النمو و التطور أصبح الإنفتاح الثقافي لا يقل أهمية على الإنفتاح الإقتصادي بالنسبة لمصالح البلاد الإستراتيجية، وقد رسمت الصين مخططا لنشر ثقافتها و أسمته "إستراتيجيا خروج الثقافة الصينية".
أولا : إستراتيجيا "خروج" الثقافة الصينية
إستراتيجيا "خروج" الثقافة الصينية هي إحدى المواضيع الهامة التي تعكف على دراستها الأوساط الأكاديمية الصينية والتي تحضى بعناية كبيرة من الجانب الرسمي الصيني، وقبل الخوض في غمار هذه الإستراتيجيا أرى أنه لابد من التوقف عند مصطلح "خروج" والتدبر فيه قليلا لأنه يختزن ويختزل في داخله دلالات كثيرة. الأصل الصيني لعبارة إستراتيجيا "خروج "الثقافة الصينية هو 中国文化“走出去”战略) ( وتترجمها وسائل الإعلام و المراكز البحثية الصينية إلى الإنغليزية إلى هذه الصيغة ( Chinese culture going out strategy)، مصطلح "خروج" الذي يبدو إستعماله غريبا بعض الشيء في هذا السياق حتى في الأصل الصيني، هو لاينتسب إلى اللغة الأدبية والأكاديمية بقدر إنتسابه إلى لغة المحادثة العادية، لكن رغم ذلك، فإن المتأمل في مقاصد هذا الفعل في السياق الذي ذكر فيه يرى بأنه قد تم إختياره بعناية ليكون الكلمة المفتاح في إلإستراتيجيا العالمية للثقافة الصينية. إذ يمكن أن نستشف معنيين هاميْن متعلقيْن بالثقافة الصينية يعبر عنهما فعل "خروج" بدقة متناهية، أولا؛ يدل على أن الثقافة الصينية كانت حبيسة رقعة جغرافية محددة وهي الآن تسعى إلى أن تتجاوز هذه الرقعة الضيقة إلى عالم فسيح، وهذا ينطبق على واقع الثقافة الصينية التي كانت بالفعل حبيسة الجغرافيا الصينية منذ نشأتها، فالمدرسة الطاوية وخليفتها الكونفوشيوسية التيْن ظهرتا تباعا قبل ظهور الفلسفة اليونانية بقرابة قرن ونصف وسبقتا ظهور الديانتين المسيحية والإسلامية بقرون، لكن نفوذهما وتأثيرهما إنحصر في المجال الصيني وجزء صغير من الأمم المحاذية للصينين مثل الكوريين واليابانيين. ولذلك فإن مصطلح "الخروج" هو الأكثر وفاءً للمعنى الحقيقي و الموضوعي لقيام الثقافة الصينة بتجاوز حدودها الجغرافية التقليدية.



ثانيا : نلاحظ أن مصطلح "خروج" يختلف كثيرا عن المصطلحات الغربية التي أستعملت في تحديد علاقة الثقافة الغربية ببقية الثقافات. مثل: المركزية ،الإنتشار، التنوير، التغريب، العولمة، الفرونكوفونية ، الأنغلوفونية، وغيرها من المصطلحات التي إستعملها الغرب للتعبير عن علاقة ثقافتة بالثقافات الأخرى والتي كانت تعكس الذهنية الغربية الإستعلائية تجاه ثقافات العالم المختلفة. وهذه رسالة ضمنية من الصينيين بأن إختلاف المصطلح يعكس أيضا إختلافا في المضمون و الأهداف، وأن علاقة الثقافة الصينية بالثقافات الأخرى لايمكن تشبيهها بعلاقة الثقافة الغربية ببقية الثقافات، وهذا على صلة مباشرة مع "نظرية النمو السلمي" التي تتبناها الصين وتحاول من خلالها أن تقول للعالم بأن نموها سيخدم السلام والإستقرار في العالم، وأنها لن تكون قوة إستعمارية كما يدعي الغرب من خلال تبنيه لـ"نظرية التهديد الصيني".



طبعا قد تختلف الآراء في قراءة إسترتيجيا خروج الثقافة الصينية وعلاقة هذه الأخيرة بالثقافات الأخرى، لكن لاشك أن الأعم الأغلب من هذه الآراء تجمع على السياق الذي ولدت فيه هذه الإستراتيجيا، فبعد أن إشتدت دعائم القوة الصينية الصلبة أصبح من الطبيعي بالنسبة للصين بصفتها دولة كبرى تطمح لنمو وتطور شامل أن تفكر في دعم قوتها الناعمة ولاسيما إشعاعها الثقافي في العالم، خاصة وأن سمعة الصين كقطب حضاري و ثقافي قد سبقت سمعتها الإقتصادية والسياسية حديثة العهد. بالإضافة إلى تنامي الحيز الثقافي داخل الديبلوماسية العالمية، وظهور مايسمى بـ"الديبلوماسية الثقافية"، وما تلعبه هذه الأخيرة من دور هام في دعم علاقات التعاون بين الدول و نجاعتها في المجالات التي تفشل فيها القوة الصلبة. حيث ترى الصين أن ثقافتها الثرية والمتسامحة يمكن أن تلعب دورا كبيرا في تقريبها إلى العالم ودعم علاقات التعاون بينها وبين الدول الأخرى، عبر خلق نموذج إنفتاح يجمع بين المنتَج وثقافة المنتَج، يمكْن من كسر إحتكار البعد الإقتصادي لصورة الصين في العالم، و إبراز أن الصين ليست إقتصادا وتجارةً و أرقاما وحسابات فقط و إنما هي أيضا بلد القيم الإنسانية و الفن والموسيقى أيضا. وقد عبر الرئيس الصيني هوجينتاو عن ذلك في العام الماضي خلال خطابه بمناسبة الذكرى التسعين لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني ، حيث قال "علينا أن نعمل على دفع خروج الثقافة الصينية إلى العالم، وتكوين قوة ناعمة على قدر المكانة التي تحظى بها الصين في العالم، ودعم إشعاع ثقافة الأمة الصينية في العالم."

ثانيا:الرسالة الأساسية للثقافة الصينية
"الصين اليوم، تصَدر أجهزة التلفاز، لكنها لاتصَدر الأفكار"، هكذا علقت مارغريت ثاتشر على الرأي الغربي الذي كان يرى بأن الصين لايمكن أن تصبح دولة كبرى. مقولة ثاتشر و إن أصابت كبد الحقيقة في جانب فقد أخطأتها في جوانب أخرى، فصحيح أن مبادلات الصين مع العالم الخارجي طغى عليها الطابع التجاري منذ عصور طريق الحرير إلى الآن، إلا أن ذلك لايعني أن الصين تعوزها الأفكار و القيم التي يمكن أن تثري القيم الإنسانية وتؤثر فيها إيجابا. بل إن الصينيين اليوم يشعرون أكثر من أي وقت مضى بأن العالم الذي يموج في بحر من الصراعات والصدامات في حاجة للأخذ من القيم و الثقافة الصينية التي حافظت على وحدة الصين و على التعايش السلمي بين أهلها على مدى قرون طويلة. وفي هذا الإطار يسعى الصينيون إلى تعريف العالم على نظرية "التناغم" التي تعد روح الفلسفة الصينية القديمة و المنطق الذي حكم التطور الإجتماعي والسياسي في الصين على مدى قرون، و مثلت الوضع المثالي الذي تناشده الكونفوشيوسية للمجتمع والدولة و تسعى لحشد العوامل الإجتماعية والسياسية والأخلاقية داخل خلايا المجتمع والدولة للوصول إليه، لتحقيق الأمن و الرخاء و السلام. و تسعى "نظرية التناغم" الصينية إلى تحقيق إنسجام بين المتناقضات، عن طريق "طلب المشترك و الإحتفاظ بالخصوصية"، وخلق مجال أخلاقي مشترك بين الناس يضمن تعايشهم السلمي وتماسك المجتمع والدولة و لايتأثر بإختلاف كل طرف عن الآخر، وينبني الطرح الكونفوشيوسي في هذا المجال على قيمتين أساسيتين، هما الحب (仁: ران) و الأدب (礼: لي)، تهتم الأولى بتطهير باطن الإنسان و إعماره بروح المحبة لمن حوله و تهتم الثانية بتقويم سلوك وعلاقات الإنسان مع أخيه الإنسان و مع الطبيعة، حيث تدعو يعامل كل طرف الطرف الآخر في حدود الأدب واللياقة. وتسعى الكونفوشيوسية إلى أن يتحلى كل فرد في المجتمع أيا كانت خلفيته الدينية و الثقافية بهاتين القيمتين في التعامل مع الآخر، وأن يشكل الحب و الأدب جسرا بين مختلف العناصر بإختلاف خصائصها. حيث لايربط كونفوشيوس قيمتي الحب والأدب بثقافة أو دين أو جنس معين، وإنما يربطها بالإنسان ذاته. وهنا تظهر القيمة التوفيقية و التوليفية للكونفوشيوسية بين المتناقضات ودفعها إلى الإنسجام وتحقيق مايعرف في الكونفوشيوسة بـمفهوم "التناغم رغم الإختلاف " ، إذ يقول كونفشيوس في هذا الصدد "الشرفاء يتناغمون حتى ولو اختلفوا و الخسيسون لايتناغمون حتى ولو تماثلوا" أي أن الذين يتحلون بقيمتي الحب والأدب يتعايشون في سلام وإنسجام حتى لو إختلفو في الفكر والثقافة والدين، والذين تنقصهم قيمتي الحب و الأدب لايتعايشون ولاينسجمون حتى ولوكانوا من نفس الثقافة ونفس الدين. إن ما يميز نظرية التناغم الكونفوشيوسية أنها تنطلق من الإنسانية كهوية للإنسان، ولاتسعى لتغيير خصوصيته الثقافية و الدينية و إنما تقوم برتق فسح الحب والأدب المتاوجدة داخل مختلف الحضارات، وتكوين مجال أخلاقي مشترك بين البشر يضمن تعايشهم السلمي والمحبة بينهم، دون أن يمس ذلك من خصوصية أي طرف، و أن لاينظر كل طرف للآخر من خلال نموذجه القيمي و الأخلاقي الخاص به و إنما أن يدين الجميع إلى مذهب أخلاقي مشترك وجامع يكون قوامه حب الآخر ومعاملته بأدب وإحترام، وهذه هي الخاصية الحضارية الصينية الأبرز التي تسعى الصين من خلال إستراتيجيا خروج ثقافتها لتقديمها إلى العالم.
ثالثا : الإشكالية البنيوية لخروج الثقافة الصينية
رغم عراقة الحضارة الصينية التي تعود إلى أكثر من 5000 سنة، وعراقة مدارسها الفكرية التي سبقت ظهور الفلسفة اليونانية بأكثر من قرن من الزمن إلا أن الفلسفة و الثقافة الصينية كانت منكفئة على نفسها على إمتداد التاريخ، ولم تتطلع كثيرا للإحتكاك أو المنافسة مع الثقافات الأخرى، وكانت دائما تفضل إستقبال الثقافات الأخرى و التعرف عليها داخل مجالها الحيوي على الخروج إليها و التأثير فيها أو التأثر بها. حيث تعرفت الحضارة الصينية على الديانات المانوية و الماجوسية و البوذية ثم المسيحية واليهودية و الإسلام إلخ، داخل المجال الجغرافي الصيني عبر القوافل التجارية والمبشرين. و الغريب أن الرحالة والمبشرين و التجار الذي كانوا يأتون إلى الصين و كانت أعدادهم تقدر بعشرات الآلاف لم ينقلوا شيئا يذكر عن الثقافة والفلسفة الصينية إلى الحضارات الأخرى، حيث لم تنتقل الأفكار الكونفوشيوسية كما إنتقلت الفلسفة اليونانية من الحضارة الإغريقية إلى الحضارة العربية ثم إلى الحضارة الغربية. ولم تجد الأعمال الأدبية الصينية الشهيرة مثل" حلم القصور الحمراء" ما وجدته القصة العربية الشهيرة "ألف ليلة وليلة" أو القصة الهندية الأصل "كليلة و دمنة" من شهرة بين مختلف الحضارات. في المقابل إنصب إهتمام الرحالة على تسجيل بعض الجوانب الظاهرية للصين و إنشغل المبشرون بنشر المسيحية بإستثناء المبشر الإيطالي ماتيو ريشي (1552- 1610) الذي تعلم الثقافة و الفلسفة الصينية، وكان ذلك لأغراض تبشيرية أيضا، أما التجار فقد وجدوا ضالتهم في الحرير و الخزف والتوابل الصينية، و نقلوا الأشياء العملية مثل الورق والحبر والبارود و البوصلة إلخ.


إن مايمكن أن نستنتجه من التأمل في التاريخ والحضارة الصينية ومقارنتهما بالحضارات الأخرى لاسيما الحضارة العربية الإسلامية و الحضارة الغربية هو نزوع الحضارة الصينية نحو التركز في المجال الصيني وملء كل فراغاته والمداومة على البناء بنظام والسير في خط مستقيم بخطوات متتابعة ومنتظمة وخلق كتل متراكمة ومتراصة لايوجد بينها ثغور، حيث اتبعت خيار التركز الجغرافي و الإستمرار الزمني لخلق مركز حضاري صلب غير قابل للإختراق من قبل الثقافات الوافدة أو الغازية، وذو قدرة كبيرة على إستيعاب وإحتواء الثقافات الدخيلة و توجيهها و مماهاتها مع التيار الثقافي الرئيسي والعادات والتقاليد الخاصة بالحضارة الأم، ومن هنا يمكننا أن نفهم لماذا ظلت العقيدة الكونفوشيوسية صاحبة اليد العليا في الحضارة الصينية و لم تستطع الأديان و الثقافات التي إنتشرت حول الصين النفاذ داخل البنية الصينية وبقيت منحصرة أساسا بين الأقليات العرقية فقط. كما يمكننا ذلك من فهم سبب ترابط حلقات التاريخ الصيني من أول أسرة صينية حاكمة إلى الآن، في حين شهدت مختلف الحضارات القديمة الأخرى تقطعات و تحولات تاريخية كبرى، مثل ماحصل للحضارة المصرية و الرومانية والفارسية.


إتجاه الحضارة الصينية نحو التركز جغرافيا و الإستمرار و الصمود زمنيا هو بالضبط عكس ما إتجهت له الحضارات الأخرى وأساسا الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية المسيحية اللتين إتخذتا منحى الإنتشار جغرافيا و التغير زمنيا. وفي حين مكن نموذج التطور الذي إتبعته الحضارة الصينية من إكسابها مناعة ضد الثقافات الدخيلة عاد عليها في نفس الوقت بنزعة من الإنزواء و الإنكفاء على الذات وعمق إختلافها عن الحضارات الأخرى، في حين سبب نموذج التطور الذي إتبعته الحضارات الأخرى ضعف مناعتها ضد الثقافات الاخرى لكن في نفس الوقت ساهم الإحتكاك بين هذه الحضارات في تقاربها وتأثرها ببعضها، وهذه إحدى النقاط التي عالجها المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في موسوعته "دراسة في التاريخ". من جهة أخرى مكنت خاصية التغير المستمر عبر الزمن التي تتميز بها الحضارة الغربية المسيحية على وجه الخصوص ثم الحضارة الإسلامية من مرونة هاتين الحضارتين في إنتاج طبقات حضارية رهيفة و موجات ثقافية قصيرة في علاقة وطيدة مع نبض العصر يمكن أن تنتشر بسرعة على أوسع نطاق، ونذكر على سبيل المثال حركة الإصلاح الديني و فكر النهضة ثم الحركات القومية ثم أخيرا العولمة، وهذه كلها تغيرات شهدتها الحضارة الغربية وشمل تأثيرها كامل العالم. أما بالنسبة للثقافة الصينية فالأمر يختلف كثيرا، فالثقافة الصينية تبدو كتلة سميكة جدا تمتد خيوطها إلى قرابة 3 ألاف سنة دون إنقطاع، وتعد عملية نقلها كوحدة كاملة إلى الخارج مهمة في غاية الصعوبة إذا لم نقل مستحيلة، فثلاثة آلاف سنة من التراكم و الإنكافاء على النفس جعلت مهمة فهم الثقافة الصينية عملية غاية في التعقيد، وخذ على سبيل المثال أوبرا بكين التي لايفهما حتى الكثير من الصينيين في الوقت الحالي، نظرا للغتها و لمفاهيمها و صورها الشعرية التي إنقطعت تماما عن الواقع الحالي، أو الكثير من الأمثلة والحكم الصينية التي لايكفي إستعمال القاموس لفهما لأنها مبنية على أفكار فلسفية أو سياقات ثقافية وإجتماعية صينية غائرة في القدم، بل يصعب أحيانا فهم مايريده أصدقائنا الصينيون إخبارنابه نظرا لميل الصينيين في أحيان كثيرة إلى إستعمال اللغة المبطنة و التلميح. من جانب آخر، سيؤدي إقتطاع جزء بسيط من الثقافة الصينية وتقديمه للعالم إلى إفقاد الثقافة الصينية جماليتها، ولن يعرف العالم على روح الثقافة الصينية الحقيقية.
رابعا : بداية تبلور نسق دولي للثقافة الصينية


مثل القرن العشرين أحد أكبر المنعرجات التي شهدتها الحضارة الصينية على إمتداد تاريخها الطويل، حيث شهدت الصين تغيرات عميقة شملت كل صغيرة وكبيرة فيها، و أخرجت الصين من قوقعتها التي عاشت فيها آلاف السنين متمركزة حول ذاتها و دفعت بها إلى عمق التيار العالمي بتنوعه وتجاذباته، حيث وقعت خلال القرن الماضي ثلاثة أحداث مفصلية في التاريخ الصيني المعاصر ساهم كل واحد منها في الدفع بالصين أكثر نحو الواجهة، كان الأول في عام 1911 عندما نجحت ثورة شينهاي بقيادة شون تشونغ شان في إنهاء الحكم الإقطاعي الذي تواصل على إمتداد آلاف السنين و وضع الأسس الأولى للجمهورية، و تمثل الحدث الثاني في تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949 على يد ماو تسي تونغ و تبني الصين النظام الإشتراكي و إنحيازها إلى اليسار، أما الحدث الثالث فقد كان سياسة الإصلاح والإنفتاح التي فتحت للصين آفاق واسعة في الغرب والشرق، وعبر قرن من مسيرة الصين في الإندماج داخل الإقتصاد و السياسة الدولية ظلت الثقافة الصينية تتأثر بإستمرار بالبيئة الجديدة و تتلمس طريقا يتماشى مع واقع الصين الجديد ومكانتها الدولية و تقترب من التيار الرئيسي للثقافة العالمية، و بعد أن ضاع الفكر الصيني القديم في زحام النظريات الغربية وإحكام تمركز هذه الأخيرة في عقلية الإنسان الصيني المعاصر، عاد الفكر الصيني من جديد لكن هذه المرة بطابع دولي، و ظهرت ما يسمى اليوم في الأكاديميات البحثية بـ"الكونفوشيوسية الجديدة" و هو نسق فكري ينطلق من المبادئ المؤسسة للفكر و الثقافة الصينية القديمة و يمزجها بمبادئ الفلسفية الغربية مثل العقلانية و الإنسانية، حيث سعت "الكونفوشيوسية الجديدة" إلى إبراز الجوانب المنطقية والبراغماتية في الفكر الكونفوشيوسي القديم و بينت إحتكامه للإستنتاج و المنطق كمصدر للمعرفة، في محاولة لتخليصه من الآثار الإقطاعية، و إثبات إستمرارية جدواه و صلوحيته في العصر الحالي، كما عملت على أنسنة قيم الأخلاق والفضيلة في الفكر الكونفوشيوسي و النظر إليها على كونها قيم لا تخص الأمة الصينية فحسب و إنما هي قيم للإنسانية جمعاء، و أن نطاقها لايقف عند حدود المجال الذي كان يحكمه الإمبراطور في السابق وإنما يشمل الكون كله، و من ذلك توسيع مفهوم "مسؤولية الإنسان على العالم (العالم: يعني المجال الصيني في الفكر الصيني القديم)" من المسؤولية الأخلاقية للإنسان الصيني تجاه ما يحدث في مجتمعه و دولته و محيطه إلى المسؤولية الأخلاقية للإنسان الصيني على مايحدث في البشرية و العالم و الكون. الجوانب الأخرى من الثقافة الصينية شهدت أيضا توجها متزايدا نحو نسق التدويل حيث ظهرت خلال السنوات الأخيرة ما يعرف باللغة الصينية الدولية، و هو تخصص يستهدف تدريس اللغة الصينية بمقاييس دولية يحاكي مناهج التدريس و الإمتحانات في اللغات الغربية، و يراعي خصوصيات المتعلم الأجنبي. كما يمكن ملاحظ التوجه ذاته في الموسيقى و السينيما الصينية أيضا، حيث نشهد ميولا إلى إنتاج أفلام بمقاييس عالمية يشترك فيها الصينيون و الأجانب لاسيما الأمريكيون، إلى جانب إستقطاب كبريات الشركات العالمية في ميدان الثقافة للإستثمار في الصين على غرار شركة "ولت ديزني الأمريكية"، و إقامة شركات ثقافية ذات رأس مال مشترك صينية -أجنبية، بل نلحظ نسق التدويل حتى في المطاعم الصينية، حيث تشهد الصين ظهور العديد من سلسلات المطاعم التي تقدم الأكلات الصينية على طريقة و أسلوب سلسلات مطاعم الأكلات السريعة الأمريكية مثل ماكدونالدز و كنتاكي. كما تعمل الصين على إستغلال تنامي إقتصادها و إنتشار إستثماراتها في العالم لنشر لغتها وثقافتها، إستجابة لحاجة السوق المتزايدة للغة الصينية، و يجدر هنا ذكر الدور الكبير الذي تلعبه معاهد كونفوشيوس التي بلغ عددها 357 معهدا و 457 فصلا منتشرة في 104 دولة بعد 7 سنوات فقط من بناء أول معهد في كوريا الجنوبية، و وصل عدد متعلمي اللغة الصينية الأجانب 100 مليون شخص في عام 2011 ، و تقدر نسبة زيادة الإقبال على تعلم اللغة الصينية في العالم بـ 39% سنويا. من جهة أخرى تكثف الصين مشاركتها في المعارض و الملتقيات الدولية الكبرى، خاصة في المدن العالمية ذات الإشعاع الدولي مثل نيويورك، جونيف، باريس،دبي إلخ، في محاولة للأنتشار على أوسع نطاق ممكن، هذا التوجه الجديد للثقافة الصينية يمكن تلخيصه في ما أشار إليه الرئيس الصيني هو جين تاو في تقرير الإجتماع السابع عشر للحزب الشيوعي الصيني حينما قال "يجب تعميق التبادل الثقافي بين الصين والخارج، وإستلهام الإنجازات الحضارية لمختلف الدول، لتعميق الإشعاع الدولي للثقافة الصينية ".


كل هذه العوامل التي ذكرناها سلفا ساهمت في بلورة نسق ثقافي وفكري جديد داخل الصين المعاصرة، نسق جديد يختلف حتما عن ما كانت عليه الثقافة الصينية طيلة قرون ماضية لكنه يشبه كثيرا الحركية و النشاط اللذان يميزان الصين المعاصرة. هذا النسق الثفافي الجديد الذي أصبحت معالمه تتضح شيئا فشيئا مع تنامي وزن الصين العالمي و إندماجها في الإقتصاد والسياسة الدولية وإنفتحها على العالم و إنفتاح العالم عليها، هو المحفز الأكبر على إنتشار الثقافة الصينية و نجاح إستراتيجيا خروجها إلى العالم، كما أن شعور الصين المتزايد بأهمية العامل الثقافي في دعم مكانتها العالمية و الإمكانيات المادية والبشرية و العلمية التي تخصصها الصين لنشر ثقافتها ستكون بلا شك دافعا كبيرا لبروز الثقافة الصينية أكثر على المشهد الثقافي العالمي خلال السنوات والقادمة. من جهة أخرى، سيكون لخلو الثقافة الصينية من العنصر الديني و تركيزها على الجانب الإنساني دور مهم في بعث مشاعر الإرتياح و التقبل من شعوب الثقافات الاخرى، كما لاشك بأن المهاجرين الصينيين و الأجانب من ذوي الأصول الصينية والذين يقدرون بالملايين و ينتشرون في كل أنحاء العالم سيكون لهم دورا كبيرا داخل مجتمعاتهم في نشر الثقافة الصينية، و مايهم العالم والإنسانية من إستراتيجيا خروج الثقافة الصينية هو عدم إستبدال لون ثقافي غربي بأخر صيني و إنما أن تحقق هذه الإستراتيجيا تعددية قطبية ثقافية وتسهم في خلق فضاء عالميا يتسع لجميع الثقافات، كما نأمل أن تحفز إستراتيجيا خروج الثقافة الصينية على خروج مزيد من الثقافات الشرقية العريقة إلى العالم و لاسيما الثقافة العربية.

المراجع:


1- 文化“走出去”战略的理论思考,祝振中。

2- 中国文化走出去,叶小文,中央社会主义学院学报,2010年6 月。

3- 中国文化走出去的新起点,邓显超,经济研究导刊,2011 年第30 期。

4- 中国文化走出去的初步实践及对策,李春华,李春华专栏。

5- Overturning the Wall: Building China’s Soft Power in Africa,He Wenping。

6- A study of history, ARNOLD J. TOYNBEE, VOLUME ONE, Abridgement of volumes
1-5, D.C.SOMERVELL, China
social sciences publishing house

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق