الجمعة، 19 فبراير 2016

تْيانْ آنْ مانْ 天安门


لا شكّ في أنّ هناك صورة مبهمة في أذهان الناس عن اللغة الصينيّة. وحين أقول لمن يسألني عن النحْو الصينيّ بأنه بسيط لأنّه لا يتضمّن أشياء كثيرة من تعقيدات النحْو عموماً، والنحْو العربيّ خاصّة، الذي خاطبه مرّة أبو العلاء المعرّي- وهو أحد أسياد العربيّة نثراً وشعراً ونحواً- قائلاً: "يا نحوُ، حُقَّّ لما كُتِبَ منك المحْوُ". ولا أظنّ أنّ أحداً من العقلاء يجرؤ على الشكّ في عروبة أبي العلاء المعرّي أو الطعن في مقدرته اللغويّة الفذّة!
ليس في اللغة الصينية صيغة جمع، أي لا فرق بين المفرد والجمع في التركيب، وهي هنا على نقيض تامّ مع العربية التي لمفردها أكثر من جمع واحد، والتي لها فضلاً عن الجمع ما يعرف بـ "جمْع الجمْع". كما أنها لا تميز بين المذكّر والمؤنث أي أنّ أسماءها تشبه إذا شئت كلمة "الزوج" في العربية التي تعني الرجل طوراً، والمرأة طوراً آخر بحسب جنس المتكلّم، أي أنّ المتكلّم هو الذي يحدّد معنى مفردة "الزوج"، فإن كان الرجل يتحدّث عن زوجه فهذا يعني أنه يتكلّم عن امرأة إلاّ إذا كنّا في بلادٍ تبيح – لا سمح الله- الزواج المثليّ!
ولا تحتاج اللغة الصينيّة إلى تصريف الأفعال، فليس فيها صيغة للدلالة على الحاضر أو الماضي أو المستقبل، ولا تحتاج أيضاً إلى مطابقة الفاعل مع الفعل. إذا أردنا نسج جملة بالعربية، على المنوال الصينيّ، تصبح على سبيل المثال هذه الجملة "الفتيات جاء، والفتيان ذهب" سليمة نحوياً مائة بالمائة وهذا أمر لا يصحّ في العربية، وهو يظهر، بدوره، نسبيّة النحْو. كما أنّه ليس هناك من ارتباط واحد أحد بين اللفظ والمعنى، لا أحد يمكن له أن يقول لك إنّ هذه الكلمة لها هذا المعنى لا غير. ما يحدّد معنى الكلمة في اللغة الصينية هو السياق الذي له سلطان نافذ على دلالة الكلمات، لأنّ الكلمة الواحدة قد تكون فعلاً أو اسماً أو حرفاً بحسب السياق الواردة فيه. وهي لغة تدير ظهرها أيضاً لعلامات التنكير والتعريف لأنّ السياق يتكفّل بالإيضاح.
استنتج البعض حين أخبرته عما لا يوجد من نحوٍ في اللغة الصينية أنّ هذه اللغة خالية من النحْو، وهذا خطأ لأنّ مجرّد استعمال كلمة " لغة" يتضمّن معنى النحو لأنّ النحو هو الذي يضخّ الدم في أوردة اللغات، ولعلّ هذا ما عناه البلاغيّ العربيّ القدير عبد القاهر الجرجاني بمصطلح "النَّظْم" أي النظام في داخل اللغة. اللغة لا تحبّ الفوضى لأنّ في ذلك مقتلها. ومن يقرأ تواريخ صراعات اللغات الدامية التي انقرضت يدرك أنّ جزءاً منها قضى نحبه لأنّ الفوضى دبّت في أوصاله ومفاصله.
ما تبقى من هذا المقال سيكون عن اللغة الصينية المكتوبة وليس المنطوقة بعد الإشارة إلى أنّ اللغة الصينية لا تعتمد في كتابتها على الألفباء كالعربية أو الفرنسية أو الفارسية على سبيل المثال. لا يمكن لك في اللغة الصينية أن تنطق بكلمة لم يسبق لك أن تعلمت كيفية نطقها، وكلّ من يعرف لغة أجنبية ألفبائية يمكنه أن يقرأ كلمة تمرّ أمام عينيه لأوّل مرّة لأنّه يكفي غالباً أن يتبع سلسلة الأصوات المكتوبة ليولد اللفظ على شفتيه، أما في الصينية فالأمر مختلف إذ يستحيل استحالة شبه تامة أن تخرج الكلمة من فمك إن لم يسبق لأذنيك سماعها ولكن من الممكن أن تعرف المعنى لأنّ الكتابة تصويرية، مثلا إذا وقع أمام ناظريك صورة لحيوان لم تره من قبل تعرف أنّه حيوان ولكن لا تعرف اسمه أو النطق به. وهذا حال الصينية في كلمات كثيرة، لأنّها لغةٌ يقوم جزءٌ غالب منها على التصوير، طبعاً ليس التصوير الفوتوغرافيّ، ولكنّه تصوير أشبه بالرسم التجريديّ.
والمدخل إلى تعلم الكتابة الصينية هو معرفة ما يسمى بالمفاتيح( بُوْ شُوّْ)، ولها 214 مفتاحاً، مفتاح الماء ومفتاح العشب ومفتاح الخيزران ومفتاح الكلام وغيرها من المفاتيح. وهنا سأكتفي بقراءة مفردة واحدة من عبارة "تْيان آنْ مانْ " التي تعني ( بوّابة السلام السماويّ)، وهي الساحة الشهيرة في بكين، والمفردة هي "آن" (
) ، ومن خلالها سنرى كيف بَنَتْ الصينية جزءاً من كلماتها المكتوبة، والكتابة هنا كاشفة، في الوقت نفسه، عن طريقة التفكير الصينيّ. إنّ كلمة "آن" ( ) تتألف من عنصرين أو مفتاحين: العنصر الأعلى يدلّ على السقف، وهو يشبه إلى حدّ ما شكل السقف ( ) ، والعنصر الثاني يدلّ على المرأة )(، ولكنّ وجود عنصر المرأة في كلمة لا يعني على الإطلاق أنّ الكلام يتناول المرأة. وحين دمج المفتاحيْن مع بعض يولد معنى هو السلام أو الأمان أو الاستقرار، من أين جاء هذا المعنى؟ من الدلالة التي يحملها وجود المرأة في البيت. ألا نقول إنّ الإنسان المتزوّج يشعر بالاستقرار أكثر من العَزَبِ الذي لا تخلو أبجديّة عمره من حروف القلقلة؟ أليست الزوجة في التفكير العربيّ والإسلاميّ سكن الرجل؟ والسكون وليد السكن والسُّكْنى. أليس السكون الجسديّ هو بدوره سكوناً نفسياً؟ من هنا انبثق من رسم "امرأة" تحت "السقف" ( ) كلمة السلام أو الأمان في الكتابة الصينية. ومن هنا، أيضاً، شعور الصينيّ بأنّ جزءاً من هويته الروحيّة يتجلّى في خطّه التصويريّ المميّز.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق