سقط الغرب تحت فتنة البضاعة الصينية في بداية اكتشافه لذلك الشرق القصيّ
الملفّع بالأسرار والأسوار، ذلك الشرق الذي لم يكن يعرف الغرب عنه الكثير، أحبّ
مذاق الشاي كما أحبّ التنعّم بملمس حريره الناعم وخزفيّاته اليدويّة الفاتنة
المرهفة الصنع فراح يستورد بنهم شديد بضاعة الصين لإشباع رغباته وحاجاته. ولكن
الصين، بالمقابل، لم تكن تبالي بمنتوجات الغرب، فمصنوعاته لم تستطع أن تثير
رغباتها ولا أن تفتن عيون سكانها. كان استمرار الأمر على هذا المنوال يعني استنزاف
الفضّة من أوروبا لأنّ الصين كانت تقبض بدل بضاعتها سبائك فضية وهذا يعني أنّ سعر
الفضة سوف يرتفع بالقياس إلى سعر الذهب، ويخلخل الوضع الاقتصادي في الغرب.
ثمّة عدة حلول كانت ممكنة لإقامة توازن بين الصادرات والواردات:
- زيادة حجم الصادرات الأوروبية إلى الصين من منتجاتهم الصناعية والزراعية.
هذا الحل لم يكن له أيّ مفعول لأنّ اكتفاء الصينيّ باستهلاك ما تنتجه يده وأرضه
جعل هذا الباب عاجزا عن إقامة توازن بين الصادر والوارد، ومنع استمرار تدفّق
الفضّة الغربية إلى خزينة الإمبراطورية الصينية.
- زيادة صادرات الذهب والفضة لاستيراد حوائج الغرب من ثمرات الصناعة
والزراعة الصينية مما يعني استنزاف الموارد الأوروبية من هذين المعدنين النفيسين.
- إيجاد سلعة يقبل عليها الصينيون، وتكون حصيلة أرباحها كافية لدفع تكاليف
مشترياتهم من منتوجات الصين المرغوبة.
كان أنْ عثر الأوروبيون بعد إعمال خيالهم الشيطانيّ على تلك السلعة التي
سوف تحفظ لهم ذهبهم وفضّتهم، وهي نبتة الأفيون التي راحوا يزرعونها في جميع
مستعمراتهم المنتشرة في أرجاء الشرق. وهكذا زاد الأوروبيون من زراعة الأفيون
وتحوّلت حقول الأرز والقطن والقمح في الهند وغيرها من المستعمرات إلى حقول تعربد
فيها نبتة الأفيون. وتم إنشاء المصانع لإعداد المخدّر كما تم إنشاء السفن الخاصة
بشحن الأفيون إلى الصين. اكتسحت عادة استخدام الأفيون، بداية، الطبقات الثريّة
الصينية ولكن سرعان ما انتشرت هذه العادة الخبيثة كالنار في هشيم الناس البسطاء
والفقراء في ربوع الصين.
وهكذا لم تعد صادرات الصين من الشاي والحرير وغيرهما تكفي لدفع تكاليف
استهلاك الأفيون البريطانيّ المستورد مما أدّى إلى استنزاف الفضة في الصين مع ما
كان يعنيه ذلك من ارتفاع في أسعار السلع وكساد مستطير انتهى إلى مجاعات حصدت
أرواحاً كثيرة كرمى لعيون الأفيون الغربيّ وفضّته.
كان يحكم وسط الصين، في ذلك الوقت، مندوب إمبراطوريّ حكيم يدعى "لين
تزه شو" فقرر قطع نسل الأفيون في البلاد فعمد إلى حرق أهراءات الأفيون وأبعد
التجار الأجانب الملوّثة أياديهم الغربية بالتجارة البيضاء وأودع شركاءهم الصينيين
في السجون وقام بكتابة رسالة إلى الملكة فكتوريا سيدة العرش البريطاني يقول
فيها:" إنّ ثروة الصين تستخدم لإثراء البرابرة الذين يحرمون الصينيين الحقّ
في خيرات بلادهم. فبأي وجه حقّ يجلب البرابرة السموم إلى الصين ليكفلوا لأنفسهم
أعظم قدر من الأرباح الطائلة على حساب إحاقة أفدح الأضرار بنا؟ فأين ضمير جلالتكم؟
إنّ الأفيون محرّم في بريطانيا، فلم يهربه البريطانيون إلى الصين وغيرها؟ إنّ
الصين تصدر إلى العالم كل ما هو نافع لشعوبه، فما الداعي لأن يجلب التجار الأجانب
إلى الشعب الصيني كل ما يؤذيه؟ إنّ الصين تزوّد العالم بالشاي والمنسوجات على اختلافها
والمصنوعات الخزفية. في مكنة الصين الاستغناء عن المنتجات الأجنبية لكونها لا تسد
حاجة ملحة للصينيين. لكن البلاد الأخرى لن تستطيع الاستغناء عن المنتجات الصينية.
فلو أقفلت الصين أبوابها في وجه التبادل التجاري الأجنبي، لما أصابها أي ضرر، ولن
تضار سوى البلاد الأخرى. إنّ الحكومة الصينية قد قررت حماية الشعب الصيني من أخطار
الأفيون ففرضت عقوبة الموت على كل من يبيعه أو يستهلكه. وإنني لأناشد جلالتكم
العمل من اجل السلام بين البلدين وان تقوم علاقاتهما على أساس وطيد من المحبة
والمنفعة المتبادلة. وإنني لتوّاق إلى تلقي رسالة منكم تعزز نبل مقاصدكم."
لم تكن الإجابة التي قررت بريطانيا إرسالها إلى المندوب الإمبراطوريّ في
كانتون( أو غْوانْ جو) رسالة خطيّة تستعمل الحبر والفكر والحجّة الناصعة وإنما
كانت رسالة جوابية من حديد ولهيب إذ قررت سيدة المملكة البريطانية بعد أن أهين
أفيونها الإنسانيّ واستبيحت كرامته وحرمته بالاضطهاد والنار أن لا يكون الردّ على
رسالة المندوب الصينيّ النبيلة التي تؤمن بحقّ الإنسان في التمتع ببنية جسدية
وفكرية سليمة إلاّ بمدافع بوارجها الحربية للدفاع عنّ حقّها في بيع الأفيون.يعترف
المؤرّخون النبلاء بأنّ التاريخ لم يشهد ما يماثل "حرب الأفيون" في
الخسّة والنذالة.
ولا تخلو، إلى اليوم، رسائل كثيرة مكتوبة بخطّ بعض الساسة الغربيين من
"استراتيجية الأفيون" وإنْ بنكهة الديمقراطية طوراً، أو نكهة حقوق
الإنسان طوراً آخر. ولا ريب في أنّ أبشع الكلمات التي تثير غيظ الأذن واشمئزازها
هي كلمات الحقّ حين لا تستخدم إلاّ كورقة تغليف لنوايا عاهرة مزركشة الألوان
والغايات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق