الأحد، 3 مارس 2013

الباب الثاني من كتاب الزهرة(2)

قال جالينوس العشق من فعل النفس وهي كامنة في الدماغ والقلب والكبد وفي الدماغ ثلاثة مساكن التَّخييل وهو في مقدم الرأس والفكر وهو في وسطه والذِّكر وهو في مؤخره وليس يكمل لأحدٍ اسم عاشق إلاَّ حتَّى إذا فارق من يعشقه لم يخلُ من تخييله وفكره وذكره وقلبه وكبده فيمتنع عن الطعام والشراب باشتغال الكبد ومن النوم باشتغال الدماغ والتَّخييل والذِّكر له والفكر فيه فيكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به فمتى لم يشتغل به وقت الفراق لم يكن عاشقاً فإذا لقيه خلت هذه المساكن ولعمري لقد أحسن فيما وصف واحتجَّ لما قال فانتصف غير أَنه ذكر حال العشق وحده وترك ذكر أحوال ما قبله وأحوال ما بعده وذلك أنَّ الأحوال الَّتي تتولد عن السماع والنظر مختلفة في باب العظم والصِّغر ولها مراتب فأول ما يتولد عن النظر والسماع الاستحسان ثمَّ يقوى فيصير مودَّة والمودَّة سبب الإرادة فمن ودَّ إنساناً ودَّ أن يكون له خلاًّ ومن ودَّ غرضاً ودَّ أن يكون له مُلكاً ثمَّ تقوى المودَّة فتصير محبَّة والمحبَّة سبباً للطاعة.
وفي ذلك يقول محمد الوراق:


تعصِي الإلهَ وأنتَ تُظهرُ حبَّهُ هذا محالٌ في القياسِ بديعُ
لو كانَ حبُّكَ صادقاً لأَطعتَـهُ إنَّ المحبَّ لمنْ أحبَّ مُطيعُ

ثمَّ تقوى المحبَّة فتصير خُلَّة والخلَّة بين الآدميين أن تكون محبَّة أحدهما قد تمكَّنت من صاحبه حتَّى أسقطت السرائر بينه وبينه فصار متخلِّلاً لسرائره ومطَّلعاً على ضمائره.



وفي هذا النحو يقول بعض أهل هذا العصر:

فلا تهجرْ أخاكَ بغـيرِ ذنـبٍ فإنَّ الهجرَ مفتاحُ الـسُّـلـوِّ
إذا كتمَ الخـلـيلُ أخـاهُ سـرّاً فما فضلُ الصَّديقِ علَى العدوِّ
ويقال إنَّ الخلَّة بين الآدميين مأخوذة من تخلُّل المودَّة بين اللَّحم والعظم واختلاطهما بالمخ والدم وهذا المعنى غير مخالف للأول بل هو أوضح سبب له لأن من حلَّ من النفس هذا المحل لم يستبدَّ عنه بأمر ولم يستظهر عليه بسرّ.
وقد أنشدنا لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في هذا النحو:

تغلغلَ حبُّ عَثمةَ في فؤادِي فباديهِ معَ الخافِي يسـيرُ
تغلغلَ حيثُ لمْ يبلغْ شرابٌ ولا حزنٌ ولمْ يبلغْ سرورُ
ثمَّ تقوى الخلَّة فتوجب الهوَى والهوَى اسم لانحطاط المحب في مَحابِّ المحبوب وفي التوصُّل إليه بغير تمالك ولا ترتيب.
أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى:

وإنَّ امرءاً يهوِي إلـيكِ ودونـهُ منَ الأرضِ مَوْماةٌ وبيداءُ خَيْفقُ
لمحقوقةٌ أنْ تستجيبي لصـوتـهِ وإنْ تعلَمِي إنَّ المعينَ موفَّـقُ
ثمَّ تقوى الحال فيصير عشقاً والعاشق يمنعه من سرعة الانحطاط في هوى معشوقه إشفاقه عليه وضنُّه به حتَّى أنَّ إبقاءه عليه ليدعوه إلى مخالفته وترك الإقبال عليه فمن النَّاس من يتوهَّم لهذه العلَّة أنَّ الهوَى أتمُّ من العشق وليس الأمر كذلك ثمَّ يزداد العشق فيصير تتْيِيماً وهو أن تصير حال المعشوق مستوفية للعاشق فلا يكون فيه معها فضل لغيرها ولا يزيد بقياسه شيئاً إلاَّ وجدته متكاملاً فيها.
وفي مثل هذا المعنى يقول أبو الشيص:

وقفَ الهوَى بِي حيثُ أنتِ فليسَ لِي مُتأخَّـرٌ عـنـهُ ولا مُـتـقـدَّمُ
أجدُ المـلامةَ فـي هـواكِ لـذيذةً حبّاً لذكركِ فليلُمْـنِـي الـلُّـوَّمُ
أشبهتِ أعدائِي فصرتُ أُحـبُّـهـمْ إذ كانَ حظِّي منكِ حظِّي منهـمُ
وأَهنتِنِي فأهنتُ نفسِـي جـاهـداً ما مَنْ يهونُ عليكِ ممَّـنْ أُكـرمُ
ولو لم يقل أبو الشيص في عمره بل لو لم يقل أحد من أهل عصره غير هذه الأربعةِ الأبيات لكانوا مقصرين وإذا كانت كل خواطر العشَّاق فيما يتمنَّاه واقعة ممَّن يهواه على الأمر الَّذي يرضاه فهذه في المشاكلة الطبيعية الَّتي لا يفنيها مرُّ الزَّمان ولا تزول إلاَّ بزوال الإنسان وإذا صحَّ هذا المذهب لم يعجب من أن يميل الإنسان إلى الإنسان بخلَّة أوْ خلَّتين فإذا زالت العلَّة زال الهوَى فلا يزال المرابط متنقِّلاً إلى أن يصادف من يجتمع فيه هواه فحينئذ يرضاه فلا ينعطف عنه إلى أحد سواه.
ولبعض أهل هذا العصر في هذا المعنى:

أيا زاعماً أنِّي لهُ غيرُ خـالـصِ وأنِّي موقوفٌ علَى كلِّ قانـصِ
كمَا أنتَ فانظرْ في وفائكَ خالصاً تراهُ لمنْ يهواكَ أمْ غيرَ خالصِ
فحينئذٍ فارجعْ بما تسـتـحـقُّـهُ عليَّ وطالبني إذاً بالنَّـقـائصِ
سأعرضُ نفسِي يمـنةً وشـآمةٌ علَى كلِّ ثاوٍ في البلادِ شاخصِ
إلى أن أرَى شكلاً يصونُ مودَّتِي فحينئذٍ أغلُو علَى كلِّ غـائصِ
أمثلِي يخونُ العهدَ عنْ غيرِ حادثٍ رمانِي إذاً ربي بحتفٍ مُغافصِ
ثمَّ يزداد التَّتييم فيصير ولهاً والوله هو الخروج عن حدود الترتيب والتَّعطُّل عن أحوال التَّمييز حتَّى تراه يطلب ما لا يرضاه ويتمنَّى ما لا يهواه ثمَّ لا يحتذي مع ذلك مثالاً ولا يستوطن حالاً.
وقد قال حبيب بن أوس الطائي في نحو هذا:

ولَّهَتهُ العُلى فليسَ يعـدُّ ال بؤسَ بؤساً ولا النَّعيمَ نعيماً
والشَّوق تابع لكلِّ واحدة من هذه الأحوال والمستحسن يشتاق إلى ما يستحسنه على قدر محلِّه من نفسه ثمَّ كلَّما قويت الحال قوي معها الاشتياق فالحبّ وما أشبهه يتهيَّأ كتمانه فإذا بلغت الاشتياق بطل الكتمان.
وفي مثل ذلك يقول يزيد بن الطثرية:

أعِيبُ الَّذي أهوَى وأُطرِي جوارياً يرينَ لها فضلاً عليهـنَّ بـيِّنـا
برغمِي أُطيلُ الصَّدَّ عنها إذا بدتْ أُحاذرُ أسماعاً عليهـا وأعـيُنـا
فدْ غضبتْ أنْ قلتُ أنْ ليس حاجتِي إليها وقالتْ لمْ يُردْ أنْ يحـبَّـنـا

وهلْ كنتُ إلاَّ مُعمَداً قانطَ الهوَى أسرَّ فلمَّا قادهُ الشَّوقُ أعـلَـنـا
أتانِي هواها قبلَ أنْ أعرفَ الهوَى فصادفَ قلبِي خالياً فتمـكَّـنـا

ولعمري إنَّ هذا لمن نفيس الكلام غير أنَّ في البيت ضعفاً وذلك أنَّه جعل سبب تمكُّن الهوَى من قلبه أنَّه صادفه خالياً لم يسبقه إليه غيره وليست هذه من أحوال أهل التَّمام إذ كلُّ من صادف محلا لا يدافع عنه لم يتعذر عليه طريق التَّمكُّن منه.
وقد قال بعض أهل هذا العصر:


وقدْ كانَ يسبِي القلبَ في كـلِّ لـيلةٍ ثمانونَ بلْ تسعونَ نفسـاً وأرجـحُ
يهيمُ بـهـذا ثـمَّ يعـشـقُ غـيرهُ ويسلاهمُ مِنْ فورهِ حينَ يصـبـحُ
وكانَ فؤادِي صاحياً قبلَ حـبِّـكـمُ وكانَ بحبِّ الخلقِ يلهُـو ويمـزحُ
فلمَّا دعَا قلـبِـي هـواكَ أجـابـهُ فلسـتُ أراهُ عـنْ ودادكَ يبـرحُ
رُميتُ بهجرٍ منكَ إنْ كنتُ كـاذبـاً وإنْ كنتُ في الدُّنيا بغيركَ أفـرحُ
وإنْ كانَ شيءٌ في البلادِ بأسـرِهـا إذا غبتَ عنْ عينيَّ عندِي يمـلـحُ
فإنْ شئتَ واصِلْنِي وإنْ شئتَ لمْ تصلْ فلستُ أرَى قلبِي لغيركَ يصـلـحُ

فالمحبَّة ما دامت لهواً ونظراً فهي عذبة المبتدأ سريعة الانقضاء فإذا وقعت مرتَّبة على التَّمام في المصافاة تعذَّرت قدرة القلب على هواه فحينئذ تضلُّ أفهام المتميزين وتبطل حيل المتفلسفين.
وفي نحو ذلك يقول بعض الظرفاء:


طوَى شَجَنا في الصَّدرِ فالدَّمعُ ناشرُهْ فإنْ أنتَ لمْ تعذرهُ فالشَّوقُ عـاذرُهْ
هوًى عذبتْ مـنـهُ مـواردُ بـدرهِ فلمَّا نمَى أعيتْ عليهِ مـصـادرُهْ

وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى لامرأة من قيس:

وما كيِّسٌ في النَّاسِ يُحمـدُ رأيهُ فيوجدُ إلاَّ وهوَ في الحبِّ أحمقُ
وما مِنْ فتًى ما ذاقَ بؤسَ معيشةٍ فيعشقُ إلاَّ ذاقَها حينَ يعـشـقُ

وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:

ورمَى الهوَى منَّا القلوبَ بأسهمٍ رميَ الكُماةِ مَقاتلَ الأعـداءِ
ومنَ العجائبِ قتلهُ لكرامِـنَـا وشِدادِنا بمكائدِ الضُّـعـفـاءِ

وقال أبو دلف:

الحربُ تضحكُ عنْ كرِّي وإقدامِي والخيلُ تعرفُ آثارِي وأقدامِـي
سيفِي مدامِي ورَيْحانِي مُـثـقـفةٌ وهمَّتي مِقَةُ التَّقصيمِ لـلـهـامِ
وقدْ تجرَّدَ لي بالحسنِ مُـنـفـرداً أمضَى وأشجعُ منِّي يومَ إقدامِي
سلَّتْ لواحظهُ سيفَ السَّقامِ علَـى جسمِي فأصبحَ جسمِي رَبعَ أسقامِ

وقال آخر:

ألا قاتلَ اللهُ الهـوَى كـيفَ يقـتـلُ وكيفَ بأكبادِ المحـبِّـينَ يفـعـلُ
فلا تعذُلنِّي فـي هـوايَ فـإنَّـنـي أرَى سَورةَ الأبطالِ في الحبِّ تبطلُ

وقال آخر:

الحبُّ يتركُ مَنْ أحبَّ مـدَلَّـهـاً حيرانَ أوْ يقضِي عليهِ فيسرعُ
الحـبُّ أهـونـهُ شـديدٌ فـادحٌ يهنُ القويَّ منَ الرِّجالِ فيصرعُ
مَنْ كانَ ذا حزمٍ وعزمٍ في الهوَى وشجاعةٍ فالحبُّ منهُ أشـجـعُ

وقال النابغة الذبياني:

لوْ أنَّها عرضتْ لأشمطَ راهـبٍ يدعُو الإلهَ صرورةٍ مُتـعـبِّـدِ
لرَنَا لبهجتِها وحسنِ حـديثِـهـا ولخالَهُ رشَـداً وإنْ لـمْ يرشـدِ
أسعُ الـبـلادَ إذا أتـيتـكِ زائراً وإذا هجرتكِ ضاقَ عنِّي مَقعدِي

وأنشدتني أعرابية بالبادية:

تبصَّرْ خليلِي هلْ ترَى بينَ وائشٍ وبينَ أحَيٍّ مِنْ ظعائنَ كالأثْـلِ
ظعائنُ يَسلبنَ الفتَى الغرَّ عقلـهُ وذا الأهلِ حتَّى لا يُبالِيَ بالأهلِ

وقال آخر:

أروحُ ولمْ أُحدثْ للـيلـى زيارةً لبئسَ إذاً راعِي المودَّةِ والوصلِ
ترابٌ لأهلِي لا ولا نعمةٌ لـهـمْ لشدَّ إذنْ ما قدْ تعبَّدنِي أهـلِـي

وقال ماني:

مُكتئبٌ ذُو كـبـدٍ حـرَّى تبكِي عليهِ مقلةٌ عبـرَى
يرفعُ يمنـاهُ إلـى ربِّـهِ يدعُو وفوقَ الكبدِ اليسرَى
يبقَى إذا كلَّمتهُ بـاهـتـاً ونفسهُ ممَّا بهِ سـكـرَى
تحسبهُ مُستمعاً نـاصـتـاً وقلبهُ فـي أُمَّةٍ أُخـرَى

وقال غيره وهو مجنون بني عامر:



وشُغلتُ عنْ فهمِ الحديثِ سوَى ما كانَ فيكِ وحبُّكمْ شُغلِـي
وأديمُ نحوَ مُحدِّثي نـظَـرِي أنْ قدْ فهمتُ وعندكمْ عقلِي
وقال آخر:
مَنْ كانَ لمْ يدرِ ما حبٌّ وصفتُ لهُ إنْ كانَ في غفلةٍ أوْ كانَ لمْ يجدِ
الـحـبُّ أوَّلـهُ روعٌ وآخــرهُ مثلُ الحرارةِ بينَ القلبِ والكبـدِ
وقال الحسين بن مطير الأسدي وهو من جيد ما قيل في معناه:
قضَى اللهُ يا أسمـاءُ أنْ لـسـتُ زائلاً أُحبُّكِ حتَّى يغمضَ العينَ مُغـمـضُ
فحبُّكِ بـلـوَى غـيرَ أنْ لا يسـرُّنـي وإنْ كانَ بلوَى أنَّني لكِ مُـبـغـضُ
إذا ما صرفتُ القلبَ في حبِّ غيرِهـا إذاً حبُّـهـا مِـنْ دونـهِ يتـعـرَّضُ
فيا ليتَني أقرضتُ جَلداً صـبـابَـتـي وأقرَضَني صبراً علَى الشَّوقِ مُقرضُ
أما قوله فحبُّك بلوَى فكلام قبيح المعنى وذلك أنَّه كان صادقاً في هواها مختاراً لها على ما سواها فقد أتى على نفسه إذ جعل اختياره مضرّاً بقلبه وإن كان لم يدخل في الهوَى مختاراً وإنَّما وقع به اضطراراً فقد أخطأ إذ سمَّى ما هو موجودٌ في طبعه مفارقٌ لنفسه باسم البلوى الَّتي تعرض له وتنصرف عنه وأمَّا إخباره بأنَّه لا يسرُّ بأن يكون مبغضاً لها فكلامٌ لو سكت عنه كان أولى أو أن يكفّه أنَّه مُبتلًى عند نفسه بهواها حتَّى يريد مع ذلك أن يكون مبغضاً مائلاً إلى سواها غير أنِّي أرجع إلى من ملكه الإشفاق وغلب على قلبه الاشتياق عذراً بأن يُظهر ما يضمر سواه ويتمنَّى لنفسه غير ما يهواه ألم يسمع الَّذي يقول:
مِنْ حبِّها أتمنَّى أنْ يُلاقـينِـي مِنْ نحوِ بلدتِها ناعٍ فينْعَـاهـا
كيْما أقولَ فراقٌ لا التقاءَ لـهُ وتُضمرُ النَّفسُ يأساً ثمَّ تسلاها
وهذا لعمري سرفٌ شديد وطريق الاعتذار لقائله بعيد وأقرب منه قول أبي الوليد بن عبيد الطائي:
مُقيمٌ بأكنافِ المصلَّى تصيدُنـي لأهلِ المصلَّى ظبيةٌ لا أصيدُها
أُريدُ لنفسِي غيرَها حينَ لا أرَى مُقاربةً منها ونفسي تـريدُهـا
وهذا الكلام أيضاً حسن الظَّاهر قبيح الباطن وذلك أنَّه يعبِّر عن صاحبته أنَّه إنَّما يريدها ما دامت تواصله فإذا هجرته انصرف عنها قلبه إلاَّ أنَّه وإن كان مقصِّراً في هذا البيت فما قصَّر في قوله:
يهواكَ لا أنَّ الغرامَ أطاعهُ حتماً ولا أنَّ السُّلوَّ عصاهُ
مُتخيِّرٌ ألفاكَ خيرةَ نفسـهِ ممَّن نآهُ الـودُّ أوْ أدنـاهُ
وهذا ضد قول أبي علي البصير:
لوْ تخيَّرتُ ما عشقتُ ولـوْ مُـلِّ كتُ أمرِي عرفتُ وجهَ الصَّوابِ
وأقبح من هذا القول الَّذي يقول:
إنَّ الَّذي بعذابِي ظلَّ مُفتـخـراً هلْ كنتَ إلاَّ مليكاً جارَ إذ قدرَا
لولا الهوَى لتَحَاربْنا علَى قـدرٍ وإن أُفقْ يوماً ما فسوفَ ترَى
هذا يتوعد محبوبه بالعقاب وهو أسير في يده يجري عليه حكمه وينفذ فيه فكيف لو قد ملك نفسه وقدر على الإنصاف من خصمه هذه حالٌ لا يُخبر بها عن نفسه إلاَّ من قد غُلب على عقله أو تحيَّر في أمره وقد قال جميل في قريبٍ من هذا المعنى قولاً مليحاً وإن لم يكن معناه عندنا صحيحاً وهو:
فيا ربِّ حبَّبْني إليها وأعطِنِي المو دَّةَ منها أنتَ تُعطي وتـمـنـعُ
وإلاّ فصبِّرني وإنْ كنتُ كارهـاً فإنِّي بها يا ذا المعارجِ مولـعُ
وللمجنون ما هو أقبح منه:
فيا ربِّ سوِّ الحبَّ بيني وبينهـا كَفافاً فلا يرجحْ لليلَى ولا لـيَا
وإلاّ فبغِّضْها إلـيَّ وأهـلَـهـا تكنْ نعمةً ذا العرشِ أهديتَها ليَا
وأنشدني أبو العباس محمد بن يزيد النحوي ليزيد بن الطثرية في ضد هذا المعنى:
يقولـونَ صـبـراً يا زيدُ إذا نـأتْ ويا ربِّ لا ترزقْ علَى حبِّها صبرَا
فهذا يختار لنفسه البلاء ضنّاً بمحلِّها من الهوَى ولعمري إنَّ هذه لحالٌ وكيدةٌ وإنَّها لو فارقته حتَّى يرى نفسه بعين الحريَّة من ملكها لانتقل عن رأيه وندم على وفائه وقد حدَّثتني مريم الأسدية قالت سمعت امرأة عقيليَّة تقول وهي على بعير لها تسير:
سُقينا سُلوةً فَسَلا كِـلانـا أراكَ اللهُ نعمةَ مَنْ سقانا

قالت مريم فسألتها عن خَبالها فقالت كنت أهوى ابن عمٍ لي ففطن بي بعض أهلي فسقوني وإيَّاه شيئاً فسلا كل واحد منا عن صاحبه وهذه حالٌ قلَّ ما يقع مثلها وهي ألطف محلاًّ من كل ما ذكرناه وما نذكره بعدها لأنّا إنَّما نصف من آثر المقام مع من يهواه على السلوّ عنه والرَّاحة من أذاه وهو بعد مقيمٌ في هواه وصاحبة هذا البيت قد سلت عن محبوبها وإنَّما تأسَّى على العشق لا على المعشوق وفي مثل هذا المعنى يقول بعض الهذليين:

إذا ما سألتُـكَ وعْـداً تُـريحُ بهِ مُهجتي فأنا المُستـريحُ
فلا تُعطني الوعدَ خوفَ السُّلوِّ فإنِّي علَى حسراتي شحـيحُ
أحَبُّ إليَّ من الصَّبرِ عـنـكَ فُؤادٌ قريحٌ وقلـبٌ جـريحُ

ولقد أحسن الوليد بن عبيد حيث يقول:

ويُعجبني فَقري إلـيكَ ولـمْ يكـنْ لِيُعجبني لولا محبَّتكَ الـفَـقـرُ
وما ليَ عذرٌ في جُحودكَ نـعـمةً ولو كان لي عذرٌ لما حسُنَ العذرُ

وأحسن الَّذي يقول:

وما سرَّني أنِّي خليٌّ مِـنَ الـهـوَى علَى أنَّ لي ما بينَ شرقٍ إلى غربِ
فإنْ كانَ هذا الحبُّ ذنـبـي إلـيكُـمُ فلا غفرَ الرَّحمانُ ذلكَ مـن ذنـبِ

وأحسن أيضاً الَّذي يقول:

أحببتُ قلبي لمَّا أحـبَّـكـمُ وصارَ رأيي لِرأيهِ تبعـا
ورُبَّ قلبٍ يقولُ صاحبـهُ تَعْساً لقلبي فبئسَ ما صنعا

وأنشدني أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار لجميل بن معمر:

خليليَّ فيما عِشتما هـلْ رأيتُـمـا قتيلاً بكى من حبِّ قاتلهِ قبلـي
فلوْ تركتْ عقلي معي ما تبعتُهـا ولكنْ طِلابيها لما فاتَ من عقلي

وهذا المعنى الَّذي في البيت الثاني داخل فيما عينَّاه من أنَّ من أقبل على من يهواه ما دام مفتقراً إليه فليست له في ذلك منَّةٌ عليه وحدثني أبو العباس أحمد بن يحيى النَّحويّ عن أبي سعيد عن القرويّ قال حدثني أخي عمران بن موسى قال أخبرني بعض أصحابنا أنَّ المجنون لما تغوَّل كان لا يؤخذ منه الشعر إلاَّ أن يجلس الرجل قريباً منه فينشد النَّسيب فيرتاح إليه فإذا سمع ذلك أنشد قال فجلس إلى جنبه رجلٌ فأنشده بيتاً من النَّسيب فقال ما أحسن هذا ثمَّ أنشده:

عجبتُ لِذاكَ عُروةَ كيفَ أضحى أحاديثاً لـقـومٍ بـعـدَ قـومِ
وعروةُ ماتَ موتاً مُستـريحـاً وها أنـذا أمـوَّتُ كُـلَّ يومِ

وأنشدني بعض الأدباء للمجنون أيضاً:

أراني إذا صلَّيتُ يمَّمْتُ نحـوهـا أمامي وإنْ كانَ المصلَّـى ورائيا
وما بيَ إشراكٌ ولكـنَّ حـبَّـهـا مكانَ الشَّجى أعْيا الطَّبيبَ المُداويا
أُصلِّي فما أدري إذا ما ذكرتـهـا أثنْتَيْنِ صلَّيتُ الضُّحى أمْ ثمـانـيا
وما جئْتها أبغي شفائي بـنـظـرةٍ فأبصرتُها إلاَّ انصرفـتُ بـدائيا

وأنشدني بعض الكتاب لنفسه:

ولي فؤادٌ إذا طالَ السَّقامُ بـهِ هامَ اشتياقاً إلى لُقيا مُعذِّبـهِ
يفديكَ بالنَّفس صبٌّ لو يكونُ لهُ أعزُّ من نفسهِ شيءٌ فداكَ بهِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق