قال جالينوس العشق من فعل النفس وهي كامنة في
الدماغ والقلب والكبد وفي الدماغ ثلاثة مساكن التَّخييل وهو في مقدم الرأس والفكر
وهو في وسطه والذِّكر وهو في مؤخره وليس يكمل لأحدٍ اسم عاشق إلاَّ حتَّى إذا فارق
من يعشقه لم يخلُ من تخييله وفكره وذكره وقلبه وكبده فيمتنع عن الطعام والشراب
باشتغال الكبد ومن النوم باشتغال الدماغ والتَّخييل والذِّكر له والفكر فيه فيكون
جميع مساكن النفس قد اشتغلت به فمتى لم يشتغل به وقت الفراق لم يكن عاشقاً فإذا
لقيه خلت هذه المساكن ولعمري لقد أحسن فيما وصف واحتجَّ لما قال فانتصف غير أَنه
ذكر حال العشق وحده وترك ذكر أحوال ما قبله وأحوال ما بعده وذلك أنَّ الأحوال
الَّتي تتولد عن السماع والنظر مختلفة في باب العظم والصِّغر ولها مراتب فأول ما
يتولد عن النظر والسماع الاستحسان ثمَّ يقوى فيصير مودَّة والمودَّة سبب الإرادة
فمن ودَّ إنساناً ودَّ أن يكون له خلاًّ ومن ودَّ غرضاً ودَّ أن يكون له مُلكاً
ثمَّ تقوى المودَّة فتصير محبَّة والمحبَّة سبباً للطاعة.
وفي ذلك يقول محمد الوراق:
ثمَّ تقوى المحبَّة فتصير خُلَّة والخلَّة بين الآدميين أن تكون محبَّة أحدهما قد تمكَّنت من صاحبه حتَّى أسقطت السرائر بينه وبينه فصار متخلِّلاً لسرائره ومطَّلعاً على ضمائره.
ولعمري إنَّ هذا لمن نفيس الكلام غير أنَّ في البيت ضعفاً وذلك أنَّه جعل سبب تمكُّن الهوَى من قلبه أنَّه صادفه خالياً لم يسبقه إليه غيره وليست هذه من أحوال أهل التَّمام إذ كلُّ من صادف محلا لا يدافع عنه لم يتعذر عليه طريق التَّمكُّن منه.
وقد قال بعض أهل هذا العصر:
فالمحبَّة ما دامت لهواً ونظراً فهي عذبة المبتدأ سريعة الانقضاء فإذا وقعت مرتَّبة على التَّمام في المصافاة تعذَّرت قدرة القلب على هواه فحينئذ تضلُّ أفهام المتميزين وتبطل حيل المتفلسفين.
وفي نحو ذلك يقول بعض الظرفاء:
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى لامرأة من قيس:
وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
وقال أبو دلف:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال النابغة الذبياني:
وأنشدتني أعرابية بالبادية:
وقال آخر:
وقال ماني:
وقال غيره وهو مجنون بني عامر:
قالت مريم فسألتها عن خَبالها فقالت كنت أهوى ابن عمٍ لي ففطن بي بعض أهلي فسقوني وإيَّاه شيئاً فسلا كل واحد منا عن صاحبه وهذه حالٌ قلَّ ما يقع مثلها وهي ألطف محلاًّ من كل ما ذكرناه وما نذكره بعدها لأنّا إنَّما نصف من آثر المقام مع من يهواه على السلوّ عنه والرَّاحة من أذاه وهو بعد مقيمٌ في هواه وصاحبة هذا البيت قد سلت عن محبوبها وإنَّما تأسَّى على العشق لا على المعشوق وفي مثل هذا المعنى يقول بعض الهذليين:
ولقد أحسن الوليد بن عبيد حيث يقول:
وأحسن الَّذي يقول:
وأحسن أيضاً الَّذي يقول:
وأنشدني أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار لجميل بن معمر:
وهذا المعنى الَّذي في البيت الثاني داخل فيما عينَّاه من أنَّ من أقبل على من يهواه ما دام مفتقراً إليه فليست له في ذلك منَّةٌ عليه وحدثني أبو العباس أحمد بن يحيى النَّحويّ عن أبي سعيد عن القرويّ قال حدثني أخي عمران بن موسى قال أخبرني بعض أصحابنا أنَّ المجنون لما تغوَّل كان لا يؤخذ منه الشعر إلاَّ أن يجلس الرجل قريباً منه فينشد النَّسيب فيرتاح إليه فإذا سمع ذلك أنشد قال فجلس إلى جنبه رجلٌ فأنشده بيتاً من النَّسيب فقال ما أحسن هذا ثمَّ أنشده:
وأنشدني بعض الأدباء للمجنون أيضاً:
وأنشدني بعض الكتاب لنفسه:
وفي ذلك يقول محمد الوراق:
تعصِي الإلهَ وأنتَ تُظهرُ حبَّهُ | هذا محالٌ في القياسِ بديعُ | |
لو كانَ حبُّكَ صادقاً لأَطعتَـهُ | إنَّ المحبَّ لمنْ أحبَّ مُطيعُ |
ثمَّ تقوى المحبَّة فتصير خُلَّة والخلَّة بين الآدميين أن تكون محبَّة أحدهما قد تمكَّنت من صاحبه حتَّى أسقطت السرائر بينه وبينه فصار متخلِّلاً لسرائره ومطَّلعاً على ضمائره.
وفي هذا النحو يقول بعض أهل هذا العصر:
وقد أنشدنا لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في هذا النحو:
أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى:
وفي مثل هذا المعنى يقول أبو الشيص:
ولبعض أهل هذا العصر في هذا المعنى:
وقد قال حبيب بن أوس الطائي في نحو هذا:
وفي مثل ذلك يقول يزيد بن الطثرية:
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهلْ كنتُ إلاَّ مُعمَداً قانطَ الهوَى | أسرَّ فلمَّا قادهُ الشَّوقُ أعـلَـنـا | |
أتانِي هواها قبلَ أنْ أعرفَ الهوَى | فصادفَ قلبِي خالياً فتمـكَّـنـا |
ولعمري إنَّ هذا لمن نفيس الكلام غير أنَّ في البيت ضعفاً وذلك أنَّه جعل سبب تمكُّن الهوَى من قلبه أنَّه صادفه خالياً لم يسبقه إليه غيره وليست هذه من أحوال أهل التَّمام إذ كلُّ من صادف محلا لا يدافع عنه لم يتعذر عليه طريق التَّمكُّن منه.
وقد قال بعض أهل هذا العصر:
وقدْ كانَ يسبِي القلبَ في كـلِّ لـيلةٍ | ثمانونَ بلْ تسعونَ نفسـاً وأرجـحُ | |
يهيمُ بـهـذا ثـمَّ يعـشـقُ غـيرهُ | ويسلاهمُ مِنْ فورهِ حينَ يصـبـحُ | |
وكانَ فؤادِي صاحياً قبلَ حـبِّـكـمُ | وكانَ بحبِّ الخلقِ يلهُـو ويمـزحُ | |
فلمَّا دعَا قلـبِـي هـواكَ أجـابـهُ | فلسـتُ أراهُ عـنْ ودادكَ يبـرحُ | |
رُميتُ بهجرٍ منكَ إنْ كنتُ كـاذبـاً | وإنْ كنتُ في الدُّنيا بغيركَ أفـرحُ | |
وإنْ كانَ شيءٌ في البلادِ بأسـرِهـا | إذا غبتَ عنْ عينيَّ عندِي يمـلـحُ | |
فإنْ شئتَ واصِلْنِي وإنْ شئتَ لمْ تصلْ | فلستُ أرَى قلبِي لغيركَ يصـلـحُ |
فالمحبَّة ما دامت لهواً ونظراً فهي عذبة المبتدأ سريعة الانقضاء فإذا وقعت مرتَّبة على التَّمام في المصافاة تعذَّرت قدرة القلب على هواه فحينئذ تضلُّ أفهام المتميزين وتبطل حيل المتفلسفين.
وفي نحو ذلك يقول بعض الظرفاء:
طوَى شَجَنا في الصَّدرِ فالدَّمعُ ناشرُهْ | فإنْ أنتَ لمْ تعذرهُ فالشَّوقُ عـاذرُهْ | |
هوًى عذبتْ مـنـهُ مـواردُ بـدرهِ | فلمَّا نمَى أعيتْ عليهِ مـصـادرُهْ |
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى لامرأة من قيس:
وما كيِّسٌ في النَّاسِ يُحمـدُ رأيهُ | فيوجدُ إلاَّ وهوَ في الحبِّ أحمقُ | |
وما مِنْ فتًى ما ذاقَ بؤسَ معيشةٍ | فيعشقُ إلاَّ ذاقَها حينَ يعـشـقُ |
وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
ورمَى الهوَى منَّا القلوبَ بأسهمٍ | رميَ الكُماةِ مَقاتلَ الأعـداءِ | |
ومنَ العجائبِ قتلهُ لكرامِـنَـا | وشِدادِنا بمكائدِ الضُّـعـفـاءِ |
وقال أبو دلف:
الحربُ تضحكُ عنْ كرِّي وإقدامِي | والخيلُ تعرفُ آثارِي وأقدامِـي | |
سيفِي مدامِي ورَيْحانِي مُـثـقـفةٌ | وهمَّتي مِقَةُ التَّقصيمِ لـلـهـامِ | |
وقدْ تجرَّدَ لي بالحسنِ مُـنـفـرداً | أمضَى وأشجعُ منِّي يومَ إقدامِي | |
سلَّتْ لواحظهُ سيفَ السَّقامِ علَـى | جسمِي فأصبحَ جسمِي رَبعَ أسقامِ |
وقال آخر:
ألا قاتلَ اللهُ الهـوَى كـيفَ يقـتـلُ | وكيفَ بأكبادِ المحـبِّـينَ يفـعـلُ | |
فلا تعذُلنِّي فـي هـوايَ فـإنَّـنـي | أرَى سَورةَ الأبطالِ في الحبِّ تبطلُ |
وقال آخر:
الحبُّ يتركُ مَنْ أحبَّ مـدَلَّـهـاً | حيرانَ أوْ يقضِي عليهِ فيسرعُ | |
الحـبُّ أهـونـهُ شـديدٌ فـادحٌ | يهنُ القويَّ منَ الرِّجالِ فيصرعُ | |
مَنْ كانَ ذا حزمٍ وعزمٍ في الهوَى | وشجاعةٍ فالحبُّ منهُ أشـجـعُ |
وقال النابغة الذبياني:
لوْ أنَّها عرضتْ لأشمطَ راهـبٍ | يدعُو الإلهَ صرورةٍ مُتـعـبِّـدِ | |
لرَنَا لبهجتِها وحسنِ حـديثِـهـا | ولخالَهُ رشَـداً وإنْ لـمْ يرشـدِ | |
أسعُ الـبـلادَ إذا أتـيتـكِ زائراً | وإذا هجرتكِ ضاقَ عنِّي مَقعدِي |
وأنشدتني أعرابية بالبادية:
تبصَّرْ خليلِي هلْ ترَى بينَ وائشٍ | وبينَ أحَيٍّ مِنْ ظعائنَ كالأثْـلِ | |
ظعائنُ يَسلبنَ الفتَى الغرَّ عقلـهُ | وذا الأهلِ حتَّى لا يُبالِيَ بالأهلِ |
وقال آخر:
أروحُ ولمْ أُحدثْ للـيلـى زيارةً | لبئسَ إذاً راعِي المودَّةِ والوصلِ | |
ترابٌ لأهلِي لا ولا نعمةٌ لـهـمْ | لشدَّ إذنْ ما قدْ تعبَّدنِي أهـلِـي |
وقال ماني:
مُكتئبٌ ذُو كـبـدٍ حـرَّى | تبكِي عليهِ مقلةٌ عبـرَى | |
يرفعُ يمنـاهُ إلـى ربِّـهِ | يدعُو وفوقَ الكبدِ اليسرَى | |
يبقَى إذا كلَّمتهُ بـاهـتـاً | ونفسهُ ممَّا بهِ سـكـرَى | |
تحسبهُ مُستمعاً نـاصـتـاً | وقلبهُ فـي أُمَّةٍ أُخـرَى |
وقال غيره وهو مجنون بني عامر:
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قالت مريم فسألتها عن خَبالها فقالت كنت أهوى ابن عمٍ لي ففطن بي بعض أهلي فسقوني وإيَّاه شيئاً فسلا كل واحد منا عن صاحبه وهذه حالٌ قلَّ ما يقع مثلها وهي ألطف محلاًّ من كل ما ذكرناه وما نذكره بعدها لأنّا إنَّما نصف من آثر المقام مع من يهواه على السلوّ عنه والرَّاحة من أذاه وهو بعد مقيمٌ في هواه وصاحبة هذا البيت قد سلت عن محبوبها وإنَّما تأسَّى على العشق لا على المعشوق وفي مثل هذا المعنى يقول بعض الهذليين:
إذا ما سألتُـكَ وعْـداً تُـريحُ | بهِ مُهجتي فأنا المُستـريحُ | |
فلا تُعطني الوعدَ خوفَ السُّلوِّ | فإنِّي علَى حسراتي شحـيحُ | |
أحَبُّ إليَّ من الصَّبرِ عـنـكَ | فُؤادٌ قريحٌ وقلـبٌ جـريحُ |
ولقد أحسن الوليد بن عبيد حيث يقول:
ويُعجبني فَقري إلـيكَ ولـمْ يكـنْ | لِيُعجبني لولا محبَّتكَ الـفَـقـرُ | |
وما ليَ عذرٌ في جُحودكَ نـعـمةً | ولو كان لي عذرٌ لما حسُنَ العذرُ |
وأحسن الَّذي يقول:
وما سرَّني أنِّي خليٌّ مِـنَ الـهـوَى | علَى أنَّ لي ما بينَ شرقٍ إلى غربِ | |
فإنْ كانَ هذا الحبُّ ذنـبـي إلـيكُـمُ | فلا غفرَ الرَّحمانُ ذلكَ مـن ذنـبِ |
وأحسن أيضاً الَّذي يقول:
أحببتُ قلبي لمَّا أحـبَّـكـمُ | وصارَ رأيي لِرأيهِ تبعـا | |
ورُبَّ قلبٍ يقولُ صاحبـهُ | تَعْساً لقلبي فبئسَ ما صنعا |
وأنشدني أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار لجميل بن معمر:
خليليَّ فيما عِشتما هـلْ رأيتُـمـا | قتيلاً بكى من حبِّ قاتلهِ قبلـي | |
فلوْ تركتْ عقلي معي ما تبعتُهـا | ولكنْ طِلابيها لما فاتَ من عقلي |
وهذا المعنى الَّذي في البيت الثاني داخل فيما عينَّاه من أنَّ من أقبل على من يهواه ما دام مفتقراً إليه فليست له في ذلك منَّةٌ عليه وحدثني أبو العباس أحمد بن يحيى النَّحويّ عن أبي سعيد عن القرويّ قال حدثني أخي عمران بن موسى قال أخبرني بعض أصحابنا أنَّ المجنون لما تغوَّل كان لا يؤخذ منه الشعر إلاَّ أن يجلس الرجل قريباً منه فينشد النَّسيب فيرتاح إليه فإذا سمع ذلك أنشد قال فجلس إلى جنبه رجلٌ فأنشده بيتاً من النَّسيب فقال ما أحسن هذا ثمَّ أنشده:
عجبتُ لِذاكَ عُروةَ كيفَ أضحى | أحاديثاً لـقـومٍ بـعـدَ قـومِ | |
وعروةُ ماتَ موتاً مُستـريحـاً | وها أنـذا أمـوَّتُ كُـلَّ يومِ |
وأنشدني بعض الأدباء للمجنون أيضاً:
أراني إذا صلَّيتُ يمَّمْتُ نحـوهـا | أمامي وإنْ كانَ المصلَّـى ورائيا | |
وما بيَ إشراكٌ ولكـنَّ حـبَّـهـا | مكانَ الشَّجى أعْيا الطَّبيبَ المُداويا | |
أُصلِّي فما أدري إذا ما ذكرتـهـا | أثنْتَيْنِ صلَّيتُ الضُّحى أمْ ثمـانـيا | |
وما جئْتها أبغي شفائي بـنـظـرةٍ | فأبصرتُها إلاَّ انصرفـتُ بـدائيا |
وأنشدني بعض الكتاب لنفسه:
ولي فؤادٌ إذا طالَ السَّقامُ بـهِ | هامَ اشتياقاً إلى لُقيا مُعذِّبـهِ | |
يفديكَ بالنَّفس صبٌّ لو يكونُ لهُ | أعزُّ من نفسهِ شيءٌ فداكَ بهِ |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق