الجمعة، 8 مارس 2013

ماذا يفعل بالانسان حكي النسوان؟ مقال من كتاب لعنة بابل تأليف بلال عبد الهادي




غلاف كتاب لعنة بابل

الانسان كائنٌ يحبّ الحكْي ويطرب للكلام. والصمت أشقّ على النفس من الوقوف في شمس الصحراء اللاهبة، بحسب ما يقول القرطبيّ في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن" حين توقّفه عند الآية القرانيّة الكريمة التي تتناول " صوم " السيدة مريم عن الكلام : " إِنّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّا" ( مريم: 26)، لأنّ الإمساك عن الكلام مسْلك موجع ويخالف طبائع اللسان والإنسان. تكفي جولة بسيطة في التعابير الشائعة في اللغة العربيّة حول مشقّة الصمت وآثاره القاتلة لتبيان آلامه الحارقة فهناك عبارة: " ح طقّ بدّي احكي"، أو "بنفجر إذا ما حكيت"، أو " بموت إذا ما حكيت"…إلخ. فالإنسان، كما نرى، قد يقتله صمته بالسكتة القلبية أو الدماغيّة، والسكتة، في أيّ حال، بنت السكوت أي عدم استخدام الحكي.

ويقولون المرأة تحبّ الحكي، بل يذهبون إلى توليد تعبير لا يزال حيّاً يرزق على أفواه الرجال بل، وهنا الغرابة، على أفواه بعض النساء أيضاً، وهو" حكي نسوان" ويقصد بذلك حكي لا وزن له أو مصداقيّة. وهذا تفسير بعيد جدّاً عن الصواب والحكمة كما هو بعيد عن التفسير الطبّيّ والاجتماعيّ والنفسيّ لوظيفة الحكي. إنّ المرأة تحكي، تمارس نعمة الحكي لتنقذ الرجل من براثن نفسه، ولتنقذ الطفل الوليد من مصير أسود، أخرس، ممسوح الملامح البشريّة.

 لنمارس لعبة الخيال قليلاً ونتخيّل أنّ سيّدة الحكايات شهرزاد قرّرت إصلاح شهريار بالصمت لا بالحكي، وكلام شهرزاد "حكي نسوان " بامتياز. "ألف ليلة وليلة" من "حكي النسوان" وهي قصص غيّرت أشياء كثيرة في العالم، بل لعلّها أوّل مجموعة قصصية خرجت من هويتها المحليّة لتكتسي هويّة معولمة قبل زمن العولمة بعشرات السنين. هل من حضارة راقية لا تستضيف شهرزاد؟

غيّر حكي شهرزاد أوّلاً الحاكم الفظّ شهريار، حوّله من مصّاص دماء وقاتل دمويّ إلى حاكم حالم، وديع وحكيم.وغيّرت ثانياً من طبيعة اللغة العربيّة، التي صارت قابلة للسرد العفويّ، الحارّ، الجميل، الدفّاق، أي إنّها حرّرت اللغة أيضاً من أرستقراطيتها، وأنزلتها من برجها العاجيّ إلى أسواق بغداد، وأعادتها إلى الحياة السلسة، طيّعة، مطواعة، بلا مسوح وأصباغ.

فتحت تلك المرأة، شبابيك اللغة على هواء الحياة اليومية والأحلام والحكايا والبساطة المحنّكة. ولا يزال حكي شهرزاد فاعلاً وفاتناً اليوم كما كان فاعلاً وفاتناً بالأمس وسيظلّ فاعلاً في الغد القريب والبعيد لأنّها ناطقة كحكمة المتنبي بكلّ لسان، حتّى ولو عارض كلامها بعض المتزمتين الذين ينكرون وظائف اللغة كما ينكرون على شهرزاد حقّ الحياة.

فشهرزاد الجدّة الأولى التي لا نضجر من تدفّق حكاياها، كما لا تتعب السينما من تحويل قصصها الآسرة إلى أفلام كالأحلام تفتن الصغار والكبار. ولا أظنّ أنّ هناك امرأة عربية تضاهيها شهرة في العالم.

 وما نزال نقول "حكي نسوان"! معتبرين "الحكي" جنساً ساقطاً، أو واطئاً، ولعلّ عبارة أخرى على نقيضها تشفّ عن الدلالة المهينة اللاصقة بالـ"حكْي"، "الحكي" للنسوان أما "الكلام" فللرجال، وإلاّ ما معنى "كلام رجال" المتسربلة بالفصاحة الذكوريّة أمام "حكي نسوان" ذات النبرة العامية؟ أليس من الضرر على الحضارة العربية نفسها ترسيخ الهوّة بين "الحكي" و"الكلام"، ألا يشبه هذا الشرخُ الشرخَ الفاجعَ الموجود بين الفصحى والعاميّة الذي إلى اليوم لم نحسن ردمه؟

علينا أن نطالب، من وجهة نظر الطبّ والبيولوجيا، بـ"حكي النسوان"، ونسعى لفتح نادٍ لـ"حكي النسوان". أقلّه لسببٍ لغويّ، فالإنسان أوّلاً وأخيراً كائنٌ لغويّ، والحكي هو دم اللغة ولحمها، وبدونه تصاب اللغة بانسداد الشرايين. ولا ننسى أنّ تعريف الانسان هو تعريف لغويّ حين نقول:" الإنسان حيوانٌ ناطق"، أي حكّاء. ولا أعرف لماذا تصاب بعض الآذان بالغثيان من لفظ الحيوان الموجود في التعريف؟!

حين نتكلّم على اللغة، نقول "اللغة الأمّ"، والأمّ سيّدة "النسوان"، ولكنّها سيّدة اللغات أيضاً وليس عن قلّة خبرة ودراية يسقط الأب من التعريف فلا أظنّ أنّ عبارة" اللغة الأب" متداولة للتعبير عن اللغة الأولى. لأنّ الأمّ - وليس الأب- هي التي تعطينا اللغة ونحن أجنّة في الأرحام، ثمّ تمدّ اللسان بالبيان مع اللبان. إنّ اللقاء الأوّل مع اللغة يكون عن طريق الأمّ. علاقة الطفل اللغويّة الأولى والمتينة والتي تكتب له نمط سلوكه اللغويّ والحياتيّ هي الأمّ، على امتداد فترة تكوينه الكلاميّة، فأغلب ساعات السنوات الأربع أو الخمس ( وهي الفترة التي تتكوّن خلالها المنظومة اللغوية) من حياته يعيشها مع النسوان لا مع الذكران، والأشهر التسعة التي يقضيها في الأرحام، وهي فترة لغويّة مهمّة أيضاً، بحسب ما يذهب إليه علم اللغة العصبيّ والنفسيّ، لا يكون على تماسّ إلاّ مع النساء. فالأرحام حكرٌ على النساء!

وليس عبثا فتنة ابن حزم الفقيه الاندلسيّ الكبير بالنساء، وحكي النسوان، ممّا دفعه إلى تكريس كتاب "طوق الحمامة في الألفة والألآف"، احتفاء بالنسوان، وهو من أطرف النصوص التي أنتجتها علاقة الرجل بالمرأة، وما كان لهذا الكتاب أن يرى النور لولا الفرصة النسائية التي سنحت لابن حزم في طفولته.

وليس عن جهل اعتراف توفيق الحكيم بأنّ المرأة أبرع من الرجل في القصّ، وسرد الحكايات، وهو القاصّ من الطراز الأوّل، والحكّاء المدرار.

أيّ مصير ينتظر طفلاً أمّه لا تحبّ الحكي؟ مصير أخرس وحياة مليئة باللعثمة والتأتأة.

يقول الدكتور جوزيف لوريتو Joseph Lurito (وهو من جامعة إنديانا في الولايات المتحدّة الأمريكية ومتخصّص في دراسة الدماغ) بناء على دراسات تشريحية للدماغ إنّ المرأة تستعمل نصفي الدماغ في الكلام والسماع بخلاف الرجل الذي لا يستعمل إلاّ النصف الأيسر، بمعنى أنّ المناطق الدماغيّة المخصصة للكلام عند المرأة أرحب، ولهذا السبب تبيّن أنّ المرأة قادرة بخلاف الرجل على متابعة حوارين في وقت واحد وهذا ما لا طاقة للرجل به. كما أنّ المرأة تستعيد عافيتها اللغويّة إثر حادث يصيب أنسجة الدماغ في وقت أقلّ من ذلك الذي يستغرقه برء رجل لديه الإصابة نفسها، لأنّها تملك من الاحتياط اللغوي ما لا يملكه الرجل بحكم توزيع الملكة اللغويّة عند المرأة على شطرَي الدماغ. كما تشير الدراسات اللغوية النفسية أنّ نسبة التأتأة عند الأطفال الذكور أكثر بكثير ممّا هي عليه عند الإناث، والسبب بيولوجيّ ولا علاقة له بالظروف الاجتماعية والتمييز العنصريّ بين الجنسين. ومن يتكلّم في البيولوجيا كمن يتكلّم في الحكمة الإلهية.

حكمة الله أن تحكي المرأة، لأنّها تنهض بمسؤولية حمْل الأجنّة من جهة، وحمل اللغة من جهة أخرى.

وعليه فـ"حكي النسوان" سرّ ديمومة الإنسان الناطق. والإنسان العاقل لا يحبّ أن يكون مصيره مشابهاً لمصير الدناصور. وقمع ألسنة النساء لا يختلف كثيراً من هذا المنظور عن الانتحار. والله أعلم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق