الأحد، 3 مارس 2013

الفصل الثالث من كتاب الزهرة من تداوى بدائه لم يصل إلى شفائه

قد ذكرنا في صدر هذا الكتاب أنَّ أصل الهوَى يتولَّد من النَّظر والسَّماع ثمَّ ينمي حالاً بعد حالٍ فإذا كان النظر الصَّاحي إلى الصُّورة الَّتي يستحسنها طرفه مؤكّداً للمنظور إليه المحبَّة في قلبه كان نظر المحبّ بعد تمكُّن المحبَّة له أحرى أن يغلبه على لبّه ويزيده كرباً على كربه ألا ترى أنَّ من حمَّ يومين متواليين كان ألمه في الثاني من اليومين إذا تساوى مقدار الحمَّيين أصعب إليه من أوّل اليومين.
وفي مثل ذلك يقول حبيب بن أوس الطائي:


بَعثْنَ الهوَى في قلبِ من ليسَ هائماً فقلْ في فؤادٍ رُعنهُ وهـو هـائمُ

وقال غيلان بن عقبة في نحو ذلك:

خليليَّ لمَّا خفتُ أنْ تستـفـزَّنـي أحاديثُ نفسي بالهوى واهتمامُها
تداويتُ من ميٍّ بتكـلـيمةٍ لـهـا فما زاد إلاَّ ضعفَ شوقي كلامُها

وقال أيضاً:

وكنتُ أرى من وجهِ ميَّةَ لمحةً فأبرقُ مغشياً عليَّ مكـانـيا
وأسمعُ منها لفظةً فكـأنَّـمـا يُصيبُ بها سهمٌ طريقَ فُؤاديا




تُطيلينَ لـيَّانـي وأنـتِ مـلـيَّةٌ وأُحسنُ يا ذاتَ الوشاحِ التَّقاضيا
هيَ السِّحرُ إلاَّ أنَّ للسِّحرِ رُقـيةً وأنِّيَ لا ألقى منَ الحبِّ راقـيا

وقال أيضاً:

تحنُّ إلى ميٍّ وقدْ شطَّتِ النَّوى وما كلُّ هذا الحبِّ غيرُ غرامِ
لياليَ ميٌّ موتةٌ ثـمَّ نـشـرةٌ لما ألمحتْ من نظرةٍ وكلامِ

وقال آخر:

يقولون ليلى بالعراقِ مـريضةٌ فأقبلتُ من مصرٍ إليها أعودُها
فوالله ما أدري إذا أنا جئتُـهـا أَأُبرئُها من دائهـا أمْ أزيدهـا

ولقد أحسن الطائي حيث يقول:

أمْتعتُ طرفي يومَ ذاكَ بنظرةٍ لا تُمتعُ الأرواحَ بالأجسـادِ

وأنشدني أبو طاهر الدمشقي:

دوائيَ مكروهي ودائي محبَّـتـي فقدْ عيلَ صبري كيفَ بي أتقلَّبُ
فلا كمدٌ يبلـى ولا لـكِ رحـمةٌ ولا عنكِ إقصارٌ ولا عنكِ مذهبُ

وقال علي بن محمد العلوي:

كمْ نظرةٍ منها شجيتُ لها قامتْ مقامَ الفقدِ للنَّظـرِ
ولَّى بأوطاري ولستُ أرى عيشاً يُهشُّ لهُ بلا وطرِ

وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر:

نازعني من طرفهِ الوَحْيا وهَمَّ أن ينطقَ فاستحْيا
جرَّدَ لي سيفيْنِ من لحظهِ أماتَ عن ذا وبِذا أحيى

وقال الحسين بن الضحاك المعروف بالخليع:

وأتاني مُفحـمٌ بـغـرَّتـهِ قلتُ لهُ إذ خلوْتُ مُحتشما
تحبُّ بالله من يخصُّكَ بالحبِّ فما قالَ لا ولا نـعـمـا
ثمَّ تولَّى بمُقلتـيْ خـجـلٍ أراد ردَّ الجوابِ فاحتشما
فكنتُ كالمُبتغي بحيلتهِ بُرءاً من السُّقمِ فابتدا سقـمـا

وقال آخر:

تأمَّلتُهـا مُـغـتـرَّةً فـكـأنَّـمـا رأيتُ بها من سُنَّةِ البدرِ مَطلـعـا
إذا ما ملأتُ العينَ منها مـلأتُـهـا من الدَّمعِ حتَّى أنزفَ الدَّمعَ أجمعا

وقال آخر:

تمنَّيتُ من أهوى فـلـمَّـا لـقـيتُـهُ بَهتُّ فلمْ أُعملْ لِسانـاً ولا طـرفـا
فأغـضـيتُ إجـلالاً لـهُ ومـهـابةً وحاولتُ أن يخفى الَّذي بي فلمْ يخفى

وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لعلي بن الجهم لنفسه:

ولمَّا بدتْ بينَ الوُشـاةِ كـأنَّـهـا عناقُ وداعٍ يُشتهى وهو يقـتـلُ
أيِسْتُ من الدُّنيا فقلتُ لصاحـبـي لئنْ عجلتْ للموتِ أوحى وأعجلُ

وقال آخر:

أيُّها النَّائمون حولي هنـيئاً هكذا كنتُ حينَ كنتُ خليّاً
منْ رآني فلا يُديمنَّ لحظاً وليكنْ من جليسه سامريّاً

وقال مسلم بن الوليد:

أديرا عليَّ الكأسَ لا تشربا قبـلـي ولا تطلُبا من عندِ قاتلي ذحْـلـي
فما حزَني أنِّي أمـوتُ صـبـابةً ولكن علَى من لا يحلُّ لها قتلـي
أُحبُّ الَّتي صدَّتْ وقالتْ لِترْبـهـا دعيهِ الثُّريَّا منهُ أقربُ من وصلي
أماتتْ وأحيتْ مُهجتي فهيَ عندهـا مُعلَّقةٌ بينَ المواعيدِ والـمـطْـلِ
وما نلتُ منها طائلاً غـيرَ أنَّـنـي بشجوِ المُعنَّيْنَ الأولى سلفوا قبلي
بلى ربَّما وكَّلتُ عيني بـنـظـرةٍ إليها تزيدُ القلبَ خبلاً علَى خبْـلِ

وقال أيضاً:

عرفتُ بها الأشجانَ وهـيَ خـلـيَّةٌ من الحبِّ لا وصلٌ لديها ولا هجرُ
أراها فأطوي للـنَّـصـيحِ عـداوةً وأحمدُ عُقبى ما جنى النَّظرُ الشَّزْرُ
فلا سيَّما العُذَّالَ فيهـا مـلامـهُـمْ ألستُ إذا لاموا أبيتُ ولـي عـذرُ
شكوتُ فقالوا ضقتَ ذَرعاً بحبِّـهـا متى تُملكُ الشَّكوى إذا غُلبَ الصَّبرُ
ألمَّتْ بنا في العائداتِ من أهلـهـا فأذْكتْ غليلاً ما لديها بـهِ خُـبـرُ

ولبعض أهل هذا العصر:

إذا كان اللِّقـاءُ يزيدُ شـوقـاً وكان فراقُ من أهوى يشوقُ
فليسَ إلى السُّلوِّ وإنْ تـمـادى عتابُكَ في الهوَى أبداً طريقُ
ومنْ يكُ ذا سقـامٍ إنْ تـداوى تزايدَ سُقمهُ فمـتـى يُفـيقُ

وله أيضاً:

إذا زارَ الحبيبُ أثارَ شوقـاً تفتَّتُ من حرارتهِ العِظامُ
وروَّاني بعـينـيهِ مُـدامـاً تدينُ بسُكرِ شاربها المُدامُ
فوصلٌ يُكسبُ المُشتاقَ سُقماً ونأيٌ لا يقومُ لـهُ قِـوامُ




فهلْ يصلُ السَّقيمُ إلى شفاءٍ إذا كانَ الدَّواءُ هوَ السَّقامُ

وله أيضاً:

أغريْتَني بحياتي إذ غريتَ بـهـا فصارَ طولُ بقائي بعضَ أعدائي
فكيفَ يُنعشُ من أرداهُ ناعـشـهُ ومن يرى جسمهُ رأيَ الأطبَّـاءِ
أمْ كيفَ يبرأُ قلبي من صبابـتـهِ بطبِّكمْ ودوائي عـنـدكـمْ دائي

وله أيضاً:

متى يا شفاءَ السُّقمِ سُقميَ مُنقضي إذا ما دواءٌ كانَ للدَّاءِ مُمرضي
فهيهاتَ ما هذا علَـى ذا يقـلـع أجلْ لا ولكن مدَّةُ العمرِ تنقضي

وقال آخر:

ومُختلسٍ باللَّحـظِ مـا لا ينـالـهُ قريبٍ بحالِ النَّازحِ المُتـبـاعـدِ
وفي نظرِ الصَّادي إلى الماء حسرةٌ إذا كانَ ممنوعاً سبيلَ الـمـواردِ

وقال آخر:

خليليَّ أضحتْ حـاجةٌ لأخـيكُـمـا بتوضحَ والحاجاتُ يُرجى بعيدُهـا
فكيفَ طِلابي حـاجةً لا ينـالُـهـا بريدي ولا يجري إلـيَّ بـريدُهـا
فهل ينفعُ الحرَّانةَ الكبـدِ أن تـرى حياضَ القِرى من دونها من يذودها
وهلْ ينفعُ العينَ الشَّقيَّةَ بـالـبُـكـا ذُرى طامسِ الأعلامِ لا بلْ يزيدها

وقال مجنون بني عامر:

تداويتُ من ليلى بليلى مـن الـهـوَى كما يتداوى شاربُ الخمرِ بالخمـرِ
ألا زعمَتْ ليلـى بـأنْ لا أُحـبُّـهـا بلى واللَّيالي العشرِ والشَّفعِ والوتـرِ
إذا ذُكرتْ يرتاحُ قلبـي لِـذكـرهـا كما انتفضَ العُصفورُ من بللِ القطرِ

وقال البحتري:

سقى الله أخلاقاً من الدَّهر رطـبةً سقتْنا الجوى إذ أبرقُ الحزنِ أبرقُ
ليالٍ سرقناها من اللَّهوِ بـعـدمـا أضاءَ بإصباحٍ من الشَّيبِ مفـرقُ
تداويتُ من ليلى بليلى فما اشتفـى بماءِ الرُّبى من باتَ بالماءِ يشرَقُ

وقال جميل:

فيا حُسنها إذ يغسلُ الدَّمعُ كُحلهـا وإذ هيَ تُذري الدَّمعَ منها الأناملُ
عشيَّةَ قالتْ في العتابِ قتلْـتـنـي وقتلي بما قالت هناكَ تُـحـاولُ
فقلتُ لها جودي فقالـتْ مُـجـيبةً ألِلْجدِّ هذا منكَ أمْ أنـتَ هـازلُ
لقدْ جعلُ اللَّيلُ القصيرُ لنـا بـكـمْ عليَّ لِروعاتِ الهوَى يتـطـاولُ

والأصل في هذا كله هو لامرئ القيس:

وما ذرفتْ عيناكِ إلاَّ لتضْربـي بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ مُقتَّل

وقال بشار بن برد:

مريضةُ ما بينَ الجوانحِ بالضَّنى وفيها دواءٌ لـلـعُـيونِ وداءُ
عتابُ الفتَى في كلِّ يومٍ ولـيلةٍ وتقويمُ أضغانِ النِّساءِ عنـاءُ

وقال عبيد بني حسحاس:

تجمَّعنَ من شتَّى ثلاثاً وأربعا وواحدةً حتَّى كمُلنَ ثمانـيا
يعُدنَ مريضاً هنَّ هيَّجنَ داءهُ ألا إنَّما بعضُ العوائدِ دائيا

وقال آخر:

كما تيقَّنتَ أنَّ الحيَّ قـدْ رقـدوا خطاكَ فوقَ رُقابِ النَّاسِ ما تجدُ
فلا بلغتَ الَّذي تشفي الغليلَ بـهِ ولا ظفرتَ ولا نالـتْ يديكَ يدُ

وقال آخر:

إنَّ الذينَ بخيرٍ كنتَ تذكُـرهـمْ همْ أهلَكوكَ وعنهمْ كنتُ أنهاكا
لا تطلُبنَّ حياةً عنـد غـيرهـم فليسَ يُحييكَ إلاَّ من توفَّـاكـا

فهذا البائس مع من قدَّمنا ذِكره مع نُظرائه قد صبر على مضاضة دائه مع علمه بأنه زائد في دائه ولم ير أن ينعطف إلى سواه ولا طلب الراحة إلاَّ من عند من ابتلاه وهذا ضدُّ الَّذي يقول:

ولمَّا أبى إلاَّ جِـمـاحـاً فُـؤادهُ ولم يسلُ عن ليلى بمالٍ ولا أهل
تسلَّى بأخرى غيرها فإذا الَّـتـي تسلَّى بها تُغري بليلى ولا تُسلي

وضد الَّذي يقول:

تسلَّيتُ عن ذكرِ الحـبـيبِ بـغـيرهِ ومِلتُ إليهِ بـالـمـودَّةِ والـذِّكـرِ
فما زادني إلاَّ اشـتـياقـاً وحُـرقةً إليهِ ولم أملكْ سُلوِّي ولا صـبـري
وما الحبُّ إلاَّ فرحةٌ إن نكـلْـتـهـا بأخرى قرنتَ الضُّرَّ منكَ إلى الضُّرِّ
فلا تُطفِ نارَ الحبِّ بالحبِّ طالـبـاً سُلوّاً فإنَّ الجمرَ يُسعرُ بالـجـمـرِ

وهذا وإن كان مخالفاً لذلك في أنَّه جرب الأدوية على نفسه والتمس الراحة في إلفٍ غير إلفه فإنه موافق للذي يقدمه في التماسه من نحو الجهة الَّتي حدث عنها الدَّاء في رجوع نفسه إلى وطنها وإقبالها بعد الانحراف على سكنها.
وقال عبيد الراعي:


بني ولو نسى قدْ سئمنا جواركمْ وما جمعتنا نيَّةٌ قبلها مـعـا
خليلانِ منْ شعبينِ شتَّى تجاورا قليلاً وكُنَّا بالتَّفرُّقِ أمتـعـا
أرى آلَ هندٍ لا يُبالي أميرهـمْ علَى كبدِ المحزونِ أنْ تقطَّعا

وقال علي بن الجهم:

عيونُ المها بينَ الرّصافةِ والـجـسـرِ جلبنَ الهوَى من حيثُ أدري ولا أدري
أعدْنَ لي الشَّوقَ الـقـديمَ ولـم أكـنْ سلوتُ ولكن زِدْنَ جمراً علَى جمـرِ
وقُلـنَ لـنـا نـحـنُ الأهـلَّةُ إنَّـمـا تُضيءُ لمنْ يسري بليلٍ ولا تـقـري
فلا نـيلَ إلاَّ مـا تـزوَّدَ نـاظـــرٌ ولا وصلَ إلاَّ بالخيالِ الَّـذي يسـري

وقال آخر:

وقالُوا لها هذا حبيبكِ مُعـرضـاً فقالتْ ألا إعراضهُ أيسرُ الخطبِ
فما هوَ إلاَّ نـظـرةٌ بـتـبـسـمٍ فتصطكُّ رِجلاهُ ويسقطَ للجنـبِ

وقال أبو صخر الهذلي:

وإنِّي لآتيها وفي النَّفسِ هجـرُهـا بَياتاً لأُخرَى الدَّهرَ ما طلعَ الفجرُ
فما هـو إلاَّ أنْ أراهـا فُـجـاءةً فأبهتَ لا عُرفٌ لديَّ ولا نُـكـرُ
وأنسَى الَّذي قدْ جئتُ كيْما أقولـهُ كما قدْ تُنسِّي لبَّ شاربِها الخمـرُ

وقال آخر:

وكيفَ يحبُّ القلـبُ مـنْ لا يحـبُّـهُ بلَى قدْ تُريدُ النَّفسُ مَـنْ لا يُريدُهـا
وكنتُ إذا ما زرتُ ليلَى بـأرضِـهـا أرى الأرضَ تُطوَى لي ويدنُو بعيدُها
تحلَّلُ أحقـادِي إذا مـا لـقـيتُـهـا وتنْمِي بلا جرمٍ علـيَّ حـقـودُهـا

أما قول تحلَّل أحقادي إذا ما لقيتها فهو كلام صحيح ولو أبدل اسم الحقد بغيرها كان أحسن لأنَّ الحقد لا يتولَّد إلاَّ عن موجدة فتخفى في النفس ويظهر غيرها ويرصد صاحبها بالمكافأة عنها وهذا كلُّه محال بين المتحابين بين باب الجد والهزل جميعاً وقد ذكر الله تعالى جلَّ ثناؤه في باب محبَّته للمؤمنين دليلاً على ما قلناه وذلك قوله عزَّ وجل: (وقالتِ اليهودُ والنَّصارى نحنُ أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤهُ قلْ فلمَ يعذِّبكمْ بذنوبكمْ بلْ أنتمْ بشرٌ ممَّن خلقَ يغفرُ لمنْ يشاء ويعذِّبُ مَنْ يشاء) فجعل جلَّ ثناؤه مكافأتهم بالمعاقبة على ذنوبهم دليلاً على تكذيب دعواهم ونحو ذلك قوله تعالى: (قلْ إنْ كنتمْ تحبُّونَ اللهَ فاتَّبعوني يُجيبُكمُ اللهُ ويغفرْ لكمْ ذنوبكمْ) فضمَّ جلَّ وعزَّ الذُّنوب إلى المحبَّة غير أن من أحسن في بيتين وقصَّر في بيت كان محسناً معفيّاً على إساءته وأما قوله وتنمي بلا جرمٍ عليَّ حقودها فتعتورُه معانٍ أحدها أن يكون ضنُّه بودِّها دعاه إلى سوء الظنّ بها فنسبها أنَّها تضمر له حقداً ويمكن أن يكون عرف من خلائقها ما هو مغيَّب عنَّا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق