كتبهابلال عبد الهادي ، في 26 نيسان 2011 الساعة: 19:31 م
سمعت النوشجاني يقول! وقد جرى حديث الصديق وحكى
في عرضه الحد الذي للفيلسوف وهو: الصديق آخر هو أنت. ويقال: الصديق هو أنت إلا إنه
بالشخص غيرك.
فقال: الحد صحيح، ولكحن المخحجوج غير موجود.
فتعجبنا منه، فلما رأى ما اعترانا: قال: تأيدوا وتثبتوا فليس التسرع بالإنكار من أخلاق بغاة الخير وسجايا طالبي الحق. إن الحد الذي قلتم حاكين عن الحكيم صنع من ناحية العقل المحدود وفرض في عالم الحس فتناصفنا هناك بالدلالة عليه لم يكن أن يوجد ها هنا بالإشارة إليه، وذلك أن الوحدة التي في العقل تصور كل شيء بصورته التي لا كثرة فيها ولات اختلاف والتعاند إما ظاهرين وإما خفيين. وقد صح أن الإنسان ذو طبيعة ومزاج وشكل وأعراض متفاوتة كثيرة، فإذا ما صادف آخر وهو أيضاً ذو طبيعة أخرى وخواص أخرى، إما زائدة على ما لصاحبه، وإما ناقصة عنه، عرض حينئذ التفاوت والإختلاف بالواجب لا محالة. فمتى يكون هذا الإنسان على ما وصفنا هذا الإنسان والحال على ما وقفت عليه وبانت لك حقيقته وأيهما ينبغي أن يتبع صاحبه ويأخذ عنه ويقتدي به ويأخذ بيده وينطق بلسانه ويهم بقلبه ويتصرف على إرادته وكلاهما على رتبة واحدة ف يالحد الذي وصفت في الصديق، فإن أوجبت على أحدهما طاعة الآخر والإقتداء به فهذا خلاف الصداقة التي تقدم حالها، لأن هذهالحال بالعالم والمتعلم أشبه وبالتابع والمتبوع أشكل.
فقلت له: فعلى هذا فائدة هذا الحد? ولم قال الفيلسوف شيئاً لا حقيقة له ولا دلالة عليه ولا يوجد في الشاهد أصله? فقال: قد قصد بهذا الحد المبالغة في الحس على توخي الصديق لصديقه حالاً لا يكاد يفصل بينهما في إرادة وإيثار وقصد ومحبة وكراهية ومرضاة، فإن هذا الحد إذا لحظ أفقه العلي سلك إليه بالهمة الشريفة والعزيمة التامة والجد البليغ والإجتهاد المستخرج للوسع، فيكون لك داعية إلى الغاية التي كلما قرب منها كانت الحال أعني الصداقة إلى الحقيقة أقرب، وعليها أشمل، وبشرائطها أجمع، وعما يخالف هذه الصفات أبعد. ثم قال:وكيف يصح هذا الحد في الشاهد والحس، والإنسان إن كان وحده لا يلائم نفسه ولا يوافق أبداً رأيه، ولعله يترجح وينكفئ في كل يوم، بل في كل ساعة مراراً كثيرة مثل أبي براقش كل لون لونه يتخيل.
وقال أيضاً: إن الإنسان وإن كان واحداً بوجه فإنه كثير بوجه آخر فالكثرة التي حالت بينه وبين صديقه في جمهور أحواله، فلو لا التفرق الذي فيه والكحثرة التي تتوزعه، ما كنت تجد إنساناً إلا على هيئة واحدة وشكل واحد، أعني أنك كنت تجده أبداً إماطلق الوجه، ومبتسم الثغر سهل الخلق، ناشئ الخلق، جواداً بالمال، عسر المرام، بعيد المنال، مولعاً بالخلاف، أو فيما بين ه1ه الأضداد بالزيادة والنقصان والإنحراف والإعتدال. فلما وجدته على أحوال مختلفة وأشكال مفترقة وأخلاق لا تتلائم ولا تتلاحم علمت أنه إذا صادف من هذا بعينه وطينته، وعلى هذا ديدنه وإليه حنينه ونزوعه، وفيه غروبه وطلوعه، كان المعنى الذي انبني عليه الحد عنهما أبعد وهما عنه أنفر وأشرد، وأن ذلك الحد صدر عن فضاء العقول وعرصة الحق حيث لا نتزاحم الأشياء لا بالمشاكلة ولا بالمعتاندة، فلذلك ما كان حلواً في السمع مقبولاً، كريها عند العمل مهجوراً.
وهكذا حكم ما يوضع بالعقل ويحد به إذ كان لا يكمل ذلكإلا بالمباشرة الحسية الكلف البشرية والعادة الإنسية، ولكن الزماع والصبر والاجتهاد والاعتياد والرياضة والدربة والتسبب والتعود مطايا مبلغة أو مقدمة، وأسباب محققة أو مقومة، ولولا هذه الفضائل التي يسلك إليها هذا السبيل لما وجد أحد في صدره برد اليقين ولا طمأنينة الحق، ولا ظفر بسرور النفس ولا عرف روح العقل، ولا أحس بسكون الطباع، ولا طمع في إصابة المطلوب، ولكان اليأس أغلب من الرجاءن والقنوط أرسخ من الأمل، والعدم آنس من الوجد، وليس الأمر كذلك، بل النعمة سابغة، والدواعي محركة، والإستطاعة حاضرة، والعناية معرضة،والرجاء مطمع، والمراد مزمع والنداء عال، والنجاء متوال، والله موفق. وليس يبقى حاطك الله إلا الفسولة والكسل، وحب الهوينا والضجر، ومتى تدرج في نفي هذه الرذائل المكروهة والأرادات الذميمة، بالزهد في الدنيا، ورفض الشهوات، ومخلطة أقران الخير، ومجانبة خلطاء السوء، عاد البعيد قريباً، والعسير منقاداً، والممتنع مستجيباً، والعاصي طائعاً.
قيل له:إن الحد قد حوى هذا كله لأنه قيل: هو أنت إلا أ،ه غيرك بالشخصن فبالموافقة يكون أحد الصديقين الآخر، وبالمخالفة يكون الشخص آخر.
فقال: ليس بجائز أن يكون في الحد تناقض، ومتى استجيز هذا جاء الفساد الذي لا يخيل على أحد إن كان المراد بأنه بالشخص غير كأنه يوجد سواك، وتوجدسواه، فهذا لا مرية فيه ولا شبهة على أحد منه، والعدو أيضاً كذلك. وإن كان المراد به يوافقك ويجري على هواك وإرادتك، فقد قلنا إن هذا الوصف يدخله ذلك التعاند الذي تسلف استشفافه واستكشافه من جهة الطباع والطباع، والعادة والعادة، والمراد والمراد، والهوى والهوى، والشكل والشكل، فإذاً الحد يصح ملحوظاً بشرح العقل في عالمه النقي البهي المشرق المؤتلق الخالص النير البحت، لا إذا قصد به وجدانه فيساحة الحس الكدر المظلم السيال المتموج المضمحل المستحيل. ولهذا المعنى كان الوصف أبداً زائداً على الموصوف، والقول فاضلاً عن المقول عليه في أمور هذه الدار، وتفصيل أحوال سكانها في جميع ما يتقلبون فيه ويتفرقون عليه.
قيل له: قد حصلنا حميع ما قلته ووجدنا في أنفسنا زيادة كثيرة لمعرفته أفدنا الآن الفرق بين الصداقة والألفة? فقال قد يألف الإنسان ثوباً وزياً وطعاماً وهدياً ومذهباً ومكاناً، ولا يصادق شيئاً منها، والصداقة إذا أخذتها من جانب اشتاق لفظها كانت من الصدق، ولاصدق ميزان النفس وصورة العقل وكمال الجملة وزينة التفصيل، وإذا ألف إنسان إنساناً فقد أجراه مجرى جميع ما سميناه، وإذا صادقه فقد رفع شأنه وأعلى مكانه وميز قدره وأفرد حاله فيما لا يصدف إذا حدث ولا ينصف إذا عومل.
قيل:فعلى هذا يتمم هذه المقابسة التي حركت منا سواكن، وأثارت علينا كوامن.
فقال: إعملوا ما بدا لكم من الخير فالحكم خلس، والفوائد قرص، وليس كل وقت يوافق نشاط السائل في سؤاله رغبة المسئول في إجابته، ولا في كل حال يمكن للإنسان أن يثقف ما يقول ويقوم ما يعمل ويحقق ما ينوي قبل وبعد، وإني أحدثكم عن الصداقة شيئاً حسناً.
قرأت في أخبار الملك الحكيم الإسكندر أنه كتب إلى معلمه أرسطو طاليس يصف له ما رآى في مسيره إلى الهند تمن الأمور العجيبة، والأحوال الهائلة، فكان فيما كتب له: أيها الحكيم، إننا انتهينا إلى خليج من البحر من ورائه مدينة عظيمة من مدائن الهند، ورأينا في اللجة من ذلك الخيلج شيئاً ناشزاً بارزاً كهيئة الجزيرة فأردت عبوره فمنعني منه صديقي فليون وقال بل أعب أنا أولاً، فإن كان هناك مكروه وقع في دونك، فإنه إن هلك فليون وجد الإسكندر منه خلفاً، وإن فقد لاإسكندر، لا فقد، لم يكن على وجه الأرض خلف. فعبر فليون وعدة من خلاني وخلصاني، فإذا ذلك الذي رأينا في البحر دارة عظيمة من دوابه، فلما دنا أصحابي منها غاصت في البحر فاضطرب الماء وغشى الموج سفائن أصحابي فأغرقها، فلما شاهدت ذلك اشتد جزعي على صديقي فليون ومن غرق معه من خلاني، وانصرفت عن ذلك بقلب مصدوع، وطرف مولع بالدموع.
فسئل عند هذه الحكاية عن مسائل من شكل حقائق الصديق فأجاب عنها غير متكلف ولا متعسف بعد تفاد ظهر واستعفاء قدم وأخر.
وقال: كل مسألة من هذه المسائل تستوعب فكر النفس، وتفرق بال الإنسان، وتأخذ به في أقطار العلم، وتضله في قفار البحث؛ وما أحب أ، تسجل علي بكل ما يسمع مني، فرشائي قصير، ووردي ثمد، وحظي نزر.
فقيل له على ذلك: أخبرنا ما العشق? فقال: تشوق إلى كمال ما بحركة دالة على صبوة ذي شكل إلى شكله.
قيل له: فما المحبة? قال: هي منوال العشق، إلا إنها محاولة الحال إلى الإتصال، إتصالاً يرفع التميز رفعاً، ويقطع التحيز قطعاً، وتحدث الكلف، وتورث التلف.
قيل: فما الكلف? قال: كأنه اللزوم للشيء.
قيل له: فما الشغف? قال: قريب من الكلف، وهو أشد ارتفاعاً في ملازمته من الأول على أنا إن أنصفنا لم نقل في هذه الأسماء شيئاً لأن حدودها وحقائقها لم تنته إلينا صحيحة تامة غير مخرومة ولا مثلومة، وإنما نصفها ائتناسا بها وببعض علائقها لا إطلاعاً على جميع غوامضها وخوافيها، وعلى جميع ما دخل فيها وفي غمار أخواتها. فلتكن الحال معروفة عند المعيب والعائب إذا عثر على زلة لم يعر منها أحد من البشر وإن لطف عقله ورقت حاشية كلامه وتهودى سماع لفظه بسمع كلامه وتزين في بديع خطابته، ولا غضاضة على من إذا قصر قصر من جهة يشاركه فيها بنو جنسه.
قيل له:إنما الصداقة لغة، وهي أم هذه المقابسة.
فقال: صحة الظاهر بالموافقة، وسلامة الباطن من المخالفة، واستقرارها على حد المواصلة بالمناصفة والمساعفة والإيثار، مع الإهتمام بكل دقيقة وجليلة، والإحتياط في كل ما حرس أسباب القوى الزلفة، واطرح كل ما أشار إلى المؤنة والكلفة.
وقيل: إن رأيت زدت في المحبة كلاما? فقال: المحبة أريحية منتفثة من النفس نحو المحبوب لأنها تغذو الروح وتضني البدن و لأنها تنقل القوى كلها إلى المحبوب بالتحلي بهيئته، والتمني بحقيقته، بالكمال الذي يشهد فيه. فالشوق يتوفر عليه، والشوق شاغل عن كل ما عدا المشتاق إليه، وهو وقوة تسافر من هذا إلى هذا، زادها الأطراق والتفكير والوجوم والسهر والتتبع والتحير.
قيل: فما المعرفة? قال: إن كانت ضرورة فهي نتيجة الفطرة، وإن كانت استدلالاً فهي ثمرة الفطكنة، ولا بد فيها من البحث الطويل والعريض، والسماع الواسع الكبير، لأن النفس الناطقة لا تعطيك مكنون ما فيها إلا بتصفحك كل ما هو دونها من أجلها.
قيل فما العلم? قال: قال بعض الأوائل: هو الرأي الواقع على كنة حقائق الأشياء وقوعاً ثابتاً لا ينتقل عنه.
قيل له:قد استفدناه فيما يحكي، وإنما نرغب إليك فيما حاكه فضلك واستنبطه فكرك، وجاد به عقلك، وانتهى إليه فضلك? فقال: العلم وجدان النفس مطلوبها توحدت به واتحدت فيه لهما، وهذه صورته عندنا، وشك الإنسان بعد ذلك بالرأي الضعيف الظن السخيف من ناحية الطبيعة والعادة، لأن ما جرى مجراهما لا يتحيف بحصولها ولا يسلبها ما صار بالواجب لها.
وقال: والعلم انفعال ما ولكن باستكمال يؤدي إلى النفس سرورها، وحبورها اللذان هما خاصان لهما. والمعرفة تنفذ في الأشباح المائلة و الإحساس القابلة. والعلم ينفذ في الأرواح القابلة للمعقول، وقد يتعادلان عند العامة كثيراً لدقة الفرق وغموض الفصل، وذلك أن العامة تطلق كلامها تحريفاً وتخويفاً، فتزل عن كنه الحقائق لإلفها حضيض الأمور بما تراه العين وتسمعه الآذان، ومن وراء البصر والمسموع معادن الحكمة الآلهية وبحار الأسرار الملكوتية، ومصادر نفس الأنفس الزكية، وموارد طمأنينة الأرواح الطينية، ومعارج رواد العقول الصافية.
قيل: فما التوحيد? قال: اعتراف النفس بالواحد لوجدانها إياه واحداً من حيث هو واحد لا من حيث قيل إنه واحد. وهذا هو الحد بين توحيد الجمهور بالتقليد وبين توحيد الخاصة بالتحقيق. فأما اعتراف اللسان فهو ثابت عن اعتراف النفس إذا كانت هذه النيابة على حد الكمال ولم تكن تليقينا من عامة الناس.
ثم قال: وليس معنى قولنا وحد فلان أنه قال هو واحد، هذا مفهوم العامة لا معقول الخاصة؛ بل معنى قولنا وحد أي عرفه واحداً، وعلمه واحداً، وأثبته واحداً، ووجده واحداً، لا لأنه نفى عنه الثاني والثالث فصاعد، وكيف ذلك، ولا ثاني له فينفي، ولكن لأنه واحد وحده، بل هو وحده واحد لا على سبيل تنسيق العبارة على عادة أصحاب اللفظ، لا على تعقيب يقتضيه إلف أكثر الخلق، بل على لحظ ذات لا شوب فيها وتجريد أنية لا نعت لها وإشارة إلى هوية لا عبارة عنها.
ثم قال: وهذا موضع يزيغ عنه العقل الإنسي، ويوسوس منه الإنسان العنصري، وذلك لأن العقل يجد العلة الأولى وجداناً على أتم صورة وأشرف نعت، وأبلغ قول، فيهش إليه ويتهالك عليه، قابلاً لفيضه، ومقتبساً من ذاته، وسابحاً في جوده، ومتشبها بحقيقته، ومناسباً بنعته، يتحلى به من كان به عاقلاً ومن كان به كاملاً على ما دونه وعزوفاً عما سواه، فلذلك يظن الإنسان إذا سما عقله إلى هذه الآفاق العلية ودنا نحو هذه الغايات البعيدة أنه خولط وجن وأنه وسوس، وهذا عار يحل على بؤبؤة العين وناظر الحدقة في حيث هذه الحدائق المؤنقة، والظلال الريحة، والثمرات الحلوة والنعمة الدائمة، والسعادة الحاصلة، والأمنية الشاملة.
قيل: ينزل قليلاً عن هذه الربوة فإنها قد أخذتنا عن درجاتنا ومقاماتنا إلى ما هيئنا لمعرفة هذه الدقائق والتوغل في هذه الأعماق ما الفتوة?
قال: طهارة الحدة والطراوة في كل حال مباشرة، لأنها متى فقدت جاءت الخلوقة والرثاثة، ومن ذلك سمي الفتى فتى، والفتى فتياً لأن الكرم والمجد والجود والعفة والنجدة وكبر النفس وعلو الهمة وسائر خصال الفضل والخير غضة في كل زمان طرية في كل مكان، كان الطاهر بها والمطهر لها والمؤثر لأجكامها والمجدد لرسومها فتى وصاحب فتوة.
قيل له: فما المرؤة، فإنها تتبع الفتوة? فقال: هي القيام بخواص ما الإنسان يكون عليه محموداً وبه ممدوحاً، وهي أعني المرؤة أشد لصوقاً بباطن الإنسان، وأما الفتوة فهي أشد ظهوراً من الإنسان، فكأن الأولى أخص، والثانية أعم، أني لا فتوة لمن لا مرؤة له، وقد يكون ذو مرؤة ولا فتوة له، فإما إذااجتمعا فقد أخذ الحبل بطرفيه، وملك الأمر بجنوبه.
قيل له:إن الحسن بن وهب قال: غزل الصداقة أرق من غزل العلاقة. فما وجه هذا القول? قال: صدق، هذه نفثة فاضل قد أحس كمال الصداقة، لأنها مؤثرة بالعقل ومجراة على أحكامه ومحمولة على رسومه، فأما العلاقة فهي من قبيل الحس، والطبيعة عليها أغلب وآثارها فيها أبين. وفي الجملة ينبغي أن يعلم أن ذا الطبيعة مشاكل لذى الطبيعة، وكذلك ذو النفس مشاكل لذي النفس، وكذلك ذو العقل مشاكل لذي العقل، وهذه التفرقة لم تقع من جهة الطبيعة الأولى لأنها واحدة سارية في الجميع، ولكنها وقعت من جهة المواد والقوابل بالزائد والناقص، وهكذا الحال في النفس والعقل، لأن شأنهما أعلى ومحلهما أسنى وأسمى، وذلك أن الطبيعة إنما تنهي الشيء اليسير مما تجده وتحصله من ناحية النفس والعقل، والطبيعة نفس في الأصل، والنفس عقل في الأول، والعقل هو المبدأ، وكل هذا واحد إذا لحظت القوة القائمة والجود المنبجس، والواحد كل إذا لحظ الجود المحض ومتى خلص النظر من شوائبه، وصفا البحث من عواقبه. وارتفع الحاجز الذي قصد وانتفى العارض الذي تعرض، وجدت حقيقة هذه الحال من غير تجوز ولتا اختلاف. فالهوى من عوارض الطبيعة، والحب من علائق النفس، والعشق من محاسن العقل. وكل واجد من هؤلائ الذين سمينا هو صاحبه تفي موضعه، وحكمه بحكمه في مكانه. ومتى اقتص الفاضل الحكيم هذه الأوائل وساق إليها هذه الثواني رقي من الأدنى إلى الأشرف، وانتسب إلى الأقوى دون الأضعف، وهي كالطرق المذللة، والسلاليم الموصلة بخلانيتي وينسب بغيره? حتى إذا أنيل الفوز بمعانية الغاية التي هي الغرض الأول والمراد الأفضل، أدرج ما عدا ذلك كله إدراجاً، وطوى ما سواه طياً. وهذه كالرؤيا لا تأويل لها إلا رياضة الإنسان طبيعته؛ حتى لا يتم إلا ما ينبغي ولا يأتي إلا ما يحب، ولا يقول إلا ما يحق حنينه، لا يتطاول إلى ما ينحط عنه، ولا يتشرف بما يزدهيه، ولن يتم له ذلك أولاً وآخراً إلا بمواصلة العقل وصحبته والعمل برسمه والتسرع إلى قبول نصحه. والعقل وإن لم يكن بأسره عنده فمعه جزء ينزع بشرفه إلى أصله يضيء له بأنوار السيرة الفاضلة والأخلاق الحميدة، ويكف هوائج الطبيعة، ويحسم مواد العادة الرديئة، ويحث على استعدادها لا يستغني عنه في العاقبة، ويوزع العدل الذي هو صورته على الأحوال الراسخة والطارئة، ولن يتم هذا كله إلا بهذا الإنسان دون ، يكون مهيئاً له بالأصل معرضاً له في الفرع.
ثم قال: ولأن تمت فيك ما أحياه الله لك، ولا تزعج على نفسك ما كفه الله عنك، وخذ بآداب أهل الحكمة نفسك وغذ بها روحك، واستر عليها عادتك، واجعل الخير كله إرادتك، ولا تكترث بسيلان طينتك، وذوي عودك، وتعادي أخلاطك، وتزايل أوصالك، وارتداد نفسك، ومفارقة إلفك، واستحالة عنصرك، وفساد مزاجك، ودوام اختلاجك، وتعذر تدبيرك في عاجلك، فإنك باق بحقيقتك، دائم بجوهرك، موجود بذاتك، واحد بأنيتك، كامل في جملتك، سعيد في تفصيلك، عجيب في شرك، ظريف في خيرك، بديع في شأنك، صلة الدهر، وعنوان الغيب، ومحجوب الشاهد، وتمام العين، ونظام السلك، وضالة كل طالب، ورضى كل واجد، ونافي كل وحشة، ومحضور كل أنسة، ورقيب كل حاضر، ونجي كل غائب. هذا بعض حديثك وجزء من شأنك، وبعض ما يترآى بعينك، ويتناجى في أذنك، وينسرب في فؤادك، ويدغدغ في روحك ويجيب عنك ورقك، ويسيغ فيك طرفك، ويريك فيك، ويحول عليك، ويعرضك فيك لك، ويعرفك إباك، ويحدثك بك، ويدنيك منك، ويقربك إليك، ويحضرك بين يديك، ويعيشك ويعشقك، ويجودك ويرودك، ويريحك ويحيطك، ويحبط بك ويحتاط لك. فيا لها عطية يا لها سعادة! لو كان للسامع فطنة بل عزمة بل قصد بل توفيق، إنها لبشرى. أما سرك في الثاني حسن حصلت في الأول من البشر، أما يسرك أن تصفو من هذا الكدر، وتنقى من هذا القشر والقذر، وتصير في زمرة الملأ الأكبر? حيث لا بلاء ولاذوب ولا شؤب ولا غير. حيث لا يصل إليك البطلان، ولا تتسلط عليك الأحزان. حيث تبدو عينك في بهاء شعاع في معدن الأمن والقرار، بعد استيفاء مدة هذا الليل والنهار حيث لا تنطق بلسان يناله عي ولا حصر، ولا تهينم بنفس يعتريها طيش وضجر، ولا تسمع بأذان يلجها أذى، ولا تنظر بعين يغشاها قذى. حيث تستهلك الآلهية البشرية، وتستغرق الربوبية العبودية. حيث لا تنعقد بطين، ولا تنحل بماء، ولا تقلب بهواء، ولا تحرق بنار، ولا تكمل بمزاج ولا تعتدل باخلاط. وبالجملة حيث لا سلطان للطبيعة عليك، ولا سريان لهواها فيك، ولا تخطيط من رسومها وأشكالها عندك. حيث لا تظن فتخظئ ولا تتمنى فتخسر، ولا تأمل فتخاف، ولا تجرك فتسكن، ولا تسكن فتتحرك. حال ثابتة بائنة عما يعتاد من هذا البلد الذي أنت فيه غريب، وإلى وطنك مشتاق. وإن سميتها سكوناً فذلك سكون بهدوء وطمأنينة وأمن وسكينة، وإن سميتها حركة فهي حركة تشويق وتشبه واستمداد واستلذاذ، لا كارادتك التي ألفتها، وعادتك التي عرفتها، وخلالك التي أسلفتها، فلا تسحرنك الأسماء والكنى لهذه الأشكال، ولا يستهوينك هذا الزبرج الذي تلحظ وترى، فوراء حسك نفس، ووراء نفسك عقل، وفي أثناء العقل أنت بما أنت أنت لا بما به أنت وغيرك، ولا بما أنت به غيرك وأنت، ولكن بما أنت به كنت مرة أنت، وإذا حللت هذا العالم لم تكن هناك، لأن الكون يعقبه فساد ولا فساد هناك. فإذا لا كون ولافساد. ومن الكون والفساد رقوك، ومن الشيء وضده علوك وبالشيء الذي لاإسم له عندنا حلوك. يا هذا أنت خلاصة ذلك العالم في هذا العالم، ولكن علاك من الغربة هنا شحوب، ونالك عناء وكد ودروب ومسلك كلال وتعب ولغوب، فأنكرت نفسك، وأنكرك الناظر إليك، لأنك ثبت فيك ما غيرك، ولهج بك من كذبك وغشك، وصحبك من استعزك وغرك، وملكك ما عافك وصدك، فلما ضللت الطريق لزمت. مكانك، وعكفت على ما يعلك، فألفت ذلك المألف الوضيع، فلما أراد فطامك ظلت تجزع وتفزع، وتستغيث وتستصرخ، وأنت الجاني على نفسك. فمن يصرخك، وأنت الموبق لنفسك فمن ينقذك? هيهات! لا رجعة للطبيعة إليك، ولا عطفة للنفس عليك، ولا أثر عند العقل منك، ولا نسبة لما حل عن هذه كلها فيك. شقيت فبدت، ولو سعدت لبقيت. ومن تمام مصابك أنه لا مفجوع به غيرك. ولا باك لك سواك، فعلى نفسك نح إن كنت لا بد تنوح.
فلما غمرنا هذا الشيخ بهذا الفن وطرحنا في هذا الوادي سكت سكتة أوجب علينا حسن الأدب التفرق عنه. فما مرت أيام حتى نظمنا ذلك المجلس وضمنا مثل ذلك الأنس، فقال له بعض أصحابنا، وأظنه أبا الخير اليهودي: إن أذنت لنا في تمام الذي من تلك الجهة العذبة? فأنا صدرنا عنها وبنا برح، ومن وهب الله له ما وهب لك خليق بالجود على المستحق، ومن عرفه الله ما عرفك حرى بالتلطف في المسألة، وأنت بحر الله في الخلق تقذف بالجواهر، وشجرة العقل في العالم تخرج ضروب الثمر في كل حين وإبان، فلا زلت مكنوفاً بالمعرفة، مؤيداً بالنصرة، جواداً بالعطية، بداء بالرفد، محبباً إلى القلوب حالياً بالعيون، ممدحاً بالألسنة، وصحوباً بالتوفيق، مذكوراً بالثناء الفائق متنافساً عليه بالطارف والتالد.
فقال: لولا أني أعلم أن عشق الحكمة حرككم بهذه الكلمات الغر وهذه الفقر التي توفي حسناً على الدر، لأثنيت عليكم، ورددت أنفاسكم إليكم، شفقة على مروءتكم من عادة المتملقين، وصيانة لأعراضكم عن دنس المماذقين، فجولوا الآن فيما أحببتم فما يبخل بالحق على أهل إلاشقي، ولا ينفس بالصواب على طالبه إلا دني ردي.
فقيل له: فما العقل? فقال: العقل خليفة العلة الأولى عندك، يناجيك عنه ويناغيك به، ويبلغ إليك منه ويدلك على قصده والسكون في حرمه، ويدعوك إلى مواصلته والتوحيد به، والإهتزاز إليه، والإعتزاز به. وهذا كله نصح لا غش فيه، ورفق لا عنف معه، وبيان لم يخلط به تلجج، ويقين لا يطيف به تخلج.
قيل له: فقد قيل إن العقل مأخوذ من العقال.
فقال: هذا كلام خلف، ومعناه دنس، ودعوى متهافتة، إنما يدل الإشتقاق من الكلمة على جهة واحدة ، والمطلوب المتنازع، لأنه مأخوذ من تركيب الحروف وتأليف اللفظ وصورة المسموع. أترانا إذا نطقنا بلغة أخرى، بالرومية أو الهندية، بمعنى العقل لكنا نريد به معنى العقال? لا والله! بل هذا المعنى موجود أيضاً في صفاته، ومذكور أيضاً عرض ما ينعت به، لأن العقل يعقل أي يمنع ويحبس، وهو أيضاً ينتج ويطلق ويسرح ويفرح، ولكن في حال دون حال، أمر دون أمر، ومكان دون مكان، وزمان دون زمان، بل العقل إذا دنوت إليه وهو في يفاع القدس ومعنى الآله ينعت إنه صورة أحدية أبدية سرمدية مشاكهة للمبدأ الأول مشاكهة يكاد بها كأنه هو، فكل من نال من هذه الصورة وهذا الجوهر وهذه العين نصيباً وحصة بمزاجه المعتدل والمنحرف، وطبيعة المواتية والأنية، وطينته الندية واليابسة، وقوته الفاعلة والمنفعلة، ونفسه السمحة والجامحة،وآدابه الحسنة والسيئة، وعاداته الكريمة واللئيمة، كان ذلك مطية سعادته وشقاوته، ومبلفاً إلى صحة بقائه وفنائه، وباباً إلى تمامه ونقصه، وطريقاً إلى استقلاله وشذوذه، وكلا ائتلف له بعض مضموم إلى بعض، ومجموعاً انتظم من مفرقه، وخصوصاً صفا له من عمومه أو مركباً عاد إلى بسيطه، وبدداً صار إلى نظامه، ومنقوصاً قدر على تمامه، وباغياً تخلص من نشدانه بوجدانه، ومهجراً وصل إلى حبيبه، ومقيداً أطلق من قيده، ومنفياً اعترف بنسبه، وذليلاً ألبس ثوب عزه، وضالاً هدى إلى روحه ونعيمه.
ثم قال:والكلام في العقل والعاقل والمعقول واسع، ولسنا نقدر على أكثر من هذا الإيضاح في هذا الوقت مع تقسم البال وانبتات الوقت.
قيل له فما: الروح? قال: قوة منبثة في الجسم بها قوامه في الحس والحركة والسكون والطمأنينة ومبدؤها من ائتلاف الاسقصات، ومادتها في جميع ما لاءمها ووافقها من ضروب الأغذية، النبات وغير النبات، وهي تابعة في الأصل خواص المركبات. وقد ظنت العامة وكثير من أشباه الخاصة أن النفس هي الروح، وأنه لا فرق بينهما إلا في اللفظ والتسمية، وهذا ظن مردود، لأن النفس جوهر قائم بنفسه لا حاجة بها إلى ما تقوم به، وما هكذا الروح، فإنها محتاجة إلى مواد البدن وآلاته، وبها يوجد ويصح، وبها يبطل ببطلان البدن، ولو أردنا استقصاء الفرق بين هذين احتجنا إلى الحدين المعروفين مع الشرح الطويل. وهذا القدر كاف في جملة هذه المسائل.
قيل له: فما الرأي? قال: شيء من تلقيح الظن والتوهم بشركة العقل والتجربة.
قيل: فما السعاد? قال: نيل النفس طلبتها.
قيل: فما طلبتها? قال: عودها إلى معادها برية من كل دنس وروب، خالصة من كل عارض وشوب.
قيل: فما تفسير عودها?
قال: كلمة مشكلة والإشارة دقيقة، قال: يجب أن يقال على التقريب: عودها إنما هو استكمالها وبلوغها غايتها التي كانت قبلتها ومقصدها.
قيل: فما الجود? قال: بذل ما حواه الملك من المال وما حوته النفس من الحكمة، بصفاء من المن، وخلوص من الكدر.
قيل له: فما الظن? قال:قوة وهم لا دعامة له من العقل ولا إياد له من العيان.
قيل له: فما الوعد? قال: قول يحاسن به قلب الموعد بانتظار الخير.
قيل له: فما الوعيد? قال:كلام ينفر به عن توقع المروه وحلوله.
قيل له: فما الحكمة? قال: القيام بحقائق الإعتقاد في العلم، والتناهي في الإجتهاد ببذل الوسع في صلاح العمل.
قيل: فما العالم? قال: صنم مزين.
قيل: أفقديم هو أم محدث? فقال: محدث ولكن في هيئة قديم، وقديم ولكن في معرض محدث، فأما القدم له فبحق المماثلة للعلة الأولى والتوشيح للعالم عن الجود الدائم، وأما الحدوث فبحق العيان الذي يشهد من ناحية المعلول الثاني.
قيل: فما الدنيا? قال:لعب ولهو وغفلة وسهو، وهي في غيب ظاهر عيان ومصحوب حسن ومفارق لحقيقة عقل.
قيل: ثم ماذا? قال: شاهد كذوب، وزخرف خلوب.
قيل: ثم ماذا? قال: موجود ولكنه معدوم، وحقيقة ولكنه باطل، ويقظة ولكنها حلم وكون ولكنه في طي اضمحلال، واضمحلال ولكنه في طي كون، ومتصرم يشير إلى الدوام، وغاش في جلباب نصيح، وعدو في ثياب صديق.
قيل: فما الإنسان? قال: شخص بالطينة، ذات بالروح، جوهر بالنفس، ألة بالعقل، كل بالوحدة، واحد بالكثرة، فان بالحس، باق بالنفس، ميت بالإنتقال حي بالإستكمال، ناقص بالحاجة، تام بالطلب، حقير في المنظر، خطير في المخبر، لب العالم. فيه من كل شيء شيء، وله بكل شيء تعلق، صحيح بالنسب إلى من نقله من العدم، قوى النسب لمن يستفيد عن أمم. أخبار الإنسان كثيرة، وأسراره عجيبة، من عرفه فقد عرف سلالة العالم ومصاصته، وقد حوى جوهره شبها من كل ما يعرف ويرى، فهو مثال لكل غائب، وبيان لكل شاهد، هيوب عجيب الشان، شريف البرهان، غريب الخبر والعيان.
قيل له: فما الشريعة? قال: هيئة في آخر الذروة البشرية، تصدر عن القوة الآلهية، وتنشأ لها من النفس فواتح طبيعية، وأوائل حسية.
قيل له: أفما صدر من العلو أشرف أم ما نشأ عن السفل.
فقال: فاتحة القوة الصادرة من هناك أشرف، وغاية الناهية من ها هنا أسرف. قال: وما يوضح هذا أن تلك ترسخ في الزمان بعد الزمان لأنها في غايتها تقوي وتصح وتظهر وتنبث وتتمكن وتثبت. وسعادة الشريعة علمية وفيها أفناء الحكمة، وسعادة الفلسفة عملية وفيها حقائق العمل، والعمل وصف آلهي، والعمل نعت بشري، وتلك استصلاح القوب النافرة، واستجماع النفوس الشاردة الآبية. وهذه روح للنفوس المكروبة، وجلاء للصدور الصدية، وارتقاء إلى المعارف العلية، بالسيرة المحمودة المرضية. وتلك تعطيك جملة مقنعة، وهذه تعطيك مفصلة مونقة. ومتى أراد شرعي أن يعرف الطبيعة والنفس والعقل والأول وآثارها وأسرارها وعيونها وودائعها وما في أعماقها، قد ألقي إليه، وقصر باله عليه، ونبطت عروقه، وفجر ينبوعه منه، لم يجد سبيلاً إلى حرف منها إلا برمز غير شاف، وعلامة غير بالغة، ودعوى غير مثبتة. ومتى رام فيلسوف أن يضع ناموساً إلهياً محلا بالكلمات الصحيحة، مؤيداً بالعقول السليمة، مجموعاً فيه مصالح البرية، قدر علىذلك. وقد تم هذا في قديم الدهر عند مس الحاجة إليه ثم دثر على الأيام كما دثر سائر ما يأتي عليه الزمان.
وكان جميع ما ثقفناه ولقناه عن الشيوخ في مجالس مختلفة مع جماعة متفاوتة فلذلك ما استوثق هذا القدر الذي ملكته هذه المقابسة، وقد بقي شيء يسير وأنا أجمله بتمامه إن شاء الله تعالى.
قيل: فما الموجود? قال: ليس فوقه ما ينعت به، ولا دونه ما يحط إليه، لأنه لولان فوقه غيره لكان أيضاً موجوداً ولو كان دونه لكان أيضاً موجوداً. فعلى هذا كما تراءى للعين، أوثبت للحس، أو انتصب للنفس، أو تحقق بالعقل، من غير فرض ولا توهم ولا وضع، فهو موجود إما بالقوة وإما بالفعل.
قيل له: فما الغنى?
قال: صورة العقل بالحس المتناهى، مطلوب بكل غاية، محفوظ بكل رعاية، مؤثر بكل إيثار، مختار بكل اختيار، غاية كل طالب، ويقين كل شاك، وسكون كل قلق، وراحة كل متحيز، بسيط العقل، مركب بالحس، مظنون بالظن، موهوم بالوهم، نظام كل موجود، وقوام كل محدود، وتمام كل مشهود. ثم قالف: ومن عجائبه أن من حاول إظهار باطل لا يستطيعه ولا يقدر عليه ولا يتمكن منه بوجه ولا بسبب حتى يشوبه به أو بشيء منه، لا يقبل وهو صرف، ولا ينقاد وهو بحت. هذا يدل على أن هذا العالم الذي هو في هيئته باطل لكونه وفساده، ومفتقر إلى ذلك العالم الذي هو في حقيقته حق لصحته وتمامه، واستقامته والتئامه، ولأنه لا طريق للكون والفساد إليه. هذا إذا كان المبطل قاصداً الباطل باختياره وحوله وقد يكون الإنسان على غيرهذا الرأي تبأن يقصد الحق المحض والصواب المجرد فلا يبلغ أيضاً غاية مراده إلا بشيء يخلص إليه من غير أن يستصحبه أو يريده أو يرومه. وهذا لأن الناظر في الحق الطالب للحق، ممزوج مركب ومشوب مخلط، لا يكمل له شيء من حظيرة العقل الإنسي يلتبس به من ناحية الحس، وهو في الأصل متهيء لقبول ذلك. لأن معجون طينته ومركب نصابه وأول سوسه هكذا وقع وعليه استمر، ولهذا يعينه بالتكثر عليه أسهل من التوحد، والتوحد عليه أعسر من التكثر. ومن له بالبراءة من هذه الحال، وتقديس نفسه من هذا الدنس، وهو ذو أنفس ثلاث: ناطقة هو بها أقل، وبهيمة هو بهتا أكثر، وسبعية هو بها أظهر? وهذا الإعتبار يقتضي أن يكون بالأكثر أكثر، وبالأقل أقل. ولما اتفق بالعرض أن يكون هذا الإنسان واحداً في الغاية طلبت له صورة الوحدة من الثلاثة. وهذه الصورة تلتئم من الثلاثة، واستحال أن يكون مركباً بالنفس الواحدة، أعني الناطقة، لأنها لا تقبل التركيب. ولهذا تجد الأجرام العلوية بواطن لأنها عادمة للمزاج والتركيب والشوق. فلما كان الإنسان متقوماً من جزء ناطق، وجزء حي، وجزء مائت، وكان بالناطق يفهم ويرتب ويهذب، وبالحي يحس ويتحرك ويسكن، وبالمائت ينتهي ويفسد ويبطل، كان جميع ما يحيط به عقلاً، أو يدركه حساً، أو يفرضه مدخولاً، ناقصاً متخفياً متلوماً. حتى إذا قوى الجزء الناطق الآلهي واقتنى خصائصه وملك ما هو اللائق به من العلم الحق والعمل الحق، حينئذ أهل الجزءين، أعني ما هو متحرك حساس وما هو ميت باطل، وإن شئت ما هو بهيمي وبه يسعى? خلص إلى أفقه العلي ومكانه البهي، خلوصاً يريحه من كل ما عاق التركيب والتقليب والإستحالة والإستبادة والعفاء والدثور، والصواب المتحلي، والجود المعتاد، والزهد المقدم، ورفض سائر ما عاند الفضائل وحجب عنها وحال دونها، فلا زال هناك باقيا بقاء لا آخر له. وكيف يكون له آخر وانقطاع وحيلولة وارتجاع، وقد استفاد ذلك البقاء من الحق الأول والموجود الذي ليس قبله موجود بالتشبيه والإقتداء والمماثلة والإهتداء والتعمم والإرتداء? هذا مالا يجوز أن يظن بحس أو بعقل. وأنت ترى في الشاهد ملكاً حكيماً صارماً شهماً سائساً جلداً يرغب كل أحد من خدمه وخاصته، ورعيته وأوليائه في خدمتهن وحضور مجلسه في التشبه به وبأخلاقه وهممه، طلباً للكرامة منه، والحظوة عنده، وعلماً بأن القرب منه والدنو إليه مصرفة للآفات عنه، مجلبة للعزلة، مدعاة للأماني عنده، وأن الأطماع تنقطع عنده، والجاه والقدرة يعظمان به، والعزة والمجد يسعان به عليه، وترى كل واحد من الخاصة والعامةيبذل وسعه، وينفد جهده، ويسأل عما يمكنه يمينه لينال تلك الحال، وتلك المنزلة، وتلك السعادة، وتلك الغبطة، فإذا كان هذا في المثال الحسي على ما تجده من غير شك ولا مرية، فما قولك في الحقيقة العالية والغاية الآلهية والنهاية الأصلية?! يا هذا إن الأمر لعظيم، وإن الشأن لخطير، وإن المطلوب لعزيز، وما هو إلا أن تصمد نحو السعادة بتطهير الأخلاق، وتجريد العادة، وإصلاح السيرة، وتقديم الجد في الرأي، وقصد العزم بالجزم، وتوخي العمل بما له مرجوع، في العاجل بالثقة، وفي الآجل بالحقيقة، مع الإشفاق على تضييع الزمان وتصرم العمر وتقطع أنفاس الحياة حتى تلقط المشتري والزهرة بيدك، وتخرق كل حجاب دونهما بجوهرك وتصير فوقهما بحقيقتك، وتنال حينئذ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا سنح على بال أحد من الإنس. فليكن ميل مثلكم إلى الحكمة ميل من يتخذها مطية لدرك الأمل، فإنه سيجدها كنزاً نافعاً في آخر العمل لا ميل من عادل بها، وليسع بذكرها ويعرضها في أسواق الجهال، وينادي عليها بين السفهاء والأنذال، ويرضى بعرض الدنيا خلفاً وبدلاً عنها، فكل ما كان هذا دأبه فقد انغمس في بحر الشقاء وسقط في مثوى البلاء والفناء لا يرتجي لدائه برء، ولا لعلته شفاء، ولا لصرعتهه انتعاش، ولا لأسره فكاك. أخذ الله بنواصينا ونواصيكم إلى ما أعده للأخيار الأبرار. تحولوا عن هذه الدار بحسن الاختيار لا بقبح الاضطرار. والسلام.
تمت المقابسات ولواهب العقل المجد سرمداً، وصلاته وسلامه وتحياته وإكرامه على سيدنا محمد النبي المبعوث إلى الخلق كافة وآله، لا إله إلا الله، ولا معبود سواه
فقال: الحد صحيح، ولكحن المخحجوج غير موجود.
فتعجبنا منه، فلما رأى ما اعترانا: قال: تأيدوا وتثبتوا فليس التسرع بالإنكار من أخلاق بغاة الخير وسجايا طالبي الحق. إن الحد الذي قلتم حاكين عن الحكيم صنع من ناحية العقل المحدود وفرض في عالم الحس فتناصفنا هناك بالدلالة عليه لم يكن أن يوجد ها هنا بالإشارة إليه، وذلك أن الوحدة التي في العقل تصور كل شيء بصورته التي لا كثرة فيها ولات اختلاف والتعاند إما ظاهرين وإما خفيين. وقد صح أن الإنسان ذو طبيعة ومزاج وشكل وأعراض متفاوتة كثيرة، فإذا ما صادف آخر وهو أيضاً ذو طبيعة أخرى وخواص أخرى، إما زائدة على ما لصاحبه، وإما ناقصة عنه، عرض حينئذ التفاوت والإختلاف بالواجب لا محالة. فمتى يكون هذا الإنسان على ما وصفنا هذا الإنسان والحال على ما وقفت عليه وبانت لك حقيقته وأيهما ينبغي أن يتبع صاحبه ويأخذ عنه ويقتدي به ويأخذ بيده وينطق بلسانه ويهم بقلبه ويتصرف على إرادته وكلاهما على رتبة واحدة ف يالحد الذي وصفت في الصديق، فإن أوجبت على أحدهما طاعة الآخر والإقتداء به فهذا خلاف الصداقة التي تقدم حالها، لأن هذهالحال بالعالم والمتعلم أشبه وبالتابع والمتبوع أشكل.
فقلت له: فعلى هذا فائدة هذا الحد? ولم قال الفيلسوف شيئاً لا حقيقة له ولا دلالة عليه ولا يوجد في الشاهد أصله? فقال: قد قصد بهذا الحد المبالغة في الحس على توخي الصديق لصديقه حالاً لا يكاد يفصل بينهما في إرادة وإيثار وقصد ومحبة وكراهية ومرضاة، فإن هذا الحد إذا لحظ أفقه العلي سلك إليه بالهمة الشريفة والعزيمة التامة والجد البليغ والإجتهاد المستخرج للوسع، فيكون لك داعية إلى الغاية التي كلما قرب منها كانت الحال أعني الصداقة إلى الحقيقة أقرب، وعليها أشمل، وبشرائطها أجمع، وعما يخالف هذه الصفات أبعد. ثم قال:وكيف يصح هذا الحد في الشاهد والحس، والإنسان إن كان وحده لا يلائم نفسه ولا يوافق أبداً رأيه، ولعله يترجح وينكفئ في كل يوم، بل في كل ساعة مراراً كثيرة مثل أبي براقش كل لون لونه يتخيل.
وقال أيضاً: إن الإنسان وإن كان واحداً بوجه فإنه كثير بوجه آخر فالكثرة التي حالت بينه وبين صديقه في جمهور أحواله، فلو لا التفرق الذي فيه والكحثرة التي تتوزعه، ما كنت تجد إنساناً إلا على هيئة واحدة وشكل واحد، أعني أنك كنت تجده أبداً إماطلق الوجه، ومبتسم الثغر سهل الخلق، ناشئ الخلق، جواداً بالمال، عسر المرام، بعيد المنال، مولعاً بالخلاف، أو فيما بين ه1ه الأضداد بالزيادة والنقصان والإنحراف والإعتدال. فلما وجدته على أحوال مختلفة وأشكال مفترقة وأخلاق لا تتلائم ولا تتلاحم علمت أنه إذا صادف من هذا بعينه وطينته، وعلى هذا ديدنه وإليه حنينه ونزوعه، وفيه غروبه وطلوعه، كان المعنى الذي انبني عليه الحد عنهما أبعد وهما عنه أنفر وأشرد، وأن ذلك الحد صدر عن فضاء العقول وعرصة الحق حيث لا نتزاحم الأشياء لا بالمشاكلة ولا بالمعتاندة، فلذلك ما كان حلواً في السمع مقبولاً، كريها عند العمل مهجوراً.
وهكذا حكم ما يوضع بالعقل ويحد به إذ كان لا يكمل ذلكإلا بالمباشرة الحسية الكلف البشرية والعادة الإنسية، ولكن الزماع والصبر والاجتهاد والاعتياد والرياضة والدربة والتسبب والتعود مطايا مبلغة أو مقدمة، وأسباب محققة أو مقومة، ولولا هذه الفضائل التي يسلك إليها هذا السبيل لما وجد أحد في صدره برد اليقين ولا طمأنينة الحق، ولا ظفر بسرور النفس ولا عرف روح العقل، ولا أحس بسكون الطباع، ولا طمع في إصابة المطلوب، ولكان اليأس أغلب من الرجاءن والقنوط أرسخ من الأمل، والعدم آنس من الوجد، وليس الأمر كذلك، بل النعمة سابغة، والدواعي محركة، والإستطاعة حاضرة، والعناية معرضة،والرجاء مطمع، والمراد مزمع والنداء عال، والنجاء متوال، والله موفق. وليس يبقى حاطك الله إلا الفسولة والكسل، وحب الهوينا والضجر، ومتى تدرج في نفي هذه الرذائل المكروهة والأرادات الذميمة، بالزهد في الدنيا، ورفض الشهوات، ومخلطة أقران الخير، ومجانبة خلطاء السوء، عاد البعيد قريباً، والعسير منقاداً، والممتنع مستجيباً، والعاصي طائعاً.
قيل له:إن الحد قد حوى هذا كله لأنه قيل: هو أنت إلا أ،ه غيرك بالشخصن فبالموافقة يكون أحد الصديقين الآخر، وبالمخالفة يكون الشخص آخر.
فقال: ليس بجائز أن يكون في الحد تناقض، ومتى استجيز هذا جاء الفساد الذي لا يخيل على أحد إن كان المراد بأنه بالشخص غير كأنه يوجد سواك، وتوجدسواه، فهذا لا مرية فيه ولا شبهة على أحد منه، والعدو أيضاً كذلك. وإن كان المراد به يوافقك ويجري على هواك وإرادتك، فقد قلنا إن هذا الوصف يدخله ذلك التعاند الذي تسلف استشفافه واستكشافه من جهة الطباع والطباع، والعادة والعادة، والمراد والمراد، والهوى والهوى، والشكل والشكل، فإذاً الحد يصح ملحوظاً بشرح العقل في عالمه النقي البهي المشرق المؤتلق الخالص النير البحت، لا إذا قصد به وجدانه فيساحة الحس الكدر المظلم السيال المتموج المضمحل المستحيل. ولهذا المعنى كان الوصف أبداً زائداً على الموصوف، والقول فاضلاً عن المقول عليه في أمور هذه الدار، وتفصيل أحوال سكانها في جميع ما يتقلبون فيه ويتفرقون عليه.
قيل له: قد حصلنا حميع ما قلته ووجدنا في أنفسنا زيادة كثيرة لمعرفته أفدنا الآن الفرق بين الصداقة والألفة? فقال قد يألف الإنسان ثوباً وزياً وطعاماً وهدياً ومذهباً ومكاناً، ولا يصادق شيئاً منها، والصداقة إذا أخذتها من جانب اشتاق لفظها كانت من الصدق، ولاصدق ميزان النفس وصورة العقل وكمال الجملة وزينة التفصيل، وإذا ألف إنسان إنساناً فقد أجراه مجرى جميع ما سميناه، وإذا صادقه فقد رفع شأنه وأعلى مكانه وميز قدره وأفرد حاله فيما لا يصدف إذا حدث ولا ينصف إذا عومل.
قيل:فعلى هذا يتمم هذه المقابسة التي حركت منا سواكن، وأثارت علينا كوامن.
فقال: إعملوا ما بدا لكم من الخير فالحكم خلس، والفوائد قرص، وليس كل وقت يوافق نشاط السائل في سؤاله رغبة المسئول في إجابته، ولا في كل حال يمكن للإنسان أن يثقف ما يقول ويقوم ما يعمل ويحقق ما ينوي قبل وبعد، وإني أحدثكم عن الصداقة شيئاً حسناً.
قرأت في أخبار الملك الحكيم الإسكندر أنه كتب إلى معلمه أرسطو طاليس يصف له ما رآى في مسيره إلى الهند تمن الأمور العجيبة، والأحوال الهائلة، فكان فيما كتب له: أيها الحكيم، إننا انتهينا إلى خليج من البحر من ورائه مدينة عظيمة من مدائن الهند، ورأينا في اللجة من ذلك الخيلج شيئاً ناشزاً بارزاً كهيئة الجزيرة فأردت عبوره فمنعني منه صديقي فليون وقال بل أعب أنا أولاً، فإن كان هناك مكروه وقع في دونك، فإنه إن هلك فليون وجد الإسكندر منه خلفاً، وإن فقد لاإسكندر، لا فقد، لم يكن على وجه الأرض خلف. فعبر فليون وعدة من خلاني وخلصاني، فإذا ذلك الذي رأينا في البحر دارة عظيمة من دوابه، فلما دنا أصحابي منها غاصت في البحر فاضطرب الماء وغشى الموج سفائن أصحابي فأغرقها، فلما شاهدت ذلك اشتد جزعي على صديقي فليون ومن غرق معه من خلاني، وانصرفت عن ذلك بقلب مصدوع، وطرف مولع بالدموع.
فسئل عند هذه الحكاية عن مسائل من شكل حقائق الصديق فأجاب عنها غير متكلف ولا متعسف بعد تفاد ظهر واستعفاء قدم وأخر.
وقال: كل مسألة من هذه المسائل تستوعب فكر النفس، وتفرق بال الإنسان، وتأخذ به في أقطار العلم، وتضله في قفار البحث؛ وما أحب أ، تسجل علي بكل ما يسمع مني، فرشائي قصير، ووردي ثمد، وحظي نزر.
فقيل له على ذلك: أخبرنا ما العشق? فقال: تشوق إلى كمال ما بحركة دالة على صبوة ذي شكل إلى شكله.
قيل له: فما المحبة? قال: هي منوال العشق، إلا إنها محاولة الحال إلى الإتصال، إتصالاً يرفع التميز رفعاً، ويقطع التحيز قطعاً، وتحدث الكلف، وتورث التلف.
قيل: فما الكلف? قال: كأنه اللزوم للشيء.
قيل له: فما الشغف? قال: قريب من الكلف، وهو أشد ارتفاعاً في ملازمته من الأول على أنا إن أنصفنا لم نقل في هذه الأسماء شيئاً لأن حدودها وحقائقها لم تنته إلينا صحيحة تامة غير مخرومة ولا مثلومة، وإنما نصفها ائتناسا بها وببعض علائقها لا إطلاعاً على جميع غوامضها وخوافيها، وعلى جميع ما دخل فيها وفي غمار أخواتها. فلتكن الحال معروفة عند المعيب والعائب إذا عثر على زلة لم يعر منها أحد من البشر وإن لطف عقله ورقت حاشية كلامه وتهودى سماع لفظه بسمع كلامه وتزين في بديع خطابته، ولا غضاضة على من إذا قصر قصر من جهة يشاركه فيها بنو جنسه.
قيل له:إنما الصداقة لغة، وهي أم هذه المقابسة.
فقال: صحة الظاهر بالموافقة، وسلامة الباطن من المخالفة، واستقرارها على حد المواصلة بالمناصفة والمساعفة والإيثار، مع الإهتمام بكل دقيقة وجليلة، والإحتياط في كل ما حرس أسباب القوى الزلفة، واطرح كل ما أشار إلى المؤنة والكلفة.
وقيل: إن رأيت زدت في المحبة كلاما? فقال: المحبة أريحية منتفثة من النفس نحو المحبوب لأنها تغذو الروح وتضني البدن و لأنها تنقل القوى كلها إلى المحبوب بالتحلي بهيئته، والتمني بحقيقته، بالكمال الذي يشهد فيه. فالشوق يتوفر عليه، والشوق شاغل عن كل ما عدا المشتاق إليه، وهو وقوة تسافر من هذا إلى هذا، زادها الأطراق والتفكير والوجوم والسهر والتتبع والتحير.
قيل: فما المعرفة? قال: إن كانت ضرورة فهي نتيجة الفطرة، وإن كانت استدلالاً فهي ثمرة الفطكنة، ولا بد فيها من البحث الطويل والعريض، والسماع الواسع الكبير، لأن النفس الناطقة لا تعطيك مكنون ما فيها إلا بتصفحك كل ما هو دونها من أجلها.
قيل فما العلم? قال: قال بعض الأوائل: هو الرأي الواقع على كنة حقائق الأشياء وقوعاً ثابتاً لا ينتقل عنه.
قيل له:قد استفدناه فيما يحكي، وإنما نرغب إليك فيما حاكه فضلك واستنبطه فكرك، وجاد به عقلك، وانتهى إليه فضلك? فقال: العلم وجدان النفس مطلوبها توحدت به واتحدت فيه لهما، وهذه صورته عندنا، وشك الإنسان بعد ذلك بالرأي الضعيف الظن السخيف من ناحية الطبيعة والعادة، لأن ما جرى مجراهما لا يتحيف بحصولها ولا يسلبها ما صار بالواجب لها.
وقال: والعلم انفعال ما ولكن باستكمال يؤدي إلى النفس سرورها، وحبورها اللذان هما خاصان لهما. والمعرفة تنفذ في الأشباح المائلة و الإحساس القابلة. والعلم ينفذ في الأرواح القابلة للمعقول، وقد يتعادلان عند العامة كثيراً لدقة الفرق وغموض الفصل، وذلك أن العامة تطلق كلامها تحريفاً وتخويفاً، فتزل عن كنه الحقائق لإلفها حضيض الأمور بما تراه العين وتسمعه الآذان، ومن وراء البصر والمسموع معادن الحكمة الآلهية وبحار الأسرار الملكوتية، ومصادر نفس الأنفس الزكية، وموارد طمأنينة الأرواح الطينية، ومعارج رواد العقول الصافية.
قيل: فما التوحيد? قال: اعتراف النفس بالواحد لوجدانها إياه واحداً من حيث هو واحد لا من حيث قيل إنه واحد. وهذا هو الحد بين توحيد الجمهور بالتقليد وبين توحيد الخاصة بالتحقيق. فأما اعتراف اللسان فهو ثابت عن اعتراف النفس إذا كانت هذه النيابة على حد الكمال ولم تكن تليقينا من عامة الناس.
ثم قال: وليس معنى قولنا وحد فلان أنه قال هو واحد، هذا مفهوم العامة لا معقول الخاصة؛ بل معنى قولنا وحد أي عرفه واحداً، وعلمه واحداً، وأثبته واحداً، ووجده واحداً، لا لأنه نفى عنه الثاني والثالث فصاعد، وكيف ذلك، ولا ثاني له فينفي، ولكن لأنه واحد وحده، بل هو وحده واحد لا على سبيل تنسيق العبارة على عادة أصحاب اللفظ، لا على تعقيب يقتضيه إلف أكثر الخلق، بل على لحظ ذات لا شوب فيها وتجريد أنية لا نعت لها وإشارة إلى هوية لا عبارة عنها.
ثم قال: وهذا موضع يزيغ عنه العقل الإنسي، ويوسوس منه الإنسان العنصري، وذلك لأن العقل يجد العلة الأولى وجداناً على أتم صورة وأشرف نعت، وأبلغ قول، فيهش إليه ويتهالك عليه، قابلاً لفيضه، ومقتبساً من ذاته، وسابحاً في جوده، ومتشبها بحقيقته، ومناسباً بنعته، يتحلى به من كان به عاقلاً ومن كان به كاملاً على ما دونه وعزوفاً عما سواه، فلذلك يظن الإنسان إذا سما عقله إلى هذه الآفاق العلية ودنا نحو هذه الغايات البعيدة أنه خولط وجن وأنه وسوس، وهذا عار يحل على بؤبؤة العين وناظر الحدقة في حيث هذه الحدائق المؤنقة، والظلال الريحة، والثمرات الحلوة والنعمة الدائمة، والسعادة الحاصلة، والأمنية الشاملة.
قيل: ينزل قليلاً عن هذه الربوة فإنها قد أخذتنا عن درجاتنا ومقاماتنا إلى ما هيئنا لمعرفة هذه الدقائق والتوغل في هذه الأعماق ما الفتوة?
قال: طهارة الحدة والطراوة في كل حال مباشرة، لأنها متى فقدت جاءت الخلوقة والرثاثة، ومن ذلك سمي الفتى فتى، والفتى فتياً لأن الكرم والمجد والجود والعفة والنجدة وكبر النفس وعلو الهمة وسائر خصال الفضل والخير غضة في كل زمان طرية في كل مكان، كان الطاهر بها والمطهر لها والمؤثر لأجكامها والمجدد لرسومها فتى وصاحب فتوة.
قيل له: فما المرؤة، فإنها تتبع الفتوة? فقال: هي القيام بخواص ما الإنسان يكون عليه محموداً وبه ممدوحاً، وهي أعني المرؤة أشد لصوقاً بباطن الإنسان، وأما الفتوة فهي أشد ظهوراً من الإنسان، فكأن الأولى أخص، والثانية أعم، أني لا فتوة لمن لا مرؤة له، وقد يكون ذو مرؤة ولا فتوة له، فإما إذااجتمعا فقد أخذ الحبل بطرفيه، وملك الأمر بجنوبه.
قيل له:إن الحسن بن وهب قال: غزل الصداقة أرق من غزل العلاقة. فما وجه هذا القول? قال: صدق، هذه نفثة فاضل قد أحس كمال الصداقة، لأنها مؤثرة بالعقل ومجراة على أحكامه ومحمولة على رسومه، فأما العلاقة فهي من قبيل الحس، والطبيعة عليها أغلب وآثارها فيها أبين. وفي الجملة ينبغي أن يعلم أن ذا الطبيعة مشاكل لذى الطبيعة، وكذلك ذو النفس مشاكل لذي النفس، وكذلك ذو العقل مشاكل لذي العقل، وهذه التفرقة لم تقع من جهة الطبيعة الأولى لأنها واحدة سارية في الجميع، ولكنها وقعت من جهة المواد والقوابل بالزائد والناقص، وهكذا الحال في النفس والعقل، لأن شأنهما أعلى ومحلهما أسنى وأسمى، وذلك أن الطبيعة إنما تنهي الشيء اليسير مما تجده وتحصله من ناحية النفس والعقل، والطبيعة نفس في الأصل، والنفس عقل في الأول، والعقل هو المبدأ، وكل هذا واحد إذا لحظت القوة القائمة والجود المنبجس، والواحد كل إذا لحظ الجود المحض ومتى خلص النظر من شوائبه، وصفا البحث من عواقبه. وارتفع الحاجز الذي قصد وانتفى العارض الذي تعرض، وجدت حقيقة هذه الحال من غير تجوز ولتا اختلاف. فالهوى من عوارض الطبيعة، والحب من علائق النفس، والعشق من محاسن العقل. وكل واجد من هؤلائ الذين سمينا هو صاحبه تفي موضعه، وحكمه بحكمه في مكانه. ومتى اقتص الفاضل الحكيم هذه الأوائل وساق إليها هذه الثواني رقي من الأدنى إلى الأشرف، وانتسب إلى الأقوى دون الأضعف، وهي كالطرق المذللة، والسلاليم الموصلة بخلانيتي وينسب بغيره? حتى إذا أنيل الفوز بمعانية الغاية التي هي الغرض الأول والمراد الأفضل، أدرج ما عدا ذلك كله إدراجاً، وطوى ما سواه طياً. وهذه كالرؤيا لا تأويل لها إلا رياضة الإنسان طبيعته؛ حتى لا يتم إلا ما ينبغي ولا يأتي إلا ما يحب، ولا يقول إلا ما يحق حنينه، لا يتطاول إلى ما ينحط عنه، ولا يتشرف بما يزدهيه، ولن يتم له ذلك أولاً وآخراً إلا بمواصلة العقل وصحبته والعمل برسمه والتسرع إلى قبول نصحه. والعقل وإن لم يكن بأسره عنده فمعه جزء ينزع بشرفه إلى أصله يضيء له بأنوار السيرة الفاضلة والأخلاق الحميدة، ويكف هوائج الطبيعة، ويحسم مواد العادة الرديئة، ويحث على استعدادها لا يستغني عنه في العاقبة، ويوزع العدل الذي هو صورته على الأحوال الراسخة والطارئة، ولن يتم هذا كله إلا بهذا الإنسان دون ، يكون مهيئاً له بالأصل معرضاً له في الفرع.
ثم قال: ولأن تمت فيك ما أحياه الله لك، ولا تزعج على نفسك ما كفه الله عنك، وخذ بآداب أهل الحكمة نفسك وغذ بها روحك، واستر عليها عادتك، واجعل الخير كله إرادتك، ولا تكترث بسيلان طينتك، وذوي عودك، وتعادي أخلاطك، وتزايل أوصالك، وارتداد نفسك، ومفارقة إلفك، واستحالة عنصرك، وفساد مزاجك، ودوام اختلاجك، وتعذر تدبيرك في عاجلك، فإنك باق بحقيقتك، دائم بجوهرك، موجود بذاتك، واحد بأنيتك، كامل في جملتك، سعيد في تفصيلك، عجيب في شرك، ظريف في خيرك، بديع في شأنك، صلة الدهر، وعنوان الغيب، ومحجوب الشاهد، وتمام العين، ونظام السلك، وضالة كل طالب، ورضى كل واجد، ونافي كل وحشة، ومحضور كل أنسة، ورقيب كل حاضر، ونجي كل غائب. هذا بعض حديثك وجزء من شأنك، وبعض ما يترآى بعينك، ويتناجى في أذنك، وينسرب في فؤادك، ويدغدغ في روحك ويجيب عنك ورقك، ويسيغ فيك طرفك، ويريك فيك، ويحول عليك، ويعرضك فيك لك، ويعرفك إباك، ويحدثك بك، ويدنيك منك، ويقربك إليك، ويحضرك بين يديك، ويعيشك ويعشقك، ويجودك ويرودك، ويريحك ويحيطك، ويحبط بك ويحتاط لك. فيا لها عطية يا لها سعادة! لو كان للسامع فطنة بل عزمة بل قصد بل توفيق، إنها لبشرى. أما سرك في الثاني حسن حصلت في الأول من البشر، أما يسرك أن تصفو من هذا الكدر، وتنقى من هذا القشر والقذر، وتصير في زمرة الملأ الأكبر? حيث لا بلاء ولاذوب ولا شؤب ولا غير. حيث لا يصل إليك البطلان، ولا تتسلط عليك الأحزان. حيث تبدو عينك في بهاء شعاع في معدن الأمن والقرار، بعد استيفاء مدة هذا الليل والنهار حيث لا تنطق بلسان يناله عي ولا حصر، ولا تهينم بنفس يعتريها طيش وضجر، ولا تسمع بأذان يلجها أذى، ولا تنظر بعين يغشاها قذى. حيث تستهلك الآلهية البشرية، وتستغرق الربوبية العبودية. حيث لا تنعقد بطين، ولا تنحل بماء، ولا تقلب بهواء، ولا تحرق بنار، ولا تكمل بمزاج ولا تعتدل باخلاط. وبالجملة حيث لا سلطان للطبيعة عليك، ولا سريان لهواها فيك، ولا تخطيط من رسومها وأشكالها عندك. حيث لا تظن فتخظئ ولا تتمنى فتخسر، ولا تأمل فتخاف، ولا تجرك فتسكن، ولا تسكن فتتحرك. حال ثابتة بائنة عما يعتاد من هذا البلد الذي أنت فيه غريب، وإلى وطنك مشتاق. وإن سميتها سكوناً فذلك سكون بهدوء وطمأنينة وأمن وسكينة، وإن سميتها حركة فهي حركة تشويق وتشبه واستمداد واستلذاذ، لا كارادتك التي ألفتها، وعادتك التي عرفتها، وخلالك التي أسلفتها، فلا تسحرنك الأسماء والكنى لهذه الأشكال، ولا يستهوينك هذا الزبرج الذي تلحظ وترى، فوراء حسك نفس، ووراء نفسك عقل، وفي أثناء العقل أنت بما أنت أنت لا بما به أنت وغيرك، ولا بما أنت به غيرك وأنت، ولكن بما أنت به كنت مرة أنت، وإذا حللت هذا العالم لم تكن هناك، لأن الكون يعقبه فساد ولا فساد هناك. فإذا لا كون ولافساد. ومن الكون والفساد رقوك، ومن الشيء وضده علوك وبالشيء الذي لاإسم له عندنا حلوك. يا هذا أنت خلاصة ذلك العالم في هذا العالم، ولكن علاك من الغربة هنا شحوب، ونالك عناء وكد ودروب ومسلك كلال وتعب ولغوب، فأنكرت نفسك، وأنكرك الناظر إليك، لأنك ثبت فيك ما غيرك، ولهج بك من كذبك وغشك، وصحبك من استعزك وغرك، وملكك ما عافك وصدك، فلما ضللت الطريق لزمت. مكانك، وعكفت على ما يعلك، فألفت ذلك المألف الوضيع، فلما أراد فطامك ظلت تجزع وتفزع، وتستغيث وتستصرخ، وأنت الجاني على نفسك. فمن يصرخك، وأنت الموبق لنفسك فمن ينقذك? هيهات! لا رجعة للطبيعة إليك، ولا عطفة للنفس عليك، ولا أثر عند العقل منك، ولا نسبة لما حل عن هذه كلها فيك. شقيت فبدت، ولو سعدت لبقيت. ومن تمام مصابك أنه لا مفجوع به غيرك. ولا باك لك سواك، فعلى نفسك نح إن كنت لا بد تنوح.
فلما غمرنا هذا الشيخ بهذا الفن وطرحنا في هذا الوادي سكت سكتة أوجب علينا حسن الأدب التفرق عنه. فما مرت أيام حتى نظمنا ذلك المجلس وضمنا مثل ذلك الأنس، فقال له بعض أصحابنا، وأظنه أبا الخير اليهودي: إن أذنت لنا في تمام الذي من تلك الجهة العذبة? فأنا صدرنا عنها وبنا برح، ومن وهب الله له ما وهب لك خليق بالجود على المستحق، ومن عرفه الله ما عرفك حرى بالتلطف في المسألة، وأنت بحر الله في الخلق تقذف بالجواهر، وشجرة العقل في العالم تخرج ضروب الثمر في كل حين وإبان، فلا زلت مكنوفاً بالمعرفة، مؤيداً بالنصرة، جواداً بالعطية، بداء بالرفد، محبباً إلى القلوب حالياً بالعيون، ممدحاً بالألسنة، وصحوباً بالتوفيق، مذكوراً بالثناء الفائق متنافساً عليه بالطارف والتالد.
فقال: لولا أني أعلم أن عشق الحكمة حرككم بهذه الكلمات الغر وهذه الفقر التي توفي حسناً على الدر، لأثنيت عليكم، ورددت أنفاسكم إليكم، شفقة على مروءتكم من عادة المتملقين، وصيانة لأعراضكم عن دنس المماذقين، فجولوا الآن فيما أحببتم فما يبخل بالحق على أهل إلاشقي، ولا ينفس بالصواب على طالبه إلا دني ردي.
فقيل له: فما العقل? فقال: العقل خليفة العلة الأولى عندك، يناجيك عنه ويناغيك به، ويبلغ إليك منه ويدلك على قصده والسكون في حرمه، ويدعوك إلى مواصلته والتوحيد به، والإهتزاز إليه، والإعتزاز به. وهذا كله نصح لا غش فيه، ورفق لا عنف معه، وبيان لم يخلط به تلجج، ويقين لا يطيف به تخلج.
قيل له: فقد قيل إن العقل مأخوذ من العقال.
فقال: هذا كلام خلف، ومعناه دنس، ودعوى متهافتة، إنما يدل الإشتقاق من الكلمة على جهة واحدة ، والمطلوب المتنازع، لأنه مأخوذ من تركيب الحروف وتأليف اللفظ وصورة المسموع. أترانا إذا نطقنا بلغة أخرى، بالرومية أو الهندية، بمعنى العقل لكنا نريد به معنى العقال? لا والله! بل هذا المعنى موجود أيضاً في صفاته، ومذكور أيضاً عرض ما ينعت به، لأن العقل يعقل أي يمنع ويحبس، وهو أيضاً ينتج ويطلق ويسرح ويفرح، ولكن في حال دون حال، أمر دون أمر، ومكان دون مكان، وزمان دون زمان، بل العقل إذا دنوت إليه وهو في يفاع القدس ومعنى الآله ينعت إنه صورة أحدية أبدية سرمدية مشاكهة للمبدأ الأول مشاكهة يكاد بها كأنه هو، فكل من نال من هذه الصورة وهذا الجوهر وهذه العين نصيباً وحصة بمزاجه المعتدل والمنحرف، وطبيعة المواتية والأنية، وطينته الندية واليابسة، وقوته الفاعلة والمنفعلة، ونفسه السمحة والجامحة،وآدابه الحسنة والسيئة، وعاداته الكريمة واللئيمة، كان ذلك مطية سعادته وشقاوته، ومبلفاً إلى صحة بقائه وفنائه، وباباً إلى تمامه ونقصه، وطريقاً إلى استقلاله وشذوذه، وكلا ائتلف له بعض مضموم إلى بعض، ومجموعاً انتظم من مفرقه، وخصوصاً صفا له من عمومه أو مركباً عاد إلى بسيطه، وبدداً صار إلى نظامه، ومنقوصاً قدر على تمامه، وباغياً تخلص من نشدانه بوجدانه، ومهجراً وصل إلى حبيبه، ومقيداً أطلق من قيده، ومنفياً اعترف بنسبه، وذليلاً ألبس ثوب عزه، وضالاً هدى إلى روحه ونعيمه.
ثم قال:والكلام في العقل والعاقل والمعقول واسع، ولسنا نقدر على أكثر من هذا الإيضاح في هذا الوقت مع تقسم البال وانبتات الوقت.
قيل له فما: الروح? قال: قوة منبثة في الجسم بها قوامه في الحس والحركة والسكون والطمأنينة ومبدؤها من ائتلاف الاسقصات، ومادتها في جميع ما لاءمها ووافقها من ضروب الأغذية، النبات وغير النبات، وهي تابعة في الأصل خواص المركبات. وقد ظنت العامة وكثير من أشباه الخاصة أن النفس هي الروح، وأنه لا فرق بينهما إلا في اللفظ والتسمية، وهذا ظن مردود، لأن النفس جوهر قائم بنفسه لا حاجة بها إلى ما تقوم به، وما هكذا الروح، فإنها محتاجة إلى مواد البدن وآلاته، وبها يوجد ويصح، وبها يبطل ببطلان البدن، ولو أردنا استقصاء الفرق بين هذين احتجنا إلى الحدين المعروفين مع الشرح الطويل. وهذا القدر كاف في جملة هذه المسائل.
قيل له: فما الرأي? قال: شيء من تلقيح الظن والتوهم بشركة العقل والتجربة.
قيل: فما السعاد? قال: نيل النفس طلبتها.
قيل: فما طلبتها? قال: عودها إلى معادها برية من كل دنس وروب، خالصة من كل عارض وشوب.
قيل: فما تفسير عودها?
قال: كلمة مشكلة والإشارة دقيقة، قال: يجب أن يقال على التقريب: عودها إنما هو استكمالها وبلوغها غايتها التي كانت قبلتها ومقصدها.
قيل: فما الجود? قال: بذل ما حواه الملك من المال وما حوته النفس من الحكمة، بصفاء من المن، وخلوص من الكدر.
قيل له: فما الظن? قال:قوة وهم لا دعامة له من العقل ولا إياد له من العيان.
قيل له: فما الوعد? قال: قول يحاسن به قلب الموعد بانتظار الخير.
قيل له: فما الوعيد? قال:كلام ينفر به عن توقع المروه وحلوله.
قيل له: فما الحكمة? قال: القيام بحقائق الإعتقاد في العلم، والتناهي في الإجتهاد ببذل الوسع في صلاح العمل.
قيل: فما العالم? قال: صنم مزين.
قيل: أفقديم هو أم محدث? فقال: محدث ولكن في هيئة قديم، وقديم ولكن في معرض محدث، فأما القدم له فبحق المماثلة للعلة الأولى والتوشيح للعالم عن الجود الدائم، وأما الحدوث فبحق العيان الذي يشهد من ناحية المعلول الثاني.
قيل: فما الدنيا? قال:لعب ولهو وغفلة وسهو، وهي في غيب ظاهر عيان ومصحوب حسن ومفارق لحقيقة عقل.
قيل: ثم ماذا? قال: شاهد كذوب، وزخرف خلوب.
قيل: ثم ماذا? قال: موجود ولكنه معدوم، وحقيقة ولكنه باطل، ويقظة ولكنها حلم وكون ولكنه في طي اضمحلال، واضمحلال ولكنه في طي كون، ومتصرم يشير إلى الدوام، وغاش في جلباب نصيح، وعدو في ثياب صديق.
قيل: فما الإنسان? قال: شخص بالطينة، ذات بالروح، جوهر بالنفس، ألة بالعقل، كل بالوحدة، واحد بالكثرة، فان بالحس، باق بالنفس، ميت بالإنتقال حي بالإستكمال، ناقص بالحاجة، تام بالطلب، حقير في المنظر، خطير في المخبر، لب العالم. فيه من كل شيء شيء، وله بكل شيء تعلق، صحيح بالنسب إلى من نقله من العدم، قوى النسب لمن يستفيد عن أمم. أخبار الإنسان كثيرة، وأسراره عجيبة، من عرفه فقد عرف سلالة العالم ومصاصته، وقد حوى جوهره شبها من كل ما يعرف ويرى، فهو مثال لكل غائب، وبيان لكل شاهد، هيوب عجيب الشان، شريف البرهان، غريب الخبر والعيان.
قيل له: فما الشريعة? قال: هيئة في آخر الذروة البشرية، تصدر عن القوة الآلهية، وتنشأ لها من النفس فواتح طبيعية، وأوائل حسية.
قيل له: أفما صدر من العلو أشرف أم ما نشأ عن السفل.
فقال: فاتحة القوة الصادرة من هناك أشرف، وغاية الناهية من ها هنا أسرف. قال: وما يوضح هذا أن تلك ترسخ في الزمان بعد الزمان لأنها في غايتها تقوي وتصح وتظهر وتنبث وتتمكن وتثبت. وسعادة الشريعة علمية وفيها أفناء الحكمة، وسعادة الفلسفة عملية وفيها حقائق العمل، والعمل وصف آلهي، والعمل نعت بشري، وتلك استصلاح القوب النافرة، واستجماع النفوس الشاردة الآبية. وهذه روح للنفوس المكروبة، وجلاء للصدور الصدية، وارتقاء إلى المعارف العلية، بالسيرة المحمودة المرضية. وتلك تعطيك جملة مقنعة، وهذه تعطيك مفصلة مونقة. ومتى أراد شرعي أن يعرف الطبيعة والنفس والعقل والأول وآثارها وأسرارها وعيونها وودائعها وما في أعماقها، قد ألقي إليه، وقصر باله عليه، ونبطت عروقه، وفجر ينبوعه منه، لم يجد سبيلاً إلى حرف منها إلا برمز غير شاف، وعلامة غير بالغة، ودعوى غير مثبتة. ومتى رام فيلسوف أن يضع ناموساً إلهياً محلا بالكلمات الصحيحة، مؤيداً بالعقول السليمة، مجموعاً فيه مصالح البرية، قدر علىذلك. وقد تم هذا في قديم الدهر عند مس الحاجة إليه ثم دثر على الأيام كما دثر سائر ما يأتي عليه الزمان.
وكان جميع ما ثقفناه ولقناه عن الشيوخ في مجالس مختلفة مع جماعة متفاوتة فلذلك ما استوثق هذا القدر الذي ملكته هذه المقابسة، وقد بقي شيء يسير وأنا أجمله بتمامه إن شاء الله تعالى.
قيل: فما الموجود? قال: ليس فوقه ما ينعت به، ولا دونه ما يحط إليه، لأنه لولان فوقه غيره لكان أيضاً موجوداً ولو كان دونه لكان أيضاً موجوداً. فعلى هذا كما تراءى للعين، أوثبت للحس، أو انتصب للنفس، أو تحقق بالعقل، من غير فرض ولا توهم ولا وضع، فهو موجود إما بالقوة وإما بالفعل.
قيل له: فما الغنى?
قال: صورة العقل بالحس المتناهى، مطلوب بكل غاية، محفوظ بكل رعاية، مؤثر بكل إيثار، مختار بكل اختيار، غاية كل طالب، ويقين كل شاك، وسكون كل قلق، وراحة كل متحيز، بسيط العقل، مركب بالحس، مظنون بالظن، موهوم بالوهم، نظام كل موجود، وقوام كل محدود، وتمام كل مشهود. ثم قالف: ومن عجائبه أن من حاول إظهار باطل لا يستطيعه ولا يقدر عليه ولا يتمكن منه بوجه ولا بسبب حتى يشوبه به أو بشيء منه، لا يقبل وهو صرف، ولا ينقاد وهو بحت. هذا يدل على أن هذا العالم الذي هو في هيئته باطل لكونه وفساده، ومفتقر إلى ذلك العالم الذي هو في حقيقته حق لصحته وتمامه، واستقامته والتئامه، ولأنه لا طريق للكون والفساد إليه. هذا إذا كان المبطل قاصداً الباطل باختياره وحوله وقد يكون الإنسان على غيرهذا الرأي تبأن يقصد الحق المحض والصواب المجرد فلا يبلغ أيضاً غاية مراده إلا بشيء يخلص إليه من غير أن يستصحبه أو يريده أو يرومه. وهذا لأن الناظر في الحق الطالب للحق، ممزوج مركب ومشوب مخلط، لا يكمل له شيء من حظيرة العقل الإنسي يلتبس به من ناحية الحس، وهو في الأصل متهيء لقبول ذلك. لأن معجون طينته ومركب نصابه وأول سوسه هكذا وقع وعليه استمر، ولهذا يعينه بالتكثر عليه أسهل من التوحد، والتوحد عليه أعسر من التكثر. ومن له بالبراءة من هذه الحال، وتقديس نفسه من هذا الدنس، وهو ذو أنفس ثلاث: ناطقة هو بها أقل، وبهيمة هو بهتا أكثر، وسبعية هو بها أظهر? وهذا الإعتبار يقتضي أن يكون بالأكثر أكثر، وبالأقل أقل. ولما اتفق بالعرض أن يكون هذا الإنسان واحداً في الغاية طلبت له صورة الوحدة من الثلاثة. وهذه الصورة تلتئم من الثلاثة، واستحال أن يكون مركباً بالنفس الواحدة، أعني الناطقة، لأنها لا تقبل التركيب. ولهذا تجد الأجرام العلوية بواطن لأنها عادمة للمزاج والتركيب والشوق. فلما كان الإنسان متقوماً من جزء ناطق، وجزء حي، وجزء مائت، وكان بالناطق يفهم ويرتب ويهذب، وبالحي يحس ويتحرك ويسكن، وبالمائت ينتهي ويفسد ويبطل، كان جميع ما يحيط به عقلاً، أو يدركه حساً، أو يفرضه مدخولاً، ناقصاً متخفياً متلوماً. حتى إذا قوى الجزء الناطق الآلهي واقتنى خصائصه وملك ما هو اللائق به من العلم الحق والعمل الحق، حينئذ أهل الجزءين، أعني ما هو متحرك حساس وما هو ميت باطل، وإن شئت ما هو بهيمي وبه يسعى? خلص إلى أفقه العلي ومكانه البهي، خلوصاً يريحه من كل ما عاق التركيب والتقليب والإستحالة والإستبادة والعفاء والدثور، والصواب المتحلي، والجود المعتاد، والزهد المقدم، ورفض سائر ما عاند الفضائل وحجب عنها وحال دونها، فلا زال هناك باقيا بقاء لا آخر له. وكيف يكون له آخر وانقطاع وحيلولة وارتجاع، وقد استفاد ذلك البقاء من الحق الأول والموجود الذي ليس قبله موجود بالتشبيه والإقتداء والمماثلة والإهتداء والتعمم والإرتداء? هذا مالا يجوز أن يظن بحس أو بعقل. وأنت ترى في الشاهد ملكاً حكيماً صارماً شهماً سائساً جلداً يرغب كل أحد من خدمه وخاصته، ورعيته وأوليائه في خدمتهن وحضور مجلسه في التشبه به وبأخلاقه وهممه، طلباً للكرامة منه، والحظوة عنده، وعلماً بأن القرب منه والدنو إليه مصرفة للآفات عنه، مجلبة للعزلة، مدعاة للأماني عنده، وأن الأطماع تنقطع عنده، والجاه والقدرة يعظمان به، والعزة والمجد يسعان به عليه، وترى كل واحد من الخاصة والعامةيبذل وسعه، وينفد جهده، ويسأل عما يمكنه يمينه لينال تلك الحال، وتلك المنزلة، وتلك السعادة، وتلك الغبطة، فإذا كان هذا في المثال الحسي على ما تجده من غير شك ولا مرية، فما قولك في الحقيقة العالية والغاية الآلهية والنهاية الأصلية?! يا هذا إن الأمر لعظيم، وإن الشأن لخطير، وإن المطلوب لعزيز، وما هو إلا أن تصمد نحو السعادة بتطهير الأخلاق، وتجريد العادة، وإصلاح السيرة، وتقديم الجد في الرأي، وقصد العزم بالجزم، وتوخي العمل بما له مرجوع، في العاجل بالثقة، وفي الآجل بالحقيقة، مع الإشفاق على تضييع الزمان وتصرم العمر وتقطع أنفاس الحياة حتى تلقط المشتري والزهرة بيدك، وتخرق كل حجاب دونهما بجوهرك وتصير فوقهما بحقيقتك، وتنال حينئذ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا سنح على بال أحد من الإنس. فليكن ميل مثلكم إلى الحكمة ميل من يتخذها مطية لدرك الأمل، فإنه سيجدها كنزاً نافعاً في آخر العمل لا ميل من عادل بها، وليسع بذكرها ويعرضها في أسواق الجهال، وينادي عليها بين السفهاء والأنذال، ويرضى بعرض الدنيا خلفاً وبدلاً عنها، فكل ما كان هذا دأبه فقد انغمس في بحر الشقاء وسقط في مثوى البلاء والفناء لا يرتجي لدائه برء، ولا لعلته شفاء، ولا لصرعتهه انتعاش، ولا لأسره فكاك. أخذ الله بنواصينا ونواصيكم إلى ما أعده للأخيار الأبرار. تحولوا عن هذه الدار بحسن الاختيار لا بقبح الاضطرار. والسلام.
تمت المقابسات ولواهب العقل المجد سرمداً، وصلاته وسلامه وتحياته وإكرامه على سيدنا محمد النبي المبعوث إلى الخلق كافة وآله، لا إله إلا الله، ولا معبود سواه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق