قامت نجلاء فتحي وعزت العلايلي، منذ ربع قرن تقريباً،
بتمثيل فيلم "المجهول"، ويعاد بين وقت وآخر عرض الفيلم على شاشات الفضائيّات،
وفيه شيء مما أريد الحديث عنه، كما كان الكاتب الفرنسيّ ألبير كامو(Albert Camus) قد ألّف مسرحيّة بعنوان "سوء
فهم"(Le
Malentendu)،
وهي بدورها تتضمّن شيئاً ممّا أودّ، هنا، عرضه.
الحكاية مدار الحديث حصلت مع جنرال صينيّ، ولا بدّ من
ذكر اسمه، والسبب هو أنّه كاد أن يكون مؤسّس امبراطوريّة جديدة على أنقاض
امبراطورية سلالة هان، في القرن الثالث الميلادي، وهو جنرال جبّار، ذو طموحٍ
فاجرٍ، يدعى " تْسْهاوْ تْسْهاوْ". ()
عاش هذا الجنرال في أواخر أسرة هان، أي في لحظة تفككها،
واستيلاء جنرالات الحروب وأمراء الأقاليم على مقاطعاتها، والتحكّم بمواردها
ومصائرها. كان كلّ جنرال يحلم بشيء واحد، لا إنقاذ الامبراطوريّة من الانهيار،
وإنّما الاستيلاء عليها والجلوس على عرش الامبراطور المغلوب على أمره. عاش كلّ
الجنرالات حياةً سِجالاً فيها الكرّ
والفرّ، منتصر اليوم هو مهزوم الغد، ومهزوم اليوم هو منتصر الغد. فالدهر، هنا،
يمارس العدل بمنتهى الخبث، ومن عدالته أن لا يكون مخلصاً مع أيٍّ كان، و"تلك
الأيّام نداولها بين الناس"(النساء/104). سنّة، كالموت، لا يفلت من سلطانها
سلطان .
انكسر، في مرحلة البدايات، الجنرال، ولكنه استطاع
الفرار، والاختباء عند من كان بمثابة أبيه الروحيّ، خبّأه عنده رغم أنّ عقوبة
الإعدام كانت تترصّد من يحميه، ومكافأة، أين منها مكافآت بوش الصغير السخيّة في
العراق! بانتظار من يقوم بتسليمه حيّاً أو ميتاً. وصل تْسْهاوْ مكسوراً عند والده
الروحيّ، فاحتضنه الوالد، وكان يعرف قيمته العسكريّة، ولكنّ الجنرال وصله بلا
موعد، والرجل أراد تكريم ضيفه الذي كان برفقة شخص آخر ساعده على الفرار من السجن.
اسـتأذن الرجل تْسْهاوْ تْسْهاوْ بالذَّهاب الى السوق لشراء خمر تليق بحضوره. ذهب
العجوز، ولكن لا بدّ من إكرام ضيفه أيْ لا بدّ من اختيار أفضل ما هو موجود ممّا
استدعى غيابه أكثر من المتوقّع، خاف تْسْهاوْ تْسْهاوْ. لعب الفأر، كما يقال،
بعبّه. ظنّ أنّ المكافأة أغرت والده الروحيّ بتسليمه، وبينما كان وصديقه يتكلمّان
بما يهجسان به إذ بـ"تْسْهاوْ تْسْهاوْ" يسمع همهمة في الخارج، همهمة
مرعبة النوايا، مجموعة من الأصوات وصله منها عبارة أقلقت ذهنه ورسّخت ظنّه. انقلب الظنّ، في لحظة ماكرة، إلى يقين. سمع ما يشبه
المشاورات الهامسة، والهمس يثير الشبهات! وتناهى الى سمعه عبارة لا تحتمل التأويل:
"سنذبحه الآن" يرافقها صوت شحذ السكين على المسنّ. الحادثة تجري في
الليل. والليل ستّار ولكنّه، في الوقت نفسه، غدّار، يلعب بالعين فلا تعرف فيه
الخيط الأبيض من الخيط الأسود. لقد فعلها العجوز، قال تْسْهاوْ تْسْهاوْ، فما كان
منه إلاّ أن خرج وصديقَه شاهرَيْن سيفَيْهما وشرعا بقتل الأشخاص الذين بدَوا في
ظلمة الليل كالأشباح. لم يفرّقوا بين رجل أو امراة. وما هي الاّ لحظات ضئيلة حتى
خرّ الجميع صرعى. أراد تْسْهاوْ تْسْهاوْ أن يطمئنّ، فالدنيا لا تخلو من المكر
والغدر، راح هو وصديقه يفتّشان البيت حتى وصلا إلى المطبخ فشاهدا خنزيراً مربوطاً
لا يملك العجوز غيره، فعرفا أن المقصود بالذبح هو الخنزير. هنا شعر تْسْهاوْ
تْسْهاوْ أنّه ارتكب خطأ جسيماً في حقّ خدَم أبيه الروحيّ، وأنّه سفك، بسبب هذا
الظنّ الآثم، دماً كثيراً. أنّبهما ضميرهما. قرّر تْسْهاوْ الانصراف. فبأيّ عين
يواجه أباه الروحيّ؟ امتطى كلّ واحد منهما حصانه وأسرعا في الذهاب، وما إن قطعا
مسافة قصيرة حتى لاح العجوز عائداً على حماره، وهو يحمل ما لذّ وطاب من مأكل
وشراب. تفاجأ بمغادرتهما المكان. قال له تْسْهاوْ تْسْهاوْ: "لا يمكن لنا
البقاء هنا، إنّنا نخاف أجهزة الأمن التي تطاردنا، ومن الأمان تغيير المكان".
أصرّ العجوز على بقائهما والمغادرة بعد تناول العشاء. قال العجوز لتْسْهاوْ:"
لقد جلبت لك أجود أنواع الخمور، وأمرت خدمي بذبح الخنزير لشوائه". إلاّ أن
تْسْهاوْ اعتذر مجدّداً وأطلق لحصانه العنان .
تابعا طريقهما تاركَين خلفهما العجوز مكسور الخاطر. بعد
أن قطع "تْسْهاوْ تْسْهاوْ" مسافة قصيرةِ عنّ بباله شيء قد لا يخطر
ببال، فثنى عنان فرسه وعاد باتّجاه العجوز. التفت العجوز إليه مسروراً ظنّا منه
أنّه اقتنع بالمبيت عنده! إلاّ أنّ "تْسْهاوْ تْسْهاوْ" خاطب العجوز
قائلاً وعلى وجهه علامات الاستغراب:" من هذا الشخص القادم، من ورائك، إليك،
يا والدي؟". التفت العجوز ليعرف من هذا الشخص الآتي في آخر الليل. كانت
التفاتته كفيلة بإعطاء تْسْهاوْ تْسْهاوْ فرصة لسلّ سيفه، بلمح البصر، وقطع رأس
العجوز الذي تدحرج على الأرض. عاد "تْسْهاوْ تْسْهاوْ" وكأنه لم يفعل
شيئاً إلى صديقه المذهول ممّا رأت عيناه. كان قتلُ خدم العجوز، طبعاً، سوءَ فهم أو
سوء تأويل مريع للمسموع. ولكن ما معنى أن يقطع رأس العجوز؟ صديق تْسْهاوْ تْسْهاوْ
لم يستوعب ما حصل. وحين استفسر عن فعلته السوداء، قال:" كان لا بدّ من قتله
لإنقاذ حياتي، كان من الممكن لدى وصوله إلى البيت، ورؤية ما حدث أن يتبرّأ من
أبوّته الروحيّة لي ويجمع أتباعه ويلحق بنا للانتقام، فالدم لا يرحم".
كثيرون، في هذه الحياة، يُقتلون لأنّ جريمتهم التي لا
تحتمل هي أنّهم أبرياء! أو مخدوعون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق