كتبهابلال عبد الهادي ، في 24 كانون الأول 2011 الساعة: 13:13 م
مسألة مركبة من أسرار طبيعية وحروف لغوية
وهي: لم ثار اسم من الأسماء أخف عند السماع من اسم
حتى إنك لتجد الطرب يعترى سامع ذاك? أنا رأيت بعض من كان يهوى البحتري ويخف لحديثه، ويتعصب لقريضه يقول: ما أحسن تشبيب البحتري بعلوة، وما أحسن اختياره علوة، ولا يجد هذا في سلمي وهند وفرتنا ودعد.وهذا عارض موجود في الأسماء والكنى والشمائل والحلى، والصور والبني، والأخلاق والخلق، والبلدان والأزمان، والمذاهب والمقالات، والطرائق والعادات.
وإذا بحثت عن هذا الباب فصله بالبحث عما ثقل على النفس والسمع والطبع من هذه الأشياء، فإنه إن كان قبولها لعلة فمجها لعلة، وإن كان وصالها لسبب فصدودها لسبب.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الاسم مركب من الحروف، والحروف عددها ثمانية وعشرون، وتركيبه يكون ثنائياً وثلاثياً ورباعياً وخماسياً.
والأولى في جواب هذه المسألة أن نتكلم في الحروف المفردة التي هي بسائط الأسماء، ثم بعد ذلك في الأسماء المركبة منها، ليبين موضع استحلاء السامع للحروف المفردة، ثم لمزج هذه الحروف وتركيبها، ثم لوضع اللفظة إلى جانب اللفظة حتى تصير منها خطبة أو بيت شعر أو غير ذلك من أقسام الكلام، فإن مثل ذلك العقود والسموط المؤلفة من خرزات مختلفة في القد واللون والجوهر والخرط.
وقد علم أن للعقد المنظوم من النفس ثلاثة مواضع: أحدها مفردات تلك الخرز واختيار أجناسها وجواهرها.
والثاني موقع النظم الذي يجعل للحبة إلى جانب الحبة قبولاً آخر، وموضعاً من النفس ثانياً.
والثالث وضع كل واحد من هذه العقود في خاص موضعه من النحر والرأس والزند والصدر.
وإذا كان هذا المثال صحيحاً، وكانت الحروف الأصلية كالخرز، وهي مختلفة اختلافاً طبيعياً لا صنع فيها للبشر، ولا يظهر فيها أثر للصناعة ولا ريبة للحذق والمهارة - كان القسمان الباقيان من النظم والتركيب هما موضع الصناعة، وفيهما يظهر أثر الإنسان بالحذق وجوده البصر والثقافة.
وبيان ذلك: أن الحروف الثمانية والعشرين يطلع كل واحد منها من مطلع غير مطلع الآخر، وذلك من أقصى الرئة إلى أدنى الفم، على ما قسمه أصحاب اللغة وبينه الخليل وغيره، وعلى خلاف بينهم في مخارجها ومواضعها، وموضعنا هذا لا يليق بشرح هذا الكلام؛ فإنه يعوقنا عن قصدنا وبغيتنا.
ونقول: إن الصوت إنما يتم بآلة هي الرئة وقصبتها لأنها مستطرق الهواء، والصوت إنما هو اقتراع في الهواء، ولما لم يكن للهواء طريق في الإنسان إلا من الرئة وقصبتها، والمدخل إليها من الفم، ولا مخرج له إلا من هذه الجهة - جعل اىقتراع - الذي هو الصوت - في هذه المسافة حسب، فبعض الأصوات أقرب إلى الرئة وأبعد من الشفة، وبعضها أقرب إلى الشفة وأبعد من الرئة، والوسائط بين هذين الموضعين كثيرة.
فالنفس وهو الهواء إذا خرج من الرئة إلى أن يبلغ الشفة له مسافة بين أقصى الحلقوم وبين منتهى الفم، والإنسان مقتدر على تقطيع هذا الهواء بالاقتراعات المختلفة غي طول هذه المسافة، فيخرق هذا الهواء مرة في أقصى الحلق، ومرة في أدناه، ومرة في غار الفم، إلى أن يصير لها ثمانية وعشرين موضعاً.
ومثال ذلك مثل مزمار فيه ثقب متى أطلق الإنسان فيه النفس وخرق موضعاً بإصبع إصبع اختلفت الأصوات في السمع بحسب قربه وبعده.
ولا يكون المسموع من الاقتراع الذي يحدث عند الثقب الأخير المسموع من الاقتراع الذي يحدث عند الثقب الأول.
وكذلك سائر الاقتراعات التي بين هذين الثقبين مختلفة المواقع من السمع، لا يشبه واحد الآخر، فيقال لبعضها: حاد، ولبعضها: حلو، ولبعضها: جهير، ولبعضها: لين.
وكل واحد من هذه الأصوات له أثر في النفس وموقع منها، ومشاكلة لها.
وليس للسائل أن يكلفنا بحسب هذا البحث الذي نحن فيه، أن نتكلم في سبب قبول النفس بعض الأصوات أكثر من بعض؛ لأن هذا النظر والبحث يتعلق بصناعة الموسيقى ومبانيها، ومعرفة أقدار النغم المختلفة بالنسب التي هي نسبة المساواة، ونسبة الضعف، ونسبة الضعف والنصف، وأشباهها.
وهذه النسب بعضها أقرب إلى قبول النفس من بعض، حتى قال بعض الأوائل: إن النفس مركبة من عدد تأليفي.
فلما كانت قصبة الرئة كقصبة المزمار، وتقطيع الحروف فيها كخرق الصوت بالمزمار في موضع بعد موضع، وكانت الأصوات في المزمار مختلفة القبول عند النفس - كانت الحروف كذلك أيضاً لا فرق بينها وبينها بوجه ولا سبب.
فقد بان أن الحروف أنفسها مفردة لها مواقع من النفس مختلفة، فبعضها أوقع عندها من بعض.
وإذا كانت بهذه الصفة وهي مفردات وبسائط كان تركيبها أيضاً مختلفاً في قبول النفس، سوى أن للتركيب والتأليف تعلقاً بالصناعة كما ضربنا به المثل في نظم الخرز ونظم الأصوات في الموسيقى؛ لأن الموسيقار ليس يعمل أكثر من تأليف هذه الأصوات بعضها إلى بعض على النسب الموافقة للنفس.
فمؤلف الحروف يجب أن يؤلفها أيضاً ويمزجها مزجاً موافقاً من الثنائي والثلاثي وغيرهما، إذا أحب أن يكون لها قبول من النفس.
فقد تبين إلى هذا الموضع سبب خلاف هذه الحروف مفردة، ثم مركبة، وأنه بحسب هذا البيان يجب أن يكون بعض الأسماء أحسن من بعض، وأعذب في السمع، وأقرب إلى قبول النفس، وبعضها أبعد في هذه الأشياء.
وبقي الاعتبار الثالث الذي هو نظم الكلم بعضه إلى بعض، ووضعه في خواص مواضعه؛ ليصدق المثال الذي ضربناه في الخرز والعقود، ثم وضع كل عقد حيث يليق به.
وههنا تظهر صناعة الخطابة والبلاغة والشعر، وذلك أنه إذا اختار المختار الحروف المؤلفة بالأسماء حتى لا يكون فيها مستكره ولا مستنكر، ووضعها من النظم في مواضعها، ثم نظمها نظماً آخر - أعني وضع الكلمة إلى جنب الكلمة - موافقاً للمعنى غير قلق في المكان، ولا نافر عن السمع - فقد استتمت له الصناعة إما شعراً وإما خطبة وإما غيرهما من أقسام الكلام.
ومتى دخل عليه الخلل في أحد هذه المواضع الثلاثة اختلت صناعته، وأبت النفس قبول ما نظمه من الكلام بحسب ذلك.
فقد لخصنا وشرحنا هذه المسألة تلخيصاً وشرحاً كافياً إن شاء الله.
فأما سؤالك في آخر مسألتك أن أصل هذا البحث بالبحث عما ثقل على النفس والسمع والطبع فقد فعلت ذلك، فظهر في أثناء كلامي، وذلك أنه إذا بان سبب أحد الضدين بان سبب الضد الآخر.
والأصوات المستكرهة التي ليس لها قبول في النفس كثيرة، ولا عناية للناس بها فتؤلف، وإنما تجدها مفردة بالاتفاق كصرير الباب، وصوت الصفر إذا جرده الصفار، وما أشبههما، فإن النفس تتغير من هذه فتقشعر، وربما قام له شعر البدن، حدث بالنفس منه دوار حتى ينكر الإنسان حاله.
وهو معروف بين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق