الثلاثاء، 13 نوفمبر 2012

فكّ وتركيب على الطريقة اليابانية



ثمّة شخصيات في العالم تثير الإعجاب لمقدرتها على تحدّي ضعفها، ولملمة شتات نفسها بغية تحقيق غايات نبيلة، تتعدى حدود شهواتها الذاتية. واستوقفتني شخصية يابانية من عهد باني نهضة اليابان الحديثة الإمبراطور مايجي الذي نقل اليابان في ظرف جيل واحد لا أكثر من حال الأمية والتخلف والتمزّق والمحسوبيات إلى دولة صناعية أدهشت العالم ولا تزال.

والشخصية اسمها "تاكيو أوساهيرا". كانت دولته قد أرسلته في بعثة إلى الغرب ليتابع دراسته في الميكانيكا العلمية في جامعة هامبورغ الألمانيّة، كان "أوساهيرا" يعتبر أنّ المحرّك هو سرّ نهضة الغرب، وسرّ ثورته التكنولوجيّة التي غيّرت مسار العالم. كان كلّ حلمه أن يذهب الى المصنع ليرى عمل المحرّك وكيفية ولادة هذا السرّ إلاّ أنه صدم في السنة الأولى من حياته الجامعية لأن علاقته بالمحرك كانت علاقة نظريّة عن طريق الكتب. كانت الكتب تحول علاقته بالآلة الى علاقة باردة، خالية من صوت المحرّك وحرارته، والعاشق - وهي حال اوساهيرا- لا يرضيه استبدال من يهوى بصورة. كان يثابر على العلم والتهام الكتب إلاّ أن الكتاب وحده لا يفكّ له لغز المحرّك. وبمحض المصادفة قرأ في جريدة خبراً عن معرض لمحركات إيطالية، أخذ راتبه الشهري وذهب إلى المعرض واشترى محركاً بقوة حصانين.حضن المحرك وذهب به إلى غرفته حيث راح يتأمله غير مصدق نفسه انه يمتلك هذا المحرك الذي يحرّك عجلات العالم الحديث.

قال لنفسه هنا يكمن سرّ أوروبا، وحين أتوصّل الى صنع واحد مثله فإنّ اليابان لن تبقى على ما هي عليه. مصير اليابان متوقّف على سبر سرّ المحرّك وليس مصيري الشخصيّ فقط.  كان وهو يرى المحرك لا يفكر بفرحه الذاتي وانما بالخدمة الجلّى التي سوف يقدمها لليابان. كيف يعرف انه يعرف التعامل مع هذا المحرك؟ اعتمد على أسلوب الفكّ والتركيب. راح يفكّ المحرّك قطعة قطعة ومع فكّ كل قطعة كان يتناول ورقة ويقوم بكتابة اسمها بعد ان يضع لها رقما متسلسلا خاصّا. تطلب العمل منه ثلاثة ايام بلياليها إذ كان بالكاد ينام، ويكتفي بوجبة واحدة من الطعام. في أي حال، الفرح كما الحزن يقلّصان من سلطان الجوع. ينسيان المرء أن ثمة معدة تحتاج لطعام، وكأنّ المشاعرالقصوى قادرة على سدّ مسدّ الحاجات المادية للجسد.

حين انتهى من تركيب المحرك أعاد تشغيله وإذ به يعمل وكأنْ لم تلعب به يد. ذهب فرحا إلى رئيس بعثته ليخبره بانجازه. لم يكن جواب رئيس البعثة تعجباً أو تهنئة على مهارة الطالب وانما قال له: سآتيك غداً بمحرّك معطّل وعليك إصلاحه. لا شكّ في أن التجربة الثانية أقسى، إنها اختبار تقبله الطالب بسرور وافتتان، إنها فرصة ذهبية لترسيخ معرفته النظرية، وإعادة الحياة إلى محرّك لفظ أنفاسه المعدنيّة. انغمس أوساهيرا في العمل وراح يقوم، بجلد عجيب وبشغف يشبه شغف الأطفال، بفكّ المحرك قطعة قطعة، وقام كما في أوّل مرة بكتابة اسم القطعة المفكوكة وإعطائها رقما خاصّا، فتفكيك محرك كان بالنسبة له أشبه بالسير في حقل من الألغام يتطلب أناة ويقظة. اكتشف وجود ثلاث قطع تالفة، وهنا توقّف عن متابعة دراسته الأكاديمية والتحق بمصنع لصهر الحديد بغية عمل القطع التالفة بيديه. استغرق منه إصلاح المحرّك أسبوعا كاملا. ظلّ أوساهيرا يعمل في المصنع لمدة ثماني سنوات بمعدل خمس عشرة ساعة عمل في اليوم. وكان ينتهز ساعات الليل لمراجعة قواعد كل صناعة. ويبدو ان المشرف على البعثة اخبر الإمبراطور بنشاط هذا الطالب الفائض فمنحه الإمبراطور هدية نقدية هي خمسة آلاف جنيه ذهبيّ.

عاد الطالب الى اليابان بعد ان اشترى بالهدية الإمبراطورية معدات وأدوات للبدء بمشروعه الصناعيّ. قيل له إن الإمبراطور يريد رؤيتك. ولكنّه أجاب: لا أستحقّ مقابلة الإمبراطور قبل إنشاء مصنع محركات.

وبعد تسع سنوات من العمل المتواصل انجز عشر محركات عرضها في قاعة خاصة في قصرالامبراطور ثم شغّلها بانتظار أن يرى الامبراطور ما قام به أوساهيرا من إنجازات صناعية. وحين دخل الإمبراطور إلى قاعة العرض وسمع أصوات المحركات ابتسم قائلاً:" هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة". وكانت محرّكات أوساهيرا هي أوّل ما يخرج من رحم الصناعة اليابانية.

يقول تاكيو أوساهيرا: عدت، بعد أن انفضّ الحفل، إلى البيت ونمت عشر ساعات كاملة وكانت هي المرّة الأولى التي أنام فيها هذا الكمّ من الوقت منذ خمس عشرة سنة. نام أكثر من المعتاد وليوم واحد فقط لأنّه اطمأنّ الى أنّ عجلة التقدم اليابانية لا يستطيع أن يوقفها ولا حتى إلقاء قنبلة نووية أميركية حمقاء على مدينة هيروشيما.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق