الأحد، 3 مارس 2013

كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك / العقد الفريد



قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه‏:‏ قد مضى قولنا في الوفود والوافدات ومقاماتهم بين يدي نبي الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي الخلفاء والملوك ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه وتأييده وتسديده في مخاطبة الملوك والتزلف إليهم بسحر البيان الذي يمازج الروح لطافة ويجري مع النفس رقة والكلام الرقيق مصايد القلوب وإن منه لما يستعطف المستشيط غيظاً والمندمل حقداً حتى يطفئ جمرة غيظه ويسل دفائن حقده وإن منه لما يستميل قلب اللئيم ويأخذ بسمع الكريم وبصره وقد جعله الله تعالى بينه وبين خلقه وسيلة نافعة وشافعاً مقبولاً قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ‏"‏‏.‏

وسنذكر في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى من تخلص من أنشوطة الهلاك وتفلت من حبائل المنية بحسن التفصل ولطيف التوصل ولين الجواب ورقيق الاستعتاب حتى عادت سيآته حسنات وعيض بالثواب بدلاً من العقاب‏.‏

وحفظ هذا الباب أوجب على الإنسان من حفظ عرضه وألزم له من قوام بدنه‏.‏

كل شيء كشف لك قناع المعنى الخفي حتى يتأدى إلى الفهم ويتقبله العقل فذلك البيان الذي ذكره الله عز وجل في كتابه ومن به على عباده فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ‏"‏‏.‏ وسئل النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فيم الجمال فقال‏:‏ في اللسان يريد البيان‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن من البيان لسحراً‏.‏

وقالت العرب‏:‏ أنفذ من الرمية كلمة فصيحة‏.‏

وقال الراجز‏:‏ لقد خشيت أن تكون ساحراً راوية طوراً وطوراً شاعراً‏.‏

وقال سهل بن هارون‏:‏ العقل رائد الروح والعلم رائد العقل والبيان ترجمان العلم‏.‏

وقالوا‏:‏ البيان بصر والعي عمى كما أن العلم بصر والجهل عمى‏.‏

والبيان من نتاج العلم والعي من نتاج الجهل‏.‏

وقالوا‏:‏ ليس لمنقوص البيان بهاء ولو حك بيافوخه عنان السماء‏.‏

وقال صاحب المنطق‏:‏ حد الإنسان‏:‏ الحي الناطق المبين‏.‏

وقال‏:‏ الروح عماد البدن والعلم عماد تبجيل الملوك وتعظيمهم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه‏.‏

وقالت العلماء‏:‏ لا يؤم ذو سلطان في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه‏.‏

وقال زياد ابن أبيه‏:‏ لا يسلم على قادم بين يدي أمير المؤمنين‏.‏

وقال يحيى بن خالد بن برمك‏:‏ مساءلة الملوك عن حالها من سجية النوكى فإذا أردت أن تقول‏:‏ كيف أصبح الأمير فقل‏:‏ صبح الله الأمير بالنعمة والكرامة وإذا كان عليلاً فأردت أن تسأله عن حاله فقل‏:‏ أنزل الله على الأمير الشفاء والرحمة فإن الملوك لا تسأل ولا تشمت ولا تكيف وأنشد‏:‏ إن الملوك لا يخاطبونا ولا إذا ملوا يعاتبونا وفي المقال لا ينازعونا وفي العطاس لا يشمتونا وفي الخطاب لا يكيفونا يثنى عليهم ويبجلونا اعتل الفضل بن يحيى فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا أتاه عائداً لم يزد على السلام عليه والدعاء له ويخفف في الجلوس ثم يلقى حاجبه فيسأله عن حاله ومأكله ومشربه ونومه وكان غيره يطيل الجلوس‏.‏

فلما أفاق من علقته قال‏:‏ ما عادني في علتي هذه إلا إسماعيل بن صبيح‏.‏

وقال أصحاب معاوية له‏:‏ إنا ربما جلسنا عندك فوق مقدار شهوتك فنريد أن تجعل لنا علامة نعرف بها ذلك فقال‏:‏ علامة ذلك أن أقول‏:‏ إذا شئتم‏.‏

وقيل ذلك ليزيد فقال‏:‏ إذا قلت‏:‏ على بركة الله‏.‏

وقيل ذلك لعبد الملك بن مروان فقال‏:‏ إذا وضعت الخيزرانة من يدي‏.‏

ومن تمام خدمة الملوك أن يقرب الخادم إليه نعليه ولا يدعه يمشي إليهما ويجعل النعل اليمنى مقابلة الرجل اليمنى واليسرى مقابلة اليسرى وإذا رأى متكأ يحتاج إلى إصلاح أصلحه قبل أن يؤمر فلا ينتظر في ذلك ويتفقد الدواة قبل أن يأمره وينفض عنها الغبار إذا قربها إليه وإن رأى بين يديه قرطاساً قد تباعد عنه قربه ووضعه بين يديه على كسره‏.‏

ودخل الشعبي على الحجاج فقال له‏:‏ كم عطاك قال‏:‏ ألفين قال‏:‏ ويحك‏!‏ كما عطاؤك قال ألفان قال‏:‏ فلم لحنت فيما لا يلحن فيه مثلك قال‏:‏ لحن الأمير فلحنت وأعرب الأمير فأعربت ولم أكن ليلحن الأمير فأعرب أنا عليه فأكون كالمقرع له بلحنه والمستطيل عليه بفضل القول قبله‏.‏

فأعجبه ذلك منه ووهبه مالاً‏.‏

قبلة اليد ذكر عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ كنا نقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومن حديث عبد الرحمن وكيع عن سفيان قال قال‏:‏ قبل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما‏.‏

ومن حديث الشعبي قال‏:‏ لقي النبي عليه الصلاة والسلام جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فالتزمه وقبل ما بين عينيه‏.‏

قال إياس بن دغفل‏:‏ رأيت أبا نضرة يقبل خد الحسين‏.‏

الشيباني عن أبي الحسن عن مصعب قال‏:‏ العتبي قال‏:‏ دخل رجل على عبد الملك بن مروان فقبل يده وقال‏:‏ يدك يا أمير المؤمنين أحق يد بالتقبيل لعلوها في المكارم وطهرها من المآثم وإنك تقل التثريب وتصفح عن الذنوب فمن أراد بك سوءاً جعله الله حصيد سيفك وطريد خوفك‏.‏

الأصمعي قال‏:‏ دخل أبو بكر الهجري على المنصور فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين نغض فمي وأنتم أهل البيت بركة فلو أذنت فقبلت رأسك لعل الله يمسك علي ما بقي من أسناني قال‏:‏ اختر بينها وبين الجائزة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أيسر علي من ذهاب الجائزة أن لا تبقى في فمي حاكة فضحك المنصور وأمر له بجائزة‏.‏

ودخل جعفر بن يحيى في زي العامة وكتمان النباهة على سليمان صاحب بيت الحكمة معه ثمامة بن أشرس فقال ثمامة‏:‏ هذا أبو الفضل فنهض إليه سليمان فقبل يده وقال له‏:‏ بأبي أنت ما دعاك إلى أن تحمل عبدك ثقل هذه المنة التي لا أقوم بشكرها ولا أقدر أن أكافئ عليها‏.‏

الشعبي قال‏:‏ ركب زيد بن ثابت فأخذ عبد الله بن عباس بركابه فقال له‏:‏ لا تفعل يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هكذا‏:‏ أمرنا أن نفعل بلعمائنا فقال له زيد‏:‏ أرني يدك فأخرج إليه يده فأخذها وقبلها وقال‏:‏ هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا‏.‏

وقالوا‏:‏ قبلة الإمام في اليد وقبلة الأب في الرأس وقبلة الأخ في الخد وقبلة الأخت في الصدر وقبلة الزوجة في الفم‏.‏

من كره من الملوك تقبيل اليد

العتبي قال‏:‏ دخل رجل على هشام بن عبد الملك فقبل يده فقال‏:‏ أف له إن العرب ما قبلت الأيدي إلا هلوعاً ولا فعلته العجم إلا خضوعاً‏.‏

واستأذن رجل المأمون في تقبيل يده فقال له‏:‏ إن قبلة اليد من المسلم ذلة ومن الذمي خديعة ولا حاجة بك أن تذل ولا بنا أن نخدع‏.‏

واستأذن أبو دلامة الشاعر المهدي في تقبيل يده فقال‏:‏ أما هذه فدعها قال‏:‏ ما منعت عيالي شيئاً أيسر فقداً عليهم من هذه‏.‏

قال هارون الرشيد لمعن بن زائدة‏:‏ كيف زمانك يا معن قال‏:‏ يا أمير المؤمنين أنت الزمان فإن أصلحت صلح الزمان وإن فسدت فسد الزمان‏.‏

وهذا نظير قول سعيد بن سلم وقد قال له أمير المؤمنين الرشيد‏:‏ من بيت قيس في الجاهلية قال‏:‏ يا أمير المؤمنين بنو فزارة قال‏:‏ فمن بيتهم في الإسلام قال‏:‏ يا أمير المؤمنين الشريف من شرفتموه قال‏:‏ صدقت أنت وقومك‏.‏

ودخل معن بن زائدة على أبي جعفر فقال له‏:‏ كبرت يا معن قال‏:‏ في طاعتك يا أمير المؤمنين قال‏:‏ وإنك لجلد قال‏:‏ على أعدائك يا أمير المؤمنين قال وإن فيك لبقية قال‏:‏ هي لك يا أمير المؤمنين قال أي الدولتين أحب إليك أو أبغض أدولتنا أم دولة بني أمية قال‏:‏ ذلك إليك يا أمير المؤمنين وإن زاد برك على برهم كانت دولتك أحب إلي وإن زاد برهم على برك كانت دولتهم أحب إلي قال‏:‏ صدقت‏.‏

قال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح‏:‏ أهذا منزلك قال‏:‏ هو لأمير المؤمنين ولي به قال‏:‏ كيف ماؤه قال‏:‏ أطيب ماء قال‏:‏ فكيف هواءه قال‏:‏ أصح هواء‏.‏

وقال أبو جعفر المنصور لجرير بن يزيد‏:‏ إنك أردتك لأمر قال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد أعد الله لك مني قلباً معقوداً بطاعتك ورأياً موصولاً بنصيحتك وسيفاً مشهوراً على عدوك فإذا شئت وقال المأمون لطاهر بن الحسين‏:‏ صف لي ابنك عبد الله قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن مدحته عبته وإن ذممته اغتبته ولكنه قدح في كف مثقف ليوم نضال في خدمة أمير المؤمنين‏.‏

وأمر بعض الخلفاء رجلاً بأمر فقال‏:‏ أنا أطوع من الرداء وأذل لك من الحذاء‏.‏

وهذا قاله الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك الزيات‏.‏

وقال آخر‏:‏ أطوع لك من يدك وأذل لك من نعالك وقال المنصور لمسلم بن قتيبة‏:‏ ما ترى في قتل أبي مسلم قال‏:‏ ‏"‏ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ حسبك أبا أمية‏.‏

وقال المأمون ليزيد بن مزيد‏:‏ ما أكثر الخلفاء في ربيعة قال‏:‏ بلى ولكن منابرهم الجذوع‏.‏

وقال المنصور لإسحاق بن مسلم‏:‏ أفرطت في وفائك لبني أمية قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه من وفىّ لمن لا يرجى كان لمن يرجى أوفى‏.‏

وقال هارون لعبد الملك بن صالح‏:‏ صف لي منبج قال‏:‏ رقيقة الهواء لينة الوطاء قال‏:‏ فصف لي منزلك بها قال‏:‏ دون منازل أهلي وفوق منازل أهلها قال‏:‏ ولم قدرك فوق أقدارهم قال‏:‏ ذلك خلق أمير المؤمنين أتأسى به وأقفو أثره وأحذو مثاله‏.‏

ودخل المأمون يوماً بيت الديوان فرأى غلاماً جميلاً على أذنه قلم فقال‏:‏ من أنت يا غلام قال‏:‏ أنا الناشئ في دولتك والمتقلب في نعمتك والمؤمل لخدمتك الحسن بن رجاء قال المأمون‏:‏ بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول ارفعوا هذا الغلام فوق مرتبته‏.‏

علي بن يحيى قال‏:‏ إني عند المتوكل حين دخل عليه الرسول برأس إسحق بن إسماعيل فقام علي بن الجهم يخطر بين يدي المتوكل ويقول‏:‏ أهلاً وسهلاً بك من رسول جئت بما يشفي من الغليل برأس إسحق بن إسماعيل فقال المتوكل‏:‏ قوموا التقطوا هذا الجوهر لئلا يضيع‏.‏

ودخل عقال بن شبة على أبي عبيد الله كاتب المهدي فقال‏:‏ يا عقال لم أرك منذ اليوم قال‏:‏ والله إني لألقاك بشوق وأغيب عنك بتوق‏.‏

وقال عبد العزيز بن مروان لنصيب بن رباح - وكان أسود - يا نصيب هل لك فيما يثمر المحادثة يريد المنادمة فقال‏:‏ أصلح الله الأمير اللوم مرمد والشعر مفلفل ولم أقعد إليك بكريم عنصر ولا بحسن منظر وإنما هو عقلي ولساني فإن رأيت أن لا تفرق بينهما فافعل‏.‏

ولما ودع المأمون الحسن بن سهل عند مخرجه من مدينة السلام وقال له‏:‏ يا أبا محمد ألك حاجة تعهد إلي فيها قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين أن تحفظ علي من قلبك ما لا أستعين على حفظه إلا بك‏.‏

وقال سعيد بن سلم بن قتيبة للمأمون‏:‏ لو لم أشكر الله إلا على حسن ما أبلاني في أمير المؤمنين من قصده إلي بحديثه وإشارته إلي بطرفه لكان ذلك من أعظم ما توجبه النعمة وتفرضه الصنيعة قال المأمون‏:‏ ذلك والله لأن الأمير يجد عندك من حسن الإفهام إذا حدثت وحسن الفهم إذا حدثت ما لا يجده عند غيرك‏.‏

مدح الملوك والتزلف إليهم

في سير العجم أن أردشير بن يزدجرد لما استوثق له أمره جمع الناس فخطبهم خطبة حضهم فيها على الألفة والطاعة وحذرهم المعصية ومفارقة الجماعة وصنف لهم الناس أربعة أصناف فخروا له سجداً‏.‏

وتكلم متكلمهم فقال‏:‏ لا زلت أيها الملك محبواً من الله بعز النصر ودرك الأمل ودوام العافية وتمام النعمة وحسن المزيد ولا زلت تتابع لديك المكرمات وتشفع إليك الذمامات حتى تبلغ الغاية التي يؤمن زوالها ولا تنقطع زهرتها في دار القرار التي أعدها الله لنظرائك من أهل الزلفى عنده والحظوة لديه ولا زال ملكك وسلطانك باقيين بقاء الشمس والقمر زائدين زيادة البحور والأنهار حتى تستوي أقطار الأرض كلها في علوك عليها ونفاذ أمرك فيها فقد أشرق علينا من ضياء نورك ما عمنا عموم ضياء الصبح ووصل إلينا من عظيم رأفتك ما اتصل بأنفسنا اتصال النسيم فأصبحت قد جمع الله بك الأيادي بعد افتراقها وألف بين القلوب بعد تباغضها وأذهب عنا الإحن والحسائف بعد توقد نيرانها بفضلك الذي لا يدرك بوصف ولا يحد بنعت‏.‏

فقال أردشير‏:‏ طوبى للممدوح مستحقاً وللداعي إذا كان للإجابة أهلاً‏.‏

ودخل حسان بن ثابت على الحارث الجفني فقال‏:‏ أنعم صباحاً أيها الملك السماء غطاؤك والأرض وطاؤك ووالدي فداؤك أنى يناوئك المنذر فوالله لقذالك أحسن من وجهه ولأمك أحسن من أبيه ولظلك خير من شخصه ولصمتك أبلغ من كلامه ولشمالك خير من يمينه‏.‏

ثم أنشأ يقول‏:‏ ونبئت أن أبا منذر يساميك للحدث الأكبر قذالك أحسن من وجهه وأمك خير من المنذر ويسرى يديك إذا أعسرت كيمنى يديه فلا تمتر ودخل خالد بن عبد الله القسري على عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين من تكون الخلافة قد زانته فأنت قد زنتها ومن تكون شرفته فأنت قد شرفتها وأنت كما قال الشاعر‏:‏ وإذا الدر زان حسن وجوه كان للدر حسن وجهك زينا‏.‏

فقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله‏:‏ أعطي صاحبكم مقولاً ولم يعط معقولاً‏.‏

ذكر بن أبي طاهر قال‏:‏ دخل المأمون بغداد فتلقاه وجوه أهلها فقال له رجل منهم‏:‏ يا أمير المؤمنين بارك الله لك في مقدمك وزادك في نعمتك وشكرك على رعيتك تقدمت من قبلك وأتعبت من بعدك وآيست أن يعاين مثلك أما فيما مضى فلا نعرفه وأما فيما بقي فلا نرجوه فنحن جميعاً ندعو لك ونثني عليك خصب لنا جنابك وعذب شرابك وحسنت نظرتك وكرمت مقدرتك جبرت الفقير وفككت الأسير فأنت يا أمير المؤمنين كما قال الأول‏:‏ ما زلت في البذل للنوال وإط لاق لعان بجرمه علق حتى تمنى البراء أنهم عندك أسرى في القيد والحلق ودخل رجل على خالد بن عبد الله القسري فقال‏:‏ أيها الأمير إنك لتبذل ما جل وتجبر ما اعتل وتكثر ما قل ففضلك بديع ورأيك جميع‏.‏

وقال رجل للحسن بن سهل‏:‏ لقد صرت لا أستكثر كثيرك ولا أستقل قليلك قال‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏ لأنك أكثر من كثيرك ولأن قليلك أكثر من كثير غيرك‏.‏

وقال خالد بن صفوان لوال دخل عليه‏:‏ قدمت فأعطيت كلاً بقسطه من نظرك ومجلسك وصلاتك وعداتك حتى كأنك من كل أحد وكأنك لست من أحد‏.‏

وقال الرشيد لبعض الشعراء‏:‏ هل أحدثت فينا شيئاً قال‏:‏ يا أمير المؤمنين المديح كله دون قدرك والشعر فيك فوق قدري ولكني أستحسن قول العتابي‏:‏ فت الممادح إلا أن ألسننا مستنطقات بما تخفي الضمايير مدح خالد بن صفوان رجلاً فقال‏:‏ قريع المنطق جزيل الألفاظ عربي اللسان قليل الحركات حسن الإشارات حلو الشمائل كثيرة الطلاوة صموتاً قؤولاً يهنأ الجرب ويداوي الدبر ويقل الحز ويطبق المفصل لم يكن بالبرم في مروءته ولا بالهذر في منطقه متبوعاً غير تابع‏.‏

كأنه علم في رأسه نار دخل سهل بن هارون على الرشيد فوجده يضاحك ابنه المأمون فقال‏:‏ اللهم زده من الخيرات وابسط له في البركات حتى يكون كل يوم من أيام موفياً على أمسه مقصراً على غده فقال له الرشيد‏:‏ يا سهل من روى من الشعر أحسن وأجوده ومن الحديث أصحه وأبلغه ومن البيان أفصحه وأوضحه إذا رام أن يقول لم يعجزه قال سهل‏:‏ يا أمير المؤمنين ما ظننت أن أحداً تقدمني سبقني إلى هذا المعنى فقال‏:‏ بل أعشى همدان حيث يقول‏:‏ وجدتك أمس خير بني لؤي وأنت اليوم خير منك أمس وأنت غداً تزيد الخير ضعفاً كذاك تزيد سادة عبد شمس وكان المأمون قد استثقل سهل بن هارون فدخل عليه يوماً والناس عنده على منازلهم فتكلم المأمون بكلام ذهب فيه كل مذهب فلما فرغ أقبل سهل بن هارون على ذلك الجمع فقال لهم‏:‏ ما لك تسمعون ولا تعون وتفهمون ولا تعجبون وتعجبون ولا تصفون أما والله إنه ليقول ويفعل في اليوم القصير مثل ما قالت وفعلت بنو مروان في الدهر الطويل عربكم كعجمهم وعجمهم كعرب بني تميم ولكن كيف يشعر بالدواء من لا يعرف الداء قال‏:‏ فرجع له المأمون إلى رأيه الأول‏.‏

وكان الحجاج بن يوسف يستثقل زياد بن عمرو العتكي فلما أثنى الوفد على الحجاج عند عبد الملك بن مروان قال زياد‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الحجاج سيفك الذي لا ينبو وسهمك الذي لا يطيش وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم‏.‏

فلم يكن بعد ذلك أحد أخف على الحجاج ولا أحب إليه منه‏.‏

حدث الشيباني قال‏:‏ أقام المنصور صالحاً ابنه فتكلم في أمر فأحسن فقال شبيب بن شيبة‏:‏ تالله ما رأيت كاليوم أبين بياناً ولا أعرب لساناً ولا أربط جأشاً ولا أبل ريقاً ولا أحسن طريقاً وحق لمن كان المنصور أباه والمهدي أخاه أن يكون كما قال زهير‏:‏ هو الجواد فإن يلحق بشأوهما على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهل فمثل ما قدما من صالح سبقا وخرج شبيب بن شيبة من دار الخلافة يوماً فقيل له‏:‏ كيف رأيت الناس قال‏:‏ رأيت الداخل راجياً والخارج راضياً‏.‏

وقيل لبعض الخلفاء‏:‏ إن شبيب بن شيبة يستعمل الكلام ويستعد له فلو أمرته أن يصعد المنبر فجأة لافتضح‏.‏

قال‏:‏ فأمر رسولاً فأخذ بيده فصعده المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ ألا إن لأمير المؤمنين أشباهاً أربعة‏:‏ فمنها الأسد الخادر والبحر الزاخر والقمر الباهر والربيع الناضر فأما الأسد الخادر فأشبه منه صولته ومضاءه وأما البحر الزاخر فأشبه منه جوده وعطاءه وأما القمر الباهر فأشبه منه نوره وضياءه وأما الربيع الناضر فأشبه منه حسنه وبهاءه ثم نزل‏.‏

وقال عبد الملك بن مروان لرجل دخل عليه‏:‏ تكلم بحاجتك قال‏:‏ يا أمير المؤمنين بهر الدرجة وهيبة الخلافة يمنعاني من ذلك قال‏:‏ فعلى رسلك فإنا لا نحب مدح المشاهدة ولا تزكية اللقاء قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لست أمدحك ولكن أحمد الله على النعمة فيك قال‏:‏ حسبك فقد أبلغت‏.‏

ودخل رجل على المنصور فقال له‏:‏ تكلم بحاجتك فقال‏:‏ يبقيك الله يا أمير المؤمنين قال‏:‏ تكلم بحاجتك فإنك لا تقدر على هذا المقام كل حين قال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما أستقصر أجلك ولا أخاف بخلك ولا أغتنم مالك وإن عطاءك لشرف وإن سؤال لزين وما لامرئ بذل وجهه إليك نقص ولا شين‏.‏

قال‏:‏ فاحسن جائزته وأكرمه‏.‏

حدث إبراهيم بن السندي قال‏:‏ دخل العماني على المأمون وعليه قلنسوة طويلة وخف ساذج فقال له‏:‏ إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة الكور وخفان رائقان‏.‏

قال‏:‏ فغدا علي في زي الأعراب فأنشده ثم دنا فقبل يده وقال‏:‏ قد والله يا أمير المؤمنين أنشدت يزيد بن الوليد وإبراهيم بن الوليد ورأيت وجوههما وقبلت أيديهما وأخذت جوائزهما وأنشد مروان وقبلت يده وأخذت جائزته وأنشدت المنصور ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته وأنشدت المهدي ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته إلى كثير من أشباه الخلفاء وكبراء الأمراء والسادة الرؤساء فلا والله يا أمير المؤمنين ما رأيت فيهم أبهى منظراً ولا أحسن وجهاً ولا أنعم كفاً ولا أندى راحة منك يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ فأعظم له الجائزة على شعره وأضعف له على كلامه وأقبل عليه بوجهه وبشره فبسطه حتى تمنى جميع من حضره أنهم قاموا مقامه‏.‏

حدث العتبي عن سفيان بن عينية قال‏:‏ قدم على عمر بن عبد العزيز ناس من أهل العراق فنظر إلى شاب منهم يتحوش للكلام فقال‏:‏ أكبروا أكبروا فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه ليس بالسن ولو كان الأمر كله بالسن لكان في المسلمين من أهو أسن منك فقال عمر‏:‏ صدقت رحمك الله تكلم فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنا لم نأتك رغبة ولا رهبة أما الرغبة فقد دخلت علينا منازلنا وقدمت علينا بلادنا وأما الرهبة فقد أمننا الله بعدلك من جورك قال‏:‏ فما أنتم قال‏:‏ وفد الشكر قال‏:‏ فنظر محمد بن كعب القرظي إلى وجه عمر يتهلل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين لا يغلبن جهل القوم بك معرفتك بنفسك فإن ناساً خدعهم الثناء وغرهم شكر الناس فهلكوا وأنا أعيذك بالله أن تكون منهم فألقى عمر رأسه على صدره‏.‏

التنصل والاعتذار

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من لم يقبل من متنصل عذراً صادقاً كان أو كاذباً لم يرد على الحوض‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ المعترف بالذنب كمن لا ذنب له‏.‏

وقال‏:‏ الاعتراف يهدم الاقتراف‏.‏

وقال الشاعر‏:‏ إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائباً إليك فلم تغفر له فلك الذنب واعتذر رجل إلى إبراهيم بن المهدي فقال‏:‏ قد عذرتك غير معتذر إن المحاذير يشوبها الكذب‏.‏

واعتذر رجل إلى جعفر بن يحيى فقال‏:‏ قد أغناك الله بالعذر عن الاعتذار وأغنانا بحسن النية عن سوء الظن‏.‏

وقال إبراهيم الموصلي‏:‏ سمعت جعفر بن يحيى يعتذر إلى رجل من تأخر حاجة ضمنها له وهو يقول‏:‏ أحتج إليك بغالب القضاء وأعتذر إليك بصادق النية‏.‏

وقال رجل لبعض الملوك‏:‏ أنا من لا يحاجك عن نفسه ولا يغالطك في جرمه ولا يلتمس رضاك إلا من جهة عفوك ولا يستعطفك إلا بالإقرار بالذنب ولا يستميلك إلا بالاعتراف بالزلة‏.‏

وقال الحسن بن وهب‏:‏ ما أحسن العفو من القادر لا سيما عن غير ذي ناصر إن كان لي ذنب ولا ذنب لي فما له غيرك من غافر أعوذ بالود الذي بيننا أن يفسد الأول بالآخر وكتب الحسن بن وعب إلى محمد بن عبد الملك الزيات‏:‏ أبا جعفر ما أحسن العفو كله ولا سيما عن قائل‏:‏ ليس لي عذر وقال آخر‏:‏ اقبل معاذير من يأتيك معتذراً إن بر عندك فيما قال أو فجرا فقد أطاعك من أرضاك ظاهره وقد أجلك من يعصيك مستترا خير الخليطين من أغضى لصاحبه ولو أراد انتصاراً من لانتصرا وقالت الحكماء‏:‏ ليس من العدل سرعة العذل‏.‏

وقال آخر‏:‏ لعل له عذراً وأنت تلوم وقال حبيب‏:‏ البر بي منك وطى العذر عندك لي فيما أتاك فلم تقبل ولم تلم وقام علمك بي فاحتج عندك لي مقام شاهد عدل غير متهم وقال آخر‏:‏ إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه وكل امرئ لا يقبل العذر مذنب ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ عذيري من طول البكا لوعة الأسى وليس لمن لا يقبل العذر من عذر وقال آخر‏:‏ فهبني مسيئاً كالذي قلت ظالماً فعفواً جميلاً كي يكون لك الفضل فإن لم أكن للعفو عندك للذي أتيت به أهلاً فأنت له أهل ومن الناس من لا يرى الاعتذار ويقول‏:‏ إياك وما يعتذر منه‏.‏

وقالوا‏:‏ ما اعتذر مذنب إلا ازداد ذنباً‏.‏

إذا كان وجه العذر ليس ببين فإن أطراح العذر خير من العذر قال ابن شهاب الزهري‏:‏ دخلت على عبد الملك بن مروان في رجال من أهل المدينة فرآني أحدثهم سناً فقال لي‏:‏ من أنت فانتسبت له فقال‏:‏ لقد كان أبوك وعمك نعاقين في فتنة ابن الأشعث فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إن مثلك إذا عفا لم يعدد وإذا صفح لم يثرب‏.‏

فأعجبه ذلك وقال‏:‏ أين نشأت قلت‏:‏ بالمدينة قال‏:‏ عند من طلبت قلت‏:‏ سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وقبيصة بن ذؤيب قال‏:‏ فأين أنت من عروة بن الزبير فإنه بحر لا تكدره الدلاء‏.‏

فلما انصرفت من عنده لم أبارح عروة بن الزبير حتى مات‏.‏

ودخل ابن السماك على محمد بن سليمان بن علي فرآه معرضاً عنه فقال‏:‏ مالي أرى الأمير كالعاتب علي قال‏:‏ ذلك لشيء بلغني عنك كرهته قال‏:‏ إذاً لا أبالي قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لأنه إذا كان ذنباً غفرته وإن كان باطلاً لم تقبله‏.‏

ودخل جرير بن عبد الله على أبي جعفر المنصور وكان واجداً عليه فقال له‏:‏ تكلم بحجتك فقال لو كان لي ذنب تكلمت بعذري ولكن عفو أمير المؤمنين أحب إلي من براءتي‏.‏

وأتي موسى الهادي برجل فجعل يقرعه بذنوبه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن اعتذاري مما تقرعني فإن كنت ترجو في العقوبة راحة فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر سعي بعبد الملك بن الفارسي إلى المأمون فقال له المأمون‏:‏ إن العدل من عدله أبو العباس وقد كان وصفك بما وصفك به ثم أتتني الأخبار بخلاف ذلك فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الذي بلغك عني تحميل علي ولو كان كذلك لقلت‏:‏ نعم كما بلغك فأخذت بحظي من الله في الصدق واتكلت على فضل أمير المؤمنين في سعة عفوه قال‏:‏ صدقت‏.‏

محمد بن القاسم الهاشمي أبو العيناء قال‏:‏ كان أحمد بن يوسف الكاتب قد تولى صدقات النصرة فجار فيها وظلم فكثر الشاكي له والداعي عليه ووافى باب أمير المؤمنين زهاء خمسين رجلاً من جلة البصريين فعزله المأمون وجلس لهم مجلساً خاصاً وأقام أحمد بن يوسف لمناظرتهم‏.‏

فكان مما حفظ من كلامه أن قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لو أن أحداً ممن ولي الصدقات سلم من الناس لسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ‏"‏ فأعجب المأمون جوابه واستجزل مقاله وخلى سبيله‏.‏

محمد بن القاسم الهاشمي أبو العيناء قال‏:‏ قال لي أبو عبد الله أحمد بن أبي داود‏:‏ دخلت على الواثق فقال لي‏:‏ ما زال قوم في ثلبك ونقصك فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين‏.‏

‏"‏ لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ‏"‏ والله ولي جزائه وعقاب أمير المؤمنين من ورائه وما ذل من كنت ناصره ولا ضاع من كنت حافظه فماذا قلت لهم يا أمير المؤمنين قال‏:‏ قلت أبا عبد الله‏:‏ وسعى إلي بعيب عزة نسوة جعل الإله خدودهن نعالها قال أبو العيناء‏:‏ قلت لأحمد بن أبي داود‏:‏ إن قوماً تظافروا علي قال‏:‏ ‏"‏ يد الله فوق أيديهم ‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ إنهم عدد وأنا واحد قال‏:‏ ‏"‏ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ إن للقوم مكراً قال‏:‏ ‏"‏ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ‏"‏‏.‏

قال أبو العيناء‏:‏ فحدثت بها الحديث أحمد بن يوسف الكاتب فقال‏:‏ ما يرى ابن أبي داود إلا أن القرآن أنزل عليه‏.‏

قال‏:‏ وهجا نهار بن توسعة قتيبة بن مسلم وكان ولي خراسان بعد يزيد بن المهلب فقال‏:‏ كانت خراسان أرضاً إذ يزيد بها وكل باب من الخيرات مفتوح فبدلت بعده قرداً نطوف به كأنما وجهه بالخل منضوح فطلبه فهرب منه ثم دخل عليه بكتاب أمه فقال له‏:‏ ويحك‏!‏ بأي وجه تلقاني قال‏:‏ بالوجه الذي ألقى به ربي وذنوبي إليه أكثر من ذنوبي إليك‏.‏

فقر به ووصله وأحسن إليه‏.‏

وأقبل المنصور يوماً راكباً والفرج بن فضالة جالس عند باب الذهب فقام الناس إليه ولم يقم فاستشاط المنصور غيظاً وغضباً ودعا به فقال‏:‏ ما منعك من القيام مع الناس حين رأيتني قال‏:‏ خفت أن يسألني الله تعالى لم فعلت ويسألك عنه لم رضيت وقد كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فسكن غضبه وقر به وقضى حوائجه‏.‏

يحيى بن أكثم قال‏:‏ إني عند المأمون يوماً حتى أتي برجل ترعد فرائصه فلما مثل بين يديه قال له المأمون‏:‏ كفرت نعمتي ولم تشكر معروفي قال له‏:‏ يا أمير المؤمنين وأين يقع شكري في جنب ما أنعم الله بك علي فنظر المأمون إلي وقال متمثلاً‏:‏ فلو كان يستغني عن الشكر ماجد لكثرة مال أو علو مكان لما ندب الله العباد لشكره فقال اشكروا لي أيها الثقلان ثم التفت إلى الرجل فقال له‏:‏ هلا قلت كما قال أصرم بن حميد‏:‏ رشحت حمدي حتى إنني رجل كلي بكل ثناء فيك مشتغل خولت شكري ما خولت من نعم فحر شكري لما خولتني خول الاستعطاف والاعتراف لما سخط المهدي على يعقوب بن داود قال له‏:‏ يا يعقوب قال‏:‏ لبيك يا أمير المؤمنين تلبية مكروب لموجدتك قال‏:‏ ألم أرفع من قدرك إذ كنت وضيعاً وأبعد من ذكرك إذا كنت خاملاً وألبسك من نعمتي ما لم أجد بها يدين من الشكر فكيف رأيت الله أظهر عليك ورد إليك مني قال‏:‏ إن كان ذلك بعلمك يا أمير المؤمنين فتصديق معترف منيب وإن كان مما استخرجته دفائن الباغين فعائذ بفضلك فقال‏:‏ والله لولا الحنث في دمك بما تقدم لك لألبستك منه قميصاً لا تشد عليه زراً ثم أمر به إلى الحبس‏.‏

فتولى وهو يقول‏:‏ الوفاء يا أمير المؤمنين كرم والمودة رحم وأنت بها جدير‏.‏

أخذت الشعراء معنى قول المهدي‏:‏ لألبستك منه قميصاً لا تشد عليه زراً فقال معلي الطائي‏:‏ طوقته بالحسام طوق ردى ما يستطيع عليه شد أزرار وقال حبيب‏:‏ طوقته بالحسام طوق داهية أغناه عن مس طوقه بيده ومن قولنا‏:‏ ولما رضي الرشيد عن يزيد بن مزيد أذن له بالدخول عليه فلما مثل بين يديه قال‏:‏ الحمد الله الذي سهل لي سبيل الكرامة بلقائك ورد على النعمة بوجه الرضا منك وجزاك الله يا أمير المؤمنين في حال سخطك جزاء المحسنين المرغبين وفي حال رضاك جزاء المنعمين المتطولين‏:‏ فقد جعلك الله وله الحمد تثبت تحرجاً عند الغضب وتمتن تطولاً بالنعم وتستبقي المعروف عند الصنائع تفضلاً بالعفو‏.‏

ولما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي - وهو الذي يقال له ابن شكلة - أمر بإدخاله عليه فلما مثل بين يديه قال‏:‏ ولي الثأر محكم في القصاص والعفو للتقوى وقد جعل الله كل ذنب دون عفوك فإن صفحت فبكرمك وإن أخذت فبحقك‏.‏

قال المأمون‏:‏ إني شاورت أبا إسحاق والعباس في قتلك فأشارا علي به قال‏:‏ أما أن يكونا قد نصحاك في عظم قدر الملك وما جرت عليه عادة السياسة فقد فعلا ولكنك أبيت أن تستجلب النصر إلا من حيث عودك الله ثم استعبر باكياً قال له المأمون‏:‏ ما يبكيك قال‏:‏ جذلاً إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته ثم قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه وإن كان جرمي يبلغ سفك دمي فحلم أمير المؤمنين وتفضله يبلغاني عفوه ولي بعدها شفاعة الإقرار بالذنب وحرمة الأب بعد الأب قال المأمون‏:‏ لو لم يكن في حق نسبك ما يبلغ الصفح عن زلتك لبلغك إليه حسن توصلك ولطيف تنصلك‏.‏

وكان تصويب إبراهيم لرأي أبي إسحاق والعباس ألطف في طلب الرضا ودفع المكروه عن نفسه من تخطئتهما‏.‏

وقال المأمون لإسحاق بن العباس‏:‏ لا تحسبني أغفلت إجلابك مع ابن المهلب وتأييدك لرأيه وإيقادك لناره قال‏:‏ يا أمير المؤمنين والله لإجرام قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من جرمي إليك ولرحمي أمس من أرحامهم وقد قال كما قال يوسف لإخوته‏:‏ ‏"‏ لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ‏"‏ وأنت يا أمير المؤمنين أحق وارث لهذه المنة وممتثل لها قال‏:‏ هيهات تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام وجرمك جرم في إسلامك وفي دار خلافتك قال‏:‏ يا أمير المؤمنين فوالله للسلم أحق بإقالة العثرة وغفران الزلة من الكافر هذا كتاب الله بيني وبينك يقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ‏"‏ إلى ‏"‏ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ‏"‏‏.‏

فهي للناس يا أمير المؤمنين سنة دخل فيها المسلم والكافر والشريف والمشروف قال‏:‏ صدقت اجلس وريت بك زنادي فلا برح نادماً من القادرين من أهلك وأمثالك‏.‏

العتبي عن أبيه قال‏:‏ قبض مروان بن محمد من معاوية بن عمرو بن عتبة ماله بالفرسان وقال‏:‏ إني قد وجدت قطيعة عمك لأبيك‏:‏ إني أقطعتك بستاني والبستان لا يكون إلا غامراً وأنا مسلم إليك الغامر وقابض منك العامر فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن سلفك الصالح لو شهدوا مجلسنا هذا كانوا شهوداً على ما ادعيته وشفعاء فيما طلبته يسألونك بإحسانك إلي مكافأة إحسان سلفي إليهم فشفع فينا الأموات واحفظ منا القرابات واجعل مجلسك هذا مجلساً يلزم من بعدنا شكره قال‏:‏ لا والله إلا أن أجعلها طعمة مني لك لا قطيعة من عمك لأبيك قال‏:‏ قد قبلت ذلك ففعل‏.‏

العتبي قال‏:‏ أمر عبد الملك بن مروان بقطع أرزاق آل أبي سفيان وجوائزهم لموجودة وجدها على خالد بن يزيد بن معاوية فدخل عليه عمر بن عتبة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن أدنى حقك معتب وبعضه فادح لنا ولنا من حقك علينا حق عليك بإكرام سلفنا لسلفك فانظر إلينا بالعين التي نظروا بها إليهم وضعنا بحيث وضعتنا الرحم منك قال‏:‏ عبد الملك‏:‏ إنما ما يستحق عطيتي من استعطاها فأما من ظن أنه يكتفي بنفسه فسنكله إلى نفسه ثم أمر له بعطيته‏.‏

فبلغ ذلك خالداً فقال‏:‏ أبا لحرمان يهددني‏!‏ يد الله فوق يده باسطة وعطاء الله دونه مبذول فأما عمرو فقد أعطى من نفسه أكثر مما أخذ لها‏.‏

العتبي قال‏:‏ حدثنا طارق بن المبارك عن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة قال‏:‏ جاءت دولة المسودة وأنا حديث السن كثير العيال متفرق المال فجعلت لا أنزل قبيلة من قبائل العرب إلا شعرت فيها فلما رأيت أمري لا يكتتم أتيت سليمان بن علي فاستأذنت عليه قرب المغرب فأذن لي وهو لا يعرفني فلما صرت إليه قلت‏:‏ أصلحك الله لفظتني البلاد إليك ودلني فضلك عليك فإما قبلتني غانماً وإما رددتني سالماً قال‏:‏ ومن أنت فانتسبت له فعرفني وقال‏:‏ مرحباً اقعد فتكلم غانماً قلت‏:‏ أصلحك الله إن الحرم اللاتي أنت أقرب الناس إليهن معنا وأولى الناس بهن بعدنا قد خفن بخوفنا ومن خاف خيف عليه قال‏:‏ فاعتمد سليمان على يديه وسالت دموعه على خديه ثم قال‏:‏ يا بن أخي يحقن الله دمك ويستر حرمك ويسلم مالك إن شاء الله ولو أمكنني ذلك في جميع قومك لفعلت‏.‏

فلم أزل في جوار سليمان آمناً‏.‏

وكتب سليمان إلى أبي العباس أمير المؤمنين‏:‏ أما بعد يا أمير المؤمنين فإنا إنما حاربنا بني أمية على عقوقهم ولم نحاربهم على أرحامهم وقد دفت إلي منهم دافة‏.‏

لم يشهروا سلاحاً ولم يكثروا جمعاً وقد أحسن الله إليك فأحسن فإن رأى أمير المؤمنين أن يكتب لهم أماناً ويأمر بإنفاذه إلي فليفعل‏.‏

فكتب لهم كتاباً منشوراً وأنفذه إلى سليمان بن علي في كل من لجأ إليه من بني أمية فكان ودخل عبد الملك بن صالح يوماً على الرشيد فلم يلبث في مجلسه أن التفت الرشيد فقال متمثلاً‏:‏ أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد ثم قال‏:‏ أما والله لكأني أنظر إلى شؤبؤبها قد همع وعارضها قد لمع وكأني بالوعيد قد وقع فأقلع عن براجم بلا معاصم وجماجم بلا غلاصم فمهلاً مهلاً فبي والله يسهل لكم الوعر‏.‏

ويصفو لكم الكدر وألقت إليكم الأمور مقاليد أزمتها فالتدارك التدارك قبل حلول داهية خبوط باليد لبوط بالرجل‏.‏

قال عبد الملك‏:‏ أفذاً ما تكلمت أم توأماً يا أمير المؤمنين قال‏:‏ بل فذاً قال اتق الله في ذي رحمك وفي رعيتك التي استرعاك الله ولا تجعل الكفر مكان الشكر ولا العقاب موضع الثواب فقد محضت لك النصيحة وأديت لك الطاعة وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم وتركت عدوك سبيلاً تتعاوره الأقدام فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه بعد أن وصلته إن الكتاب لنميمة واش وبغي باغ ينهش اللحم ويلغ في الدم فكم ليل تمام فيك كابدته ومقام ضيق فرجته وكنت كما قال الشاعر أخو بني كلاب‏:‏ ومقام ضيق فرجته بلساني ومقامي وجدل لو يقوم الفيل أو فياله زل عن مثل مقامي وزجل والتفت الرشيد يوماً إلى عبد الملك بن صالح فقال‏:‏ أكفراً بالنعمة وغدراً بالإمام قال‏:‏ لقد بؤت إذاً بأعباء الندم وسعيت في استجلاب النقم وما ذلك يا أمير المؤمنين إلا بغي باغ نافسني فيك بقديم الولاية وحق القرابة يا أمير المؤمنين إنك خليفة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في أمته وأمينه على رعيته لك عليها فرض الطاعة وأداة النصيحة ولها عليك التثبت في حادثها والعدل في حكمها‏.‏

فقال له هارون‏:‏ تضع لي من لسانك وترفع علي من جنانك بحيث يحفظ الله لي عليك هذا قمامة كاتبك يخبرني بفعلك فقال عبد الملك‏:‏ أحقاً يا قمامة قال‏:‏ نعم لقد أردت قتل أمير المؤمنين والغدر به فقال عبد الملك‏:‏ كيف لا يكذب علي من خلفي من بهتني في وجهي‏!‏ قال الرشيد‏:‏ هذا ابنك عبد الرحمن شاهد عليك قال‏:‏ يا أمير المؤمنين هو بين مأمور أو عاق فإن كان مأموراً معذور وإن كان عاقاً فما أخاف من عقوقه أكثر‏.‏

وقال له الرشيد يوماً وكان معتلاً عليه‏:‏ أتبقون بالرقة قال‏:‏ نعم ونبرغث قال له‏:‏ يا بن الفاعلة ما حملك على أن سألتك عن مسألة فرددت علي في مسألتين وأمر به إلى الحبس‏.‏

فلم يزل في حبسه حتى أطلقه الأمين‏.‏

إبراهيم بن السندي قال‏:‏ سمعت عبد الملك بن صالح يقول بعد إخراج المخلوع له من الحبس وذكر الرشيد وفعله به فقال‏:‏ والله إن الملك لشيء ما نويته ولا تمنيته ولا نصبت له ولا أردته ولو أردته لكان إلي أسرع من الماء إلى الحدور ومن النار إلى يبس العرفج وإني لمأخوذ بما لم أجن ومسؤول عما لم أعرف ولكن حين رآني للملك قميناً وللخلافة خطيراً ورأي لي يداً تنالها إذا مدت وتبلغها إذا بسطت ونفساً تكمل لخصالها وتستحقها بفعالها - وإن كنت لم أجن تلك الخصال ولم أصطنع تلك الفعال ولم أترشح لها في السر ولا أشرت إليها في الجهر - ورآها تجن حنين الوالدة الوالهة وتميل ميل الهلوك خاف أن ترغب إلى خير مرغب وتنزع إلى أخصب منزع وعاقبني عقاب من سهر في طلبها وجهد في التماسها فإن كان إنما حسبني أني أصلح لها وتصلح لي وأليق بها وتليق لي فليس ذلك بذنب جنيته فأتوب منه ولا تطاولت له فأحط نفسي عنه وإن زعم أن لا صرف لعقابه ولا نجاة من عذابه إلا أن أخرج له من حد العلم والحلم والحزم فكما لا يستطيع المضياع أن يكون مصلحاً كذلك لا يستطيع العاقل أن يكون جاهلاً وسواء علي أعاقبني على علمي وحلمي أم عاقبتني على نسبي وسني وسواء علي عاقبتني على جمالي أو عاقبتني على محبة الناس لي ولو أردتها لأعجلته عن التفكير وشغلته عن التدبير ولما كان فيها من الخطب إلا اليسير‏.‏

إبراهيم بن السندي قال‏:‏ كنت أساير سعيد بن سلم حين قيل له‏:‏ إن أمير المؤمنين قد غضب على رجاء بن أبي الضحاك وأمر بأخذ ماله فارتاع بذلك وجزع فقيل له‏:‏ ما يروعك منه فوالله ما جعل الله بينكما نسباً ولا سبباً فقال‏:‏ بلى النعمة نسب بين أهلها والطاعة سبب مؤكد بين الأولياء‏.‏

وبعث بعض الملوك إلى رجل وجد عليه فلما مثل بين يديه قال‏:‏ أيها الأمير إن الغضب شيطان فاستعذ بالله منه وإنما خلق العفو للمذنب والتجاوز للمسيء فلا تضق عما وسع الرعية من حلمك وعفوك‏.‏ فعفا عنه وأطلق سبيله‏.‏

ولما اتهم قتيبة بن مسلم أبا مجلز على بعض الأمر قال‏:‏ أصلح الله الأمير تثبت فإن التثبت نصف العفو‏.‏

قال الحجاج لرجل دخل عليه‏:‏ أنت صاحب الكلمة قال‏:‏ أبوء بالذنب وأستغفر الرب وأسأل العافية قال‏:‏ قد عفونا عنك‏.‏

وأرسل بعض الملوك في رجل أراد عقوبته فلما مثل بين يديه قال‏:‏ أسألك بالذي أنت بين يديه أذل مني بين يديك وهو على عقابك أقدر منك على عقابي إلا نظرت في أمري نظر من برئي أحب إليه من سقمي وبراءتي أحب إليه من جرمي‏.‏

وقال خالد بن عبد الله لسليمان بن عبد الملك حين وجد عليه‏:‏ يا أمير المؤمنين إن القدرة تذهب الحفيظة وأنت تجل عن العقوبة ونحن مقرون بالذنب فإن تعف عني فأهل ذلك أنت وإن تعاقبني فأهل ذلك أنا‏.‏

وأمر معاوية بن أبي سفيان بعقوبة روح بن زنباع فقال‏:‏ أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تضع مني خسيسة أنت رفعتها أو تنقض مني مريرة أنت أبرمتها أو تشمت بي عدواً أنت وقمته إلا أتى حلمك وصفحك عن خطئي وجهلي فقال معاوية‏:‏ خليا عنه إذا أراد الله أمراً يسره‏.‏

وجد عبد الملك بن مروان على رجل فجفاه وأطرحه ثم دعا به ليسأله عن شيء فرآه شاحباً ناحلاً فقال له‏:‏ مذ متى اعتللت فقال‏:‏ ما مسني سقم ولكني جفوت نفسي إذ جفاني الأمير وآليت أن لا أرضى عنها حتى يرضى عني أمير المؤمنين‏.‏

فأعاده إلى حسن رأيه‏.‏

وقعد الحسن بن سهل لنعيم بن حازم فأقبل إليه حافياً حاسراً وهو يقول‏:‏ ذنبي أعظم من السماء ذنبي أعظم من الأرض فقال الحسن‏:‏ على رسلك أيها الرجل لا بأس عليك قد تقدمت لك طاعة وحدثت لك توبة وليس للذنب بينهما موضع ولئن وجد موضعاً فما ذنبك في الذنوب بأعظم من عفو أمير المؤمنين في العفو‏.‏

أذنب رجل من بني هاشم ذنباً إلى المأمون فعاتبه فيه فقال يا أمير المؤمنين من حمل مثل دالتي ولبس ثوب حرمتي ومت بمثل قرابتي اغتفر له فوق زلتي قال‏:‏ صدقت يا بن عمي واعتذر رجل إلى المأمون من ذنب فقال‏:‏ إني وإن كانت زلتي قد أحاطت بحرمتي فإن فضلك محيط بها وكرمك موقوف عليها‏.‏

أخذه صريع الغواني فقال‏:‏ إن كان ذنبي قد أحاط بحرمتي فأحط بذنبي عفوك المأمولا دخل يزيد بن عمر بن هبيرة على أبي جعفر المنصور بعدما كتب أمانه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن إمارتكم بكر ودولتكم جديدة فأذيقوا الناس حلاوتها وجنبوهم مرارتها تخف على قلوبهم طاعتكم وتسرع إلى أنفسهم محبتكم وما زلت مستبطئاً لهذه الدعوة‏.‏

فلما قام قال أبو جعفر‏:‏ عجباً من كل من يأمر بقتل هذا‏!‏ ثم قتله بعد ذلك غدراً‏.‏

الهيثم بن عدي قال‏:‏ لما انهزم عبد الله بن علي من الشام قدم على المنصور وفد منهم فتكلموا عنده ثم قام الحارث فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنا لسنا وفد مباهاة وإنما نحن وفد توبة ابتلينا بفتنة استخفت كريمنا واستفزت حليمنا ونحن بما قدمنا معترفون ومما سلف منا معتذرون فإن تعاقبنا فقد أجرمنا وإن تعف عنه فطالما أحسنت إلى من أساء منا فقال المنصور للحرسي‏:‏ هذا خطيبهم وأمر برد ضياعه عليه بالغوطة‏.‏

قال أحمد بن أبي داود‏:‏ ما رأينا رجلاً نزل به الموت فما شغله ذلك ولا أذهله عما كان يحب أن يفعله إلا تميم بن جميل فإنه كان تغلب على شاطئ الفرات وأوفى به الرسول باب أمير المؤمنين المعتصم في يوم الموكب حين يجلس للعامة ودخل عليه فلما مثل بين يديه دعا بالنطع والسيف فأحضرا بجعل تميم بن جميل ينظر إليهما ولا يقول شيئاً وجعل المعتصم يصعد النظر فيه ويصوبه وكان جسيماً وسيماً ورأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره فقال‏:‏ يا تميم إن كان لك عذر فأت به أو حجة فأدل بها فقال‏:‏ أما إذ قد أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول‏:‏ الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين‏.‏

يا أمير المؤمنين إن الذنوب تخرس الألسنة وتصدع الأفئدة ولقد عظمت الجريرة وكبر الذنب وساء الظن ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بإمامتك وأشبههما بخلافتك ثم أنشأ يقول‏:‏ أرى الموت بين السيف والنطع كامناً يلاحظني من حيثما أتلفت وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي وأي امرئ مما قضى الله يفلت ومن ذا الذي يدلى بعذر وحجة وسيف المنايا بين عينيه مصلت يعز على الأوس بن تغلب موقف يسل علي السيف فيه وأسكت ولكن خلفي صبية قد تركتهم وأكبادهم من حسرة تتفتت كأني أراهم حين أنعى إليهم وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة أذود الردى عنهم وإن مت موتوا فكم من قائل‏:‏ لا يبعد الله روحه وآخر جذلان يسر ويشمت قال‏:‏ فتبسم المعتصم وقال‏:‏ كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل اذهب فقد غفرت لك الصبوة وتركتك للصبية‏.‏

وحكي أن أمير المؤمنين المهدي قال لأبي عبيد الله لما قتل ابنه‏:‏ إنه لو كان في صالح خدمتك وما تعرفناه من طاعتك وفاء يجب به الصفح عن ولدك ما تجاوز أمير المؤمنين ذلك به إلى غيره ولكنه نكص على عقبيه وكفر بربه قال أبو عبيد الله‏:‏ رضانا عن أنفسنا وسخطنا عليها موصول برضاك وسخطك ونحن خدم نعمتك تثيبنا على الإحسان فنشكر وتعاقبنا على الإساءة فنصبر‏.‏

أبو الحسن المدائني قال‏:‏ لما حج المنصور مر بالمدينة فقال للربيع الحاجب‏:‏ علي بن جعفر بن محمد قتلني الله إن لم أقتله فمطل به ثم ألح عليه فحضر فلما كشف الستر بينه وبينه ومثل بين يديه همس جعفر بشفتيه ثم تقرب وسلم فقال‏:‏ لا سلم الله عليك يا عدو الله تعمل علي الغوائل في ملكي قتلني الله إن لم أقتلك قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن سليمان صلى الله على محمد وعليه أعطى فشكر وإن أيوب ابتلى فصبر وإن يوسف ظلم فغفر وأنت على إرث منهم وأحق من تأسى بهم‏.‏

فنكس أبو جعفر رأسه ملياً وجعفر واقف ثم رفع رأسه فقال‏:‏ إلي أبا عبد الله فأنت القريب القرابة وذو الرحم الواشجة السليم الناحية القليل الغائلة ثم صافحه بيمينه وعانقه بشماله وأجلسه معه على فراشه وانحرف له عن بعضه وأقبل عليه بوجهه يحادثه ويسائله ثم قال‏:‏ يا ربيع عجل لأبي عبد الله كسوته وجائزته وإذنه‏.‏

قال الربيع‏:‏ فلما حال الستر بيني وبينه أمسكت بثوبه فقال‏:‏ ما أرانا يا ربيع إلا وقد حبسنا فقلت‏:‏ لا عليك هذه مني لا منه فقال‏:‏ هذه أيسر سل حاجتك فقلت له‏:‏ إني منذ ثلاث أدفع عنك وأداري عليك ورأيتك إذ دخلت همست بشفتيك ثم رأيت الأمر انجلى عنك وأنا خادم سلطان ولا غنى لي عنه فأحب منك أن تعلمينه قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ اللهم احرسني بعينك التي لا تنام واكنفني بحفظك الذي لا يرام ولا أهلك وأنت رجائي فكم من نعمة أنعمتها علي قل لك عندها شكري فلم تحرمني وكم من بلية ابتليت بها قل عندها صبري فلم تخذلن اللهم بك أدرأ في نحره وأستعيذ بخيرك من شره فإنك على كل شيء قدير وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم‏.‏

كان يزيد بن راشد خطيباً وكان فيمن دعا إلى خلع سليمان بن عبد الملك والبيعة لعبد العزيز بن الوليد فنذر سليمان قطع لسانه‏.‏

فلما أفضت الخلافة إليه دخل عليه يزيد بن راشد فجلس على طرف البساط مفكراً ثم قال‏:‏ يا أمير المؤمنين كن كنبي الله صلى الله عليه وسلم ابتلي فصبر وأعطي فشكر وقدر فغفر قال‏:‏ ومن أنت قال‏:‏ يزيد بن راشد‏.‏

فعفا عنه‏.‏

حبس الرشيد رجلاً فلما طال حبسه كتب إليه‏:‏ إن كل يوم يمضي من نعيمك يمضي من بؤسي مثله والأمد قريب والحكم لله‏.‏

فأطلقه‏.‏

ومر أسد بن عبد الله القسري وهو والي خراسان بدار من دور الاستخراج ودهقان يعذب في حبسه وحول أسد مساكين يستجدونه فأمر لهم بدراهم تقسم فيهم فقال الدهقان‏:‏ يا أسد إن كنت تعطى من يرحم فارحم من يظلم فإن السموات تنفرج لدعوة المظلوم يا أسد احذر من ليس له ناصر إلا الله واتق من لا جنة له إلا الابتهال إليه إن الظلم مصرعه وخيم ولا تغتر بإبطاء الغيثات من ناصر متى شاء أن يجيب أجاب وقد أملى لقوم ليزدادوا إثماً‏.‏

فأمر أسد بالكف عنه‏.‏

عتب المأمون على رجل من خاصته فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن قديم الحرمة وحديث التوبة يمحوان ما بينهما من الإساءة فقال‏:‏ صدقت ورضي عنه‏.‏

وكان ملك من ملوك فارس عظيم المملكة شديد النقمة وكان له صاحب مطبخ فلما قرب إليه طعامه صاحب المطبخ سقطت نقطة من الطعام على يديه فزوى لها الملك وجهه وعلم صاحب المطبخ أنه قاتله فكفأ الصحفة على يديه فقال الملك‏:‏ علي به فلما أتاه قال له‏:‏ قد علمت أن سقوط النقطة أخطأت بها يدك فما عذرك في الثانية قال‏:‏ استحييت للملك أن يقتل مثلي في سني وقديم حرمتي في نقطة فأردت أن أعظم ذنبي ليحسن به قتلي فقال له الملك‏:‏ لئن كان لطف الاعتذار ينجيك من القتل ما هو بمنجيك من العقوبة اجلدوه مائة جلدة وخلوه‏.‏

الشيباني قال‏:‏ دخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون حين قبض ضياعهم فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين محمد بن عبد الملك بين يديك ربيب دولتك وسليل نعمتك وغصن من أغصان دوحتك أتأذن لي في الكلام قال‏:‏ نعم قال‏:‏ نستمتع الله حياطة ديننا ودنيانا ورعاية أدنانا وأقصانا ببقائك ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا وفي أثرك من آثارنا ويقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا هذا مقام العائد بفضلك الهارب إلى كنفك وظلك الفقير إلى رحمتك وعدلك ثم تكلم في حاجته فقضاها‏.‏

أذقني طعم النوم أو سل حقيقة علي فإن قامت ففصل بنانيا خلعت فاستطار فأصبحت ترامى به البيد القفار تراميا ولم يقل أحد في هذا المعنى أحسن من قول النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر‏:‏ أتاني أبيت اللعن أنك لمتني وتلك التي تستك منها المسامع فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع أكلفتني ذنب امرئ وتركته كذي العر يكوى غيره وهو راتع فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وقال فيه أيضاً‏:‏ ولست بمستبق أخاً لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب فإن أك مظلوماً فعبد ظلمته وإن تك ذا عتب فمثلك يعتب حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب لئن كنت قد بلغت عني جناية لمبلغك الواشي أغش وأكذب ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب فهبني امرأ إما بريئاً علمته وإما مسيئاً تاب منه وأعتبا وكنت كذي داء يبغي لدائه طبيباً فلما لم يجده تطببا وقال الممزق لعمرو بن هند‏:‏ تروح وتغدو ما يحل وضينها إليك ابن ماء المزن وابن محرق أحقاً أبيت اللعن أن ابن مزننا على غير إجرام بريقي مشرقي فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل وإلا فادركني ولما أمزق فأنت عميد الناس مهما تقل نقل ومهما تضع من باطل لا يحقق وتمثل بهذه الأبيات عثمان بن عفان في كتابه إلى علي بن أبي طالب يوم الدار‏.‏

وكتب محمد بن عبد الملك الزيات لما أحس بالموت وهو في حبس المتوكل برقعة إلى المتوكل فيها‏:‏ هي السبيل فمن يوم إلى يوم كأنه ما تريك العين في النوم لا تعجلن رويداً إنما دول دنيا تنقل من قوم إلى قوم إن المنايا وإن أصبحت ذا فرح تحوم حولك حوماً أيما حوم وقال عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة للمنصور وقد أراد عقوبة رجل‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الانتقام عدل والتجاوز فضل والمتفضل قد جاوز حد المنصف ونحن نعيذ أمير المؤمنين أن يرضى لنفسه أوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين‏.‏

جرى بين أبي مسلم صاحب الدعوة وبين قائد من قواده يقال له شهرام كلام فقال له قائده كلمة فيها بعض الغلظ ثم ندم على ما كان منه فجعل يتضرع ويتنصل إليه فقال له أبو مسلم‏:‏ لا عليك لسان سبق ووهم أخطأ وإنما الغضب شيطان وأنا جرأتك علي بطول احتمالي منك فإن كنت للذنب متعمداً فقد شاركتك فيه وإن كنت مغلوباً فإن العذر يسعك وقد عفونا على كل حال‏.‏

فقال‏:‏ أصلح الله الأمير إن عفو مثلك لا يكون غروراً قال‏:‏ أجل قال‏:‏ فإن عظم الذنب لا يدع قلبي يسكن وألح في الاعتذار فقال له أبو مسلم‏:‏ عجباً لك إنك أسأت فأحسنت فلما أحسنت أأسيء‏!‏ دخل أبو دلف على المأمون وقد كان عتب عليه ثم أقاله فقال له وقد خلا مجلسه‏:‏ قل أبا دلف وما عسيت أن تقول وقد رضي عنك أمير المؤمنين وغفر لك ما فعلت فقال يا أمير المؤمنين‏:‏ ليالي تدنو منك بالبشر مجلسي ووجهك من ماء البشاشة يقطر قال المأمون‏:‏ لك بها رجوعك إلى المناصحة وإقبالك على الطاعة ثم عاد له إلى ما كان عليه‏.‏

وقال له المأمون يوماً‏:‏ أنت الذي تقول‏:‏ إني امرؤ كسروي الفعال أصيف الجبال وأشتوا العرافا ما أراك قدمت لحق طاعة ولا قضيت واجب حرمة قال له‏:‏ يا أمير المؤمنين إنما هي نعمتك ونحن فيها خدمك وما هراقة دمي في طاعتك إلا بعض ما يجب لك‏.‏

ودخل أبو دلف على المأمون فقال‏:‏ أنت الذي يقول فيك ابن جبلة‏:‏ إنما الدنيا أبو دلف بين باديه ومحتضره فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين شهادة زور وكذب شاعر وملق مستجد وليكن الذي يقول فيه ابن أخيه‏:‏ ذريني أجوب الأرض في طلب الغنى فما الكرج بالدنيا ولا الناس قاسم الكرج‏:‏ منزل أبي دلف وكان اسمه القاسم بن عيسى‏.‏

وقال المنصور وجعل لمعن بن زائدة‏:‏ ما أظن ما قيل عنك من ظلمك أهل اليمن واعتسافك عليهم إلا حقاً قال‏:‏ كيف ذلك يا أمير المؤمنين قال‏:‏ بلغني عنك أنك أعطيت شاعراً لبيت قاله ألف دينار وأنشده البيت وهو‏:‏ معن بن زائدة الذي زيدت به فخراً إلى فخر بنو شيبان قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين قد أعطيته ألف دينار ليس على هذا البيت ولكن على قوله‏:‏ ما زلت يوم الهاشمية معلماً بالسيف دون خليفة الرحمن فمنعت حوزته وكنت وقاءه من وقع كل مهند وسنان قال‏:‏ فاستحيا المنصور وجعل ينكت بالمخصرة ثم رفع رأسه وقال‏:‏ اجلس أبا الوليد‏.‏

أتي عبد الملك بن مروان بأعرابي سرق فأمر بقطع يده فأنشأ يقول‏:‏ يدي يا أمير المؤمنين أعيذها بعفوك أن تلقى مكاناً يشينها ولا خير في الدنيا وكانت حبيبة إذا ما شمالي فارقتها يمينها فأبى إلا قطعه فقالت أمه‏:‏ يا أمير المؤمنين واحدي وكاسبي قال‏:‏ بئس الكاسب كان لك وهذا حد من حدود الله قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين اجعله من بعض ذنوبك التي تستغفر الله منها فعفا عنه‏.‏

تذكير الملوك بذمام متقدم

قال ثمامة بن أشرس للمأمون لما صارت إليه الخلافة‏:‏ إنه كان لي أملان‏:‏ أمل لك وأمل بك فأما أملي لك فقد بلغته وأما أملي بك فلا أدري ما يكون منك فيه قال‏:‏ يكون أفضل ما رجوت وأملت فجعله من سماره وخاصته‏.‏

الأصمعي قال‏:‏ لما مات يزيد بن عبد الملك وصارت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك خر أصحابه سجوداً إلا الأبرش الكلبي فقال له‏:‏ يا أبرش ما منعك أن تسجد كما سجدوا قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لأنك ذهبت عنا وتركتنا قال‏:‏ فإن ذهبت بك معي قال‏:‏ أو تفعل يا أمير المؤمنين قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فالآن طاب السجود ثم سجد‏.‏

ولما صارت الخلافة إلى أبي جعفر كتب إليه رجل من إخوانه‏:‏ إنا بطانتك الألى كنا نكابد ما نكابد ونرى فنعرف بالعدا وة والبعاد لمن نباعد ونبيت من شفق علي ك ربيئة والليل هاجد هذا أوان وفاء ما سبقت به منك المواعد وقال حبيب الشاعر في هذا المعنى‏:‏ وإن أولى الموالي أن تواسيه عند السرور لمن واساك في الحزن إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن حسن التخلص من السلطان أبو الحسن المدائني قال‏:‏ كان العباس بن سهل والي المدينة لعبد الله بن الزبير فلما بايع الناس عبد الملك بن مروان ولى عثمان بن حيان المري وأمره بالغلظة على أهل الظنة فعرض يوماً بذكر الفتنة وأهلها فقال له قائل‏:‏ هذا العباس بن سهل على ما فيه كان مع ابن الزبير وعمل له فقال عثمان بن حيان‏:‏ ويلي عليه والله لأقتلنه قال العباس‏:‏ فبلغني ذلك فتغيبت حتى أضر بي التغيب فأتيت ناساً من جلسائه فقلت لهم‏:‏ ما لي أخاف وقد أمنني عبد الملك بن مروان فقالوا‏:‏ والله ما يذكرك إلا تغيظ عليك وقلما كلم على طعامه في ذنب إلا انبسط فلو تنكرت وحضرت عشاءه وكلمته‏.‏

قال‏:‏ ففعلت وقلت على طعامه وقد أتي بجفنة ضخمة ذات ثريد ولحم‏:‏ والله لكأني أنظر إلى جفنة حيان بن معبد والناس يتكاوسون عليها وهو يطوف في حاشيته يتفقد مصالحها يسحب أردية الخز حتى إن الحسك ليتعلق به فما يميطه ثم يؤتى بجفنة تهادى بين أربعة ما يستقلون بها إلا بمشقة وعناء وهذا بعد ما يفرغ الناس من الطعام ويتنحون عنه فيأتي الحاضر من أهله بالدنو والطارئ من أشراف قومه وما بأكثرهم من حاجة إلى الطعام وما هو إلا الفخر بالدنو من مائدته والمشاركة ليده قال‏:‏ هيه أنت رأيت ذلك قلت‏:‏ أجل والله قال لي‏:‏ ومن أنت قلت‏:‏ وأنا آمن قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ العباس بن سهل بن سعد الأنصاري قال‏:‏ مرحباً وأهلاً أهل الشرف والحق‏.‏

قال‏:‏ فلقد رأيتني بعد ذلك وما بالمدينة رجل أوجه مني عنده‏.‏

فقيل له بعد ذلك‏:‏ أنت رأيت ونزلنا ذلك الماء وغشينا وعليه عباءة ذكوانية فلقد جعلنا نذوده عن رحلنا مخافة أن يسرقه‏.‏

أبو حاتم قال‏:‏ حدثنا أبو عبيدة قال‏:‏ أخذ سراقة بن مرداس البارقي أسيراً يوم جبانة السبيع فقدم في الأسرى إلى المختار فقال سراقة‏:‏ امنن علي اليوم يا خير معد وخير من لبى وصلى وسجد فعفا عنه المختار وخلى سبيله‏.‏

ثم خرج مع إسحاق بن الأشعث فأتي به المختار أسيراً فقال له‏:‏ ألم أعف عنك وأمنن عليك أما والله لأقتلنك قال‏:‏ لا والله لا تفعل إن شاء الله قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لأن أبي أخبرني أنك تفتح الشام حتى تهدم مدينة دمشق حجراً حجراً وأنا معك ثم أنشده‏:‏ خرجنا لا نرى الضعفاء شيئاً وكان خروجنا بطراً وحينا تراهم في مصفهم قليلاً وهم مثل الدبى لما التقينا فأسجح إذا قدرت فلو قدرنا لجرنا في الحكومة واعتدينا تقبل توبة مني فإني سأشكر إن جعلت النقد دينا قال‏:‏ فخلى سبيله‏.‏

ثم خرج إسحاق بن الأشعث ومعه سراقة فأخذ أسيراً وأتي به المختار فقال‏:‏ الحمد لله الذي أمكنني منك يا عدو الله هذه ثالثة فقال سراقة‏:‏ أما والله ما هؤلاء الذين أخذوني فأين هم لا أراهم إنا لما التقينا رأينا قوماً عليهم ثياب بيض وتحتهم خيل بلق تطيق بين السماء والأرض فقال المختار‏:‏ خلوا سبيله ليخبر الناس‏.‏

ثم دعا لقتاله فقال‏:‏ ألا أبلغ أبا إسحاق أني رأيت البلق دهماً مصمتات أري عيني ما لم ترأياه كلانا عالم بالترهات كفرت بوحيكم وجعلت نذراً علي قتالكم حتى الممات كان معن بن زائدة قد أمر بقتل جماعة من الأسرى فلما سقوا قال‏:‏ يا معن أتقتل ضيفانك فأمر معن بإطلاقهم‏.‏

لما أتي عمر بن الخطاب بالهرمزان أسيراً دعاه إلى الإسلام فأبى عليه فأمر بقتله فلما عرض عليه السيف قال‏:‏ لو أمرت يا أمير المؤمنين بشربة من ماء فهو خير من قتلي على الظمأ فأمر له بها فلما صار الإناء بيده قال‏:‏ أنا آمن حتى أشرب قال‏:‏ نعم‏.‏

فألقى الإناء من يده وقال‏:‏ الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج قال‏:‏ لك التوقف حتى أنظر في أمرك ارفعا عنه السيف فلما رفع عنه قال‏:‏ الآن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فقال له عمر‏:‏ ويحك‏!‏ أسلمت خير إسلام فما أخبرك قال‏:‏ خشيت يا أمير المؤمنين أن يقال أن إسلامي إنما كان جزعاً من الموت فقال عمر‏:‏ إن لفارس حلوماً بها استحقت ما كانت فيه من الملك‏.‏

ثم كان عمر يشاوره بعد ذلك في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه‏.‏

لما أتي الحجاج بالأسرى الذين خرجوا مع ابن الأشعث أمر بقتلهم فقال رجل‏:‏ أصلح الله الأمير إن لي حرمة قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ ذكرت في عسكر ابن الأشعث فشتمت في أبويك فعرضت دونهما فقلت‏:‏ لا والله ما في نسبه مطعن فقولوا فيه ودعوا نسبه قال‏:‏ ومن يعلم ما ذكرت فالتفت إلى أقرب الأسرى إلي فقلت‏:‏ هذا يعمله قال له الحجاج‏:‏ ما تقول فيما يقول قال‏:‏ صدق أصلح الله الأمير وبر‏.‏

قال‏:‏ خلياً عن هذا لنصرته وعن هذا لحفظ شهادته‏.‏

عمرو بن بحر الجاحظ قال‏:‏ أتي روح بن حاتم برجل كان متلصصاً في طريق الرقاق فأمر بقتله فقال‏:‏ أصلح الله الأمير لي عندك يد بيضاء قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ إنك جئت يوماً إلى مجمع موالينا بني نهشل والمجلس محتفل فلم يتحفز لك أحد فقمت من مكاني حتى جلست فيه ولولا محض كرمك وشرف قدرك ونباهة أوليتك ما ذكرتك هذه عند مثل هذا قال ابن حاتم‏:‏ صدق وأمر بإطلاقه وولاه تلك الناحية وضمنه إياها‏.‏

ولما ظفر المأمون بأبي دلف وكان يقطع في الجبال أمر بضرب عنقه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين دعني أركع ركعتين قال‏:‏ افعل‏.‏

فركع وحبر أبياتاً ثم وقف بين يديه فقال‏:‏ بع بي الناس فإني خلف ممن تبيع واتخذني لك درعاً قلصت عنه الدروع وارم بي كل عدو فأنا السهم السريع فأطلقه وولاه تلك الناحية فأصلحها‏.‏

أتي معاوية يوم صفين بأسير من أهل العراق فقال‏:‏ الحمد لله الذي أمكنني منك قال‏:‏ لا تقل يا معاوية فإنها مصيبة قال‏:‏ وأي نعمة أعظم من أن أمكنني الله عز وجل من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة اضرب عنقه يا غلام فقال الأسير‏:‏ اللهم اشهد أن معاوية لم يقتلني فيك وأنك لا ترضى بقتلي وإنما يقتلني في الغلبة على حطام هذه الدنيا فإن فعل فافعل به ما هو أهله وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله قال له‏:‏ ويحك‏!‏ لقد سببت فأبلغت وأمر مصعب بن الزبير برجل من أصحاب المختار أن يضرب عنقه فقال‏:‏ أيها الأمير ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة ووجهك هذا الذي يستضاء به فأتعلق بأطرافك وأقول‏:‏ أي رب سل هذا فيم قتلني قال‏:‏ أطلقوه فإني جاعل ما وهبت له من حياته في خفض أعطوه مائة ألف قال الأسير‏:‏ بأبي أنت وأمي‏.‏

أشهد أن لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفاً قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لقوله‏:‏ إنما مصعب شهاب من الل ه تجلت عن وجهه الظلماء ملكه ملك عزة ليس فيه جبروت منه ولا كبرياء‏.‏

يتقي الله في الأمور وقد أف لح من كان همه الاتقاء أمر عبد الملك بقتل رجل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنك أعز ما تكون أحوج ما تكون إلى الله فعفا عنه‏.‏

أتي الحجاج بأسرى من الخوارج فأمر بضرب أعناقهم فقدم فيهم شاب فقال‏:‏ والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو فقال‏:‏ أف لهذه الجيف ما كان فيهم من يقول مثل هذا‏!‏ وأمسك عن القتل‏.‏

وأتي الحجاج بأسرى فأمر بقتلهم فقال له رجل منهم‏:‏ لا جزاك الله يا حجاج عن السنة خيراً فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء ‏"‏‏.‏

فهذا قول الله في كتابه‏.‏

وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق‏:‏ وما نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حمل القلائد فقال الحجاج‏:‏ ويحكم‏!‏ أعجزتم أن تخبروني بما أخبرني هذا المنافق‏!‏ وأمسك عمن بقي‏.‏

الهيثم بن عدي قال‏:‏ أتي الحجاج بحرورية فقال لأصحابه‏:‏ ما تقولون في هذه قالوا‏:‏ اقتلها أصلح الله الأمير ونكل بها غيرها‏.‏

فتبسمت الحرورية فقال لها‏:‏ لم تبسمت فقالت‏:‏ لقد كان وزراء أخيك فرعون خيراً من وزرائك يا حجاج استشارهم في قتل موسى فقالوا‏:‏ أرجه وأخاه وهؤلاء يأمرونك بتعجيل قتلي فضحك الحجاج وأمر بإطلاقها‏.‏

وقال معاوية ليونس الثقفي‏:‏ اتق الله لأطيرنك طيرة بطيئاً وقوعها قال‏:‏ أليس بي وبك المرجع إلى الله قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فاستغفر الله‏.‏

ودخل رجل من بني مخزوم على عبد الملك بن مروان وكان زبيرياً فقال له عبد الملك‏:‏ أليس الله قد ردك على عقبيك قال‏:‏ ومن رد إليك يا أمير المؤمنين فقد رد على عقبيه فسكت عبد الملك وعلم أنها خطأ‏.‏

دخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك فقال له سليمان‏:‏ على امرئ أمرك وجرأك وسلطك على الأمة لعنة الله أتظن الحجاج استقر في قعر جهنم أم هو يهوي فيها قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أخيك وأبيك فضعه من النار حيث شئت‏.‏

وقال عبيد الله بن زياد لقيس بن عباد‏:‏ ما تقول في وفي الحسين قال‏:‏ أعفني عافاك الله قال‏:‏ لا بد أن تقول قال‏:‏ يجيء أبوه يوم القيامة فيشفع له ويجيء أبوك فيشفع لك قال‏:‏ قد علمت غشك وخبثك لئن فارقتني يوماً لأضعن أكثرك شعراً بالأرض‏.‏

الأصمعي قال‏:‏ بعث الحجاج إلى يحيى بن يعمر فقال له‏:‏ أنت الذي تقول‏:‏ إن الحسين بن علي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن رسول الله لتأتيني بالمخرج مما قلت أو لأضربن عنقك فقال له ابن يعمر‏:‏ وإن جئت بالمخرج فأنا آمن قال‏:‏ نعم قال‏:‏ اقرأ‏:‏ ‏"‏ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ وعيسى ‏"‏‏.‏

فمن أقرب‏:‏ عيسى من إبراهيم وما هو ابن بنته أو الحسين من محمد صلى الله عليه وسلم فقال له الحجاج‏:‏ والله لكأني ما قرأت هذه الآية قط وولاه قضاء بلده فلم يزل بها قاضياً حتى مات‏.‏

أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده قال‏:‏ دخل عبد الرحمن بن أبي ليلى على الحجاج فقال لجلسائه‏:‏ إن أردتم أن تنظروا إلى رجل يسب أمير المؤمنين عثمان ابن عفان فهذا عندكم يعني عبد الرحمن فقال عبد الرحمن‏:‏ معاذ الله أيها الأمير أن أكون أسب أمير المؤمنين إنه ليحجزني عن ذلك آيات في كتاب الله قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ‏"‏‏.‏

فكان عثمان منهم‏.‏


فكان أبي منهم‏.‏


فكنت أنا منهم‏.‏

فقال‏:‏ صدقت‏.‏ أبو عوانة عن عاصم بن أبي وائل قال‏:‏ بعث إلي الحجاج فقال لي‏:‏ ما اسمك قال‏:‏ ما أرسل إلي الأمير حتى عرف اسمي قال‏:‏ متى هبطت هذا البلد قلت‏:‏ حين هبط أهله قال‏:‏ ما تقرأ من القرآن قلت‏:‏ أقرأ منه ما لو تبعته كفاني قال‏:‏ إني أريد أن أستعين بك في عملي قلت‏:‏ إن تستعن بي تستعن بكبير أخرق ضعيف يخاف أعوان السوء وإن تدعني فهو أحب إلي وإن تقحمني أتقحم قال‏:‏ إن لم أجد غيرك أقحمتك وإن وجدت غيرك لم أقحمك قلت‏:‏ وأخرى أكرم الله الأمير إني ما علمت الناس هابوا أميراً قط هيبتهم لك والله إني لأتعار من الليل فيما يأتيني النوم من ذكرك حتى أصبح هذا ولست لك على عمل قال‏:‏ هيه كيف قلت فأعدت عليه فقال‏:‏ إني والله لا أعلم على وجه الأرض خلقاً هو أجراً على دم مني قال‏:‏ فقمت فعدلت عن الطريق كأني لا أبصر فقال‏:‏ أرشدوا الشيخ‏.‏

لما أتي الحجاج بأسرى الجماجم أتي فيهم بعامر الشعبي ومطرف بن عبد الله الشخمير وسعيد بن جبير وكان الشعبي ومطرف يريان التقية وكان سعيد بن جبير لا يراها وكان قد تقدم كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج في أسرى الجماجم أن يعرضهم على السيف فمن أقر منهم بالكفر في خروجهم علينا فيخلي سبيله ومن زعم أنه مؤمن فيضرب عنقه فقال الحجاج للشعبي‏:‏ وأنت ممن ألب علينا مع ابن الأشعث اشهد على نفسك بالكفر فقال‏:‏ أصلح الله الأمير نبا بنا المنزل وأحزن بنا الجناب واستحلسنا الخوف واكتحلنا السهر وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء قال‏:‏ لله أبوك لقد صدقت ما بررتم بخروجكم علينا ولا قويتم خلوا سبيل الشيخ‏.‏

ثم قال لمطرف‏:‏ أتقر على نفسك بالكفر قال‏:‏ أصلح الله الأمير إن من شق العصا وسفك الدماء ونكث البيعة وفارق الجماعة وأخاف المسلمين لجدير بالكفر فخلى سبيله‏.‏

ثم قال لسعيد بن جبير‏:‏ أتقر على نفسك بالكفر قال‏:‏ ما كفرت منذ آمنت بالله فضرب عنقه ثم استعرض الأسرى فمن أقر بالكفر خلى سبيله ومن أبى قتله حتى أتي بشيخ وشاب فقال للشاب‏:‏ أكافر أنت قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ لكن الشيخ لا يرضى بالكفر فقال له الشيخ‏:‏ أعن نفسي تخادعني يا حجاج والله لو علمت أعظم من الكفر لقلته فضحك الحجاج وخلى سبيله‏.‏

فلما مات الحجاج وقام سليمان قال الفرزدق‏:‏ لئن نفر الحجاج آل معتب لقوا دولة كان العدو يدالها لقد أصبح الأحياء منهم أذلة وموتاهم في النار كلحا سبالها وكانوا يرون الدائرات بغيرهم فصار عليهم بالعذاب انفتالها ألكني إلى من كان بالصين أورمت به الهند ألواح عليها جلالها هلم إلى الإسلام والعدل عندنا فقد مات عن أهل العراق خبالها لما ولي سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله بالأردن‏:‏ اجمع يدي عدي ابن الرقاع إلى عنقه وابعث به إلي على قتب بلا وطاء ووكل به من ينخس به ففعل ذلك فلما انتهى إلى سليمان بن عبد الملك ألقي بين يديه وهو لقى لا حراك فيه ولا روح فتركه حتى ارتد إليه روحه ثم قال له‏:‏ أنت أهل لما نزل بك ألست القائل في الوليد‏:‏ وقال‏:‏ لا والله يا أمير المؤمنين ما هكذا قلت وإنما قلت‏:‏ معاذ ربي أن نبقى ونفقدهم وأن نكون لراع بعدهم تبعا فنظر إليه سليمان واستضحك ثم أمر له بصلة وخلى سبيله‏.‏

العتبي قال‏:‏ كان بين شريك القاضي والربيع حاجب المهدي معارضة فكان الربيع يحمل عليه المهدي فلا يلتفت إليه حتى رأى المهدي في منامه شريكاً القاضي مصروفاً وجهه عنه فلما استيقظ من نومه دعا الربيع وقص عليه رؤياه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن شريكاً مخالف لك وإنه فاطمي محض قال المهدي‏:‏ علي به فلما دخل عليه قال له‏:‏ يا شريك بلغني أنك فاطمي قال له شريك‏:‏ أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون غير فاطمي إلا أن تعني فاطمة بنت كسرى قال‏:‏ ولكني أعني فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ قال‏:‏ أفتلعنها يا أمير المؤمنين قال‏:‏ معاذ الله فماذا تقول فيما يلعنها قال‏:‏ عليه لعنة الله قال‏:‏ فالعن هذا - يعني الربيع - فإنه يلعنها فعليه لعنة الله قال الربيع‏:‏ لا والله يا أمير المؤمنين ما ألعنها قال له شريك‏:‏ يا ماجن فما ذكرك لسيدة نساء العالمين وابنة سيد المرسلين في مجالس الرجال قال المهدي‏:‏ دعني من هذا فإني رأيتك في منامي كأن وجهك مصروف عني وقفاك إلي وما ذلك إلا بخلافك علي ورأيت في منامي كأن أقتل زنديقاً قال شريك‏:‏ إن رؤياك يا أمير المؤمنين ليست برؤيا يوسف الصديق صلوات الله على محمد وعليه وإن الدماء لا تستحل بالأحلام وإن علامة الزندقة بينة قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ شرب المر والرشا في الحكم ومهر البغي قال‏:‏ صدقت والله أبا عبد الله أنت والله خير من الذي حملني عليك‏.‏

ودخل شريك القاضي على المهدي فقال له الربيع‏:‏ خنت مال الله ومال أمير المؤمنين قال‏:‏ لو كان ذلك لأتاك سهمك‏.‏

العتبي قال‏:‏ دخل جامع المحاربي على الحجاج - وكان جامع شيخاً صالحاً خطيباً لبيباً جريئاً على السلطان وهو الذي قال للحجاج إذ بنى مدينة واسط‏:‏ بنيتها في غير بلدك وتورثها غير ولدك - لجعل الحجاج يشكو سوء طاعة أهل العراق وقبح مذهبهم‏.‏

فقال له جامع‏:‏ أما إنه لو أحبوك لأطاعوك على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك ولا لذات نفسك فدع عنك ما يبعدهم منك إلى ما يقربهم إليك والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك وليكن إيقاعك بعد وعيدك ووعيدك بعد وعدك‏.‏

قال الحجاج‏:‏ ما أرى أن أراد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف قال‏:‏ أيها الأمير إن السيف إذ لاقى السيف ذهب الخيار قال الحجاج‏:‏ الخيار يومئذ لله قال‏:‏ أجل ولكنك لا تدري لمن يجعله الله فغضب وقال‏:‏ يا هناه إنك من محارب فقال جامع‏:‏ فقال الحجاج‏:‏ والله لقد هممت بأن أخلع لسانك فأضرب به وجهك قال جامع‏:‏ إن صدقناك أغضبناك وإن غششناك أغضبنا الله فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله قال‏:‏ أجل وسكن‏.‏

وشغل الحجاج ببعض الأمر فانسل جامع فمر بين الصفوف من أهل الشام حتى جاوزها إلى صفوف العراق فأبصر كبكبة فيها جماعة من بكر العراق وقيس العراق وتميم العراق وأزد العراق فلما رأوه أشرأبوا إليه وقالوا له‏:‏ ما عندك دفع الله عنك قال‏:‏ ويحكم عموه بالخلع كما يعمكم بالعداوة ودعوا التعادي ما عاداكم فإذا ظفرتم تراجعتم وتعاديتم أيها التميمي هو أعدى لك من الأزدي وأيها القيسي هو أعدى لك من التغلبي وهل ظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه منكم‏.‏

وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام واستجار بزفر بن الحارث فأجاره‏.‏

العتبي قال‏:‏ كان هارون الرشيد يقتل أولاد فاطمة وشيعتهم وكان مسلم ابن الوليد صريع الغواني قد رمي عنده بالتشيع فأمر بطلبه فهرب منه ثم أمر بكلب أنس بن أبي شيخ كاتب البرامكة فهرب منه ثم وجد هو ومسلم بن الوليد عند قينة ببغداد فلما أتي بهما قيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين قد أتي بالرجلين قال‏:‏ أي الرجلين قيل‏:‏ أنس بن أبي شيخ ومسلم ابن الوليد فقال‏:‏ الحمد لله الذي أظفرني بهما يا غلام أحضرهما‏.‏

فلما دخلا عليه نظر إلى مسلم وقد أنس الهوى ببني علي في الحشا وأراه يطمح عن بني العباس قال‏:‏ بل أنا الذي أقول يا أمير المؤمنين‏:‏ أنس الهوى ببني العمومة في الحشا مستوحشاً من سائر الإيناس وإذا تكاملت الفضائل كنتم أولى بذلك يا بني العباس قال‏:‏ فعجب هارون من سرعة بديهته وقال له بعض جلسائه‏:‏ استبقه يا أمير المؤمنين فإنه من أشعر الناس وامتحنه فسترى منه عجباً فقال له‏:‏ قل شيئاً في أنس فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أفرخ روعي أفرخ الله روعك يوم الحاجة إلى ذلك فإني لم أدخل على خليفة قط ثم أنشأ يقول‏:‏ تلمظ السيف من شوق إلى أنس فالموت يلحظ والأقدار تنتظر فليس يبلغ منه ما يؤمله حتى يؤامر فيه رأيك القدر أمضى من الموت عند قدرته وليس للموت عفو حين يقتدر قال‏:‏ فأجلسه هارون وراء ظهره لئلا يرى ما هم به حتى إذا فرغ من قتل أنس قال له‏:‏ أنشدني أشعر شعر لك فكلما فرغ من قصيدة قال له‏:‏ التي تقول فيها الوحل فإني رويتها وأنا صغير فأنشده شعره الذي أوله‏:‏ أديرا علي الراح لا تشربا قبلي ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي إذا ما علت منا ذؤابة شارب تمشت به مشي المقيد في الوحل فضحك هارون وقال‏:‏ ويحك يا مسلم‏!‏ أما رضيت أن قيدته حتى جعلته يمشي في الوحل ثم أمر له بجائزة وخلي سبيله‏.‏

قال كسرى ليوشت المغني‏:‏ وقد قتل الفهليذ تلميذه كنت أستريح منك إليه ومنه إليك فأذهب حسدك ونغل صدرك شكر تمتعي وأمر أن يطرح تحت أرجل الفيلة‏.‏

فقال‏:‏ أيها الملك إذا كنت أنا قد أهبت شطر تمتعك وأذهبت أنت الشطر الآخر‏:‏ أليس جنايتك على نفسك مثل جنايتي عليك قال كسرى‏:‏ دعوه فما دله على هذا الكلام إلا ما جعل من طول المدة‏.‏

يعقوب بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس قال‏:‏ دخلت يوماً على الرشيد أمير المؤمنين وهو متغيظ متربد فندمت على دخولي عليه وقد كنت أفهم غضبه في وجهه فسلمت فلم يرد فقلت‏:‏ داهية نآد ثم أومأ إلي فجلست‏.‏

فالتفت إلي وقال‏:‏ لله عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فلقد نطق بالحكمة حيث يقول‏:‏ يا أيها الزاجري عن شيمتي سفهاً عمداً عصيت مقال الزاجر الناهي أقصر فإنك من قوم أرومتهم في اللؤم فافخر بهم ما شئت أو باهي يزين الشعر أفواهاً إذا نطقت بالشعر يوماً وقد يزري بأفواه لقد عجبت لقوم لا أصول لهم أثروا وليسوا وإن أثروا بأشباهي ما نالني من غنى يوماً ولا عدم إلا وقولي عليه الحمد لله فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ومن ذا الذي بلغت به المقدرة أن يسامي مثلك أو يدانيه قال‏:‏ لعله من بني أبيك وأمك‏.‏

كان الكميت بن زيد يمدح بني هاشم ويعرض ببني أمية فطلبه هشام فهرب منه عشرين سنة لا يستقر به القرار من خوف هشام وكان مسلمة بن عبد الملك له على هشام يوماً إلى بعض صيوده أتى الناس يسلمون عليه وأتاه الكميت بن زيد فيمن أتى فقال‏:‏ السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته أما بعد‏:‏ قف بالديار وقوف زائر وتأن إنك غير صاغر حتى انتهى إلى قوله‏:‏ يا مسلم بن أبي الولي د لميت إن شئت ناشر غلقت حبالي من حبا لك ذمة الجار المجاور فالآن صرت إلى أمي ة والأمور إلى المصاير والآن كنت به المصي ب كمهتد بالأمس حائر فقال مسلمة‏:‏ سبحان الله من هذا الهندكي الجلحاب الذي أقبل من أخريات الناس فبدأ بالسلام ثم أما بعد ثم الشعر قيل له‏:‏ هذا الكميت بن زيد‏.‏

فأعجب لفصاحته وبلاغته فسأله مسلمة عن خبره وما كان فيه طول غيبته فذكر له سخط أمير المؤمنين عليه فضمن له مسلمة أمانه وتوجه به حتى أدخله على هشام وهشام لا يعرفه‏.‏

فقال الكميت‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله بركاته - الحمد لله - قال هشام‏:‏ نعم الحمد لله يا هذا - قال الكميت‏:‏ مبتدئ الحمد ومبتدعه والذي خص بالحمد نفسه وأمر به ملائكته وجعله فاتحة كتابه ومنتهى شكره وكلام أهل جنته أحمده حمد من علم يقيناً وأبصر مستبيناً وأشهد له بما شهد به لنفسه قائماً بالقسط وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده العربي ورسوله الأمي أرسله والناس في هبوات حيرة ومدلهمات ظلمة عند استمرار أبهة الضلال فبلغ عن الله ما أمر به ونصح لأمته وجاهد في سبيله وعبد ربه حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم إني يا أمير المؤمنين تهت في حيرة وحرت في سكرة إدلأم بي خطرها وأهاب بي داعيها وأجابني غاويها فاقطوطيت إلى الضلالة وتسكعت في الظلمة والجهالة حائداً عن الحق قائلاً بغير صدق فهذا مقام العائذ ومنطق التائب ومبصر الهدى بعد طول العمي‏.‏

ثم يا أمير المؤمنين كم من عاثر أقلتم عثرته ومجترم عفوتم عن جرمه‏.‏

فقال له هشام وأيقن أنه الكميت‏:‏ ويحك‏!‏ من سن لك الغواية وأهاب بك في العماية قال‏:‏ الذي أخرج أبي آدم من الجنة فنسي ولم يجد له عزماً وأمير المؤمنين كريح رحمة أثارت سحاباً متفرقاً فلفقت بعضه إلى بعض حتى التحم فاستحكم وهدر رعده وتلألأ برقه فنزل الأرض فرويت واخضلت واخضرت وأسقيت فروي ظمآنها وامتلأ عطشانها فكذلك نعدك أنت يا أمير المؤمنين أضاء الله بك الظلمة الداجية بعد العموس فيها وحقن بك دماء قوم أشعر خوفك قلوبهم فهم يبكون لما يعلمون من حزمك وبصيرتك وقد علموا أنك الحرب وابن الحرب إذا حمرت الحدث وعضت المغافر بالهام عز بأسك واستربط جأشك مسعار هتاف وكاف بصير بالأعداء مغزي الخيل بالنكراء مستغن برأيه عن رأي ذوي الألباب برأي أريب وحلم مصيب فأطال الله لأمير المؤمنين البقاء وتمم عليه النعماء ودفع به الأعداء‏.‏

فرضي عنه هشام وأمر له بجائزة‏.‏

العتبي قال‏:‏ لما أتي بابن هبيرة إلى خالد بن عبد الله القسري وهو والي العراق أتي به مغلولاً مقيداً في مدرعة فلما صار بين يدي خالد ألقته الرجال إلى الأرض فقال‏:‏ أيها الأمير إن القوم الذين أنعموا عليك بهذه النعمة قد أنعموا بها علي من قبلك فأنشدك الله أن تستن في بسنة يستن بها فيك من بعدك‏.‏

فأمر به إلى الحبس فأمر ابن هبيرة غلمانه فحفروا له تحت الأرض سرداباً حتى خرج الحفر تحت سريره ثم خرج منه ليلاً وقد أعدت له أفراس يداولها حتى أتى مسلمة بن عبد الملك فاستجار به فأجاره واستوهبه مسلمة من هشام ابن عبد الملك فوهبه إياه‏.‏

فلما قدم خالد بن عبد الله القسري على هشام وجد عنده ابن هبيرة فقال له‏:‏ إباق العبد أبقت قال له‏:‏ حين نمت نومة الأمة‏.‏

فقال الفرزدق في ذلك‏:‏ لما رأيت الأرض قد سد ظهرها فلم يبق إلا بطنها لك مخرجا دعوت الذي ناداه يونس بعد ما ثوى في ثلاث مظلمات ففرجا فأصبحت تحت الأرض قد سرت ليلة وما سار سار مثلها حين أدلجا خرجت ولم تمنن عليك شفاعة سوى حثك التقريب من آل أعوجا ودخل الناس على ابن هبيرة بعدما أمنه هشام بن عبد الملك يهنئونه ويحمدون له رأيه فقال متمثلاً‏:‏ من يلق خيراً يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما ثم قال لهم‏:‏ ما كان وقلكم لو عرض لي أو أدركت في طريقي ومثل هذا قول القطامي‏:‏ والناس من يلق خيراً قائلون له ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل عبد الله بن سوار قال‏:‏ قال لي ربيع الحاجب‏:‏ أتحب أن تسمع حديث ابن هبيرة مع مسلمة قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ فأرسل لخصي كان لمسلمة يقوم على وضوئه فجاءه فقال‏:‏ حدثنا حديث ابن هبيرة مع مسلمة قال‏:‏ كان مسلمة بن عبد الملك يقوم من الليل فيتوضأ ويتنفل حتى يصبح فيدخل على أمير المؤمنين فإني لأصب الماء على يديه م آخر الليل وهو يتوضأ إذ صاح صائح من وراء الرواق‏:‏ أنا بالله وبالأمير فقال مسلمة‏:‏ صوت ابن هبيرة اخرج إليه‏.‏

فخرجت إليه ورجعت فأخبرته فقال‏:‏ أدخله فدخل فإذا رجل يميد نعاساً فقال‏:‏ أنا بالله وبالأمير قال‏:‏ أنا بالله وأنت بالله ثم قال‏:‏ أنا بالله وبالأمير قال‏:‏ أنا بالله وأنت بالله حتى قالها ثلاثاً ثم قال‏:‏ أنا بالله فسكت عنه ثم قال لي‏:‏ انطلق به فوضئه ولصصل ثم اعرض عليه أحب الطعام إليه فأته به وافرش له في تلك الصفة - بصفة بين يدي بيوت النساء - ولا توقظه حتى يقوم متى قام‏.‏

فانطلقت به فتوضأ وصلى وعرضت عليه الطعام فقال‏:‏ شربة سويق فشرب وفرشت له فنام وجئت إلى مسلمة فأعلمته فغدا إلى هشام فجلس عنده حتى إذا حان قيامه قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لي حاجة قال‏:‏ قضيت إلا أن تكون في ابن هبيرة قال‏:‏ رضيت يا أمير المؤمنين ثم قام منصرفاً حتى إذا كان أن يخرج من الإيوان رجع فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين عودتني أن تستثني في حاجة من حوائجي وإني أكره أن يتحدث الناس أنك أحدثت على الاستثناء قال‏:‏ لا بلغ هشام بن عبد الملك عن رجل كلام غليظ فأحضره‏.‏

فلما وقف بين يديه جعل يتكلم فقال له هشام‏:‏ وتتكلم أيضاً فقال الرجل‏:‏ يقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ‏"‏ فنجادل الله تعالى جدالاً ولا نكلمك كلاماً فقال هشام بن عبد الملك‏:‏ ويحك‏!‏ تكلم بحاجتك‏.‏

فضيلة العفو والترغيب فيه

كان للمأمون خادم وهو صاحب وضوئه فبينما هو يصب الماء على يديه إذ سقط الإناء من يده فاغتاظ المأمون عليه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله يقول‏:‏ ‏"‏ والكاظمين الغيظ ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ قد كظمت غيظي عنك‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ والعافين عن الناس ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ قد عفوت عنك‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ والله يحب المحسنين ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ اذهب فأنت حر‏.‏

أمر عمر عبد العزيز بعقوبة رجل فقال له رجاء بن حيوة‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله قد فعل ما تحب من الظفر فافعل ما يحبه من العفو‏.‏

الأصمعي قال‏:‏ عزم عبد الله بن علي على قتل بني أمية بالحجاز فقال له عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم‏:‏ إذا أسرعت بالقتل في أكفائك فمن تباهي بسلطانك فاعف يعف الله عنك‏.‏

دخل ابن خريم على المهدي وقد عتب على بعض أهل الشام وأراد أن يغزيهم جيشاً فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين عليك بالعفو عن الذنب والتجاوز عن المسيء فلأن تطيعك العرب طاعة محبة خير لك من أن تطيعك طاعة خوف‏.‏

أمر المهدي بضرب عنق رجل فقام إليه ابن السماك فقال‏:‏ إن هذا الرجل لا يجب عليه ضرب العنق قال‏:‏ فما يجب عليه قال‏:‏ تعفو عنه فإن كان من أجر كان لك دوني وإن كان وزر كان علي دونك‏.‏

فخلى سبيله‏.‏

كلم الشعبي ابن هبيرة في قوم حبسهم فقال‏:‏ إن كنت حبستهم بباطل فالحق يطلقهم وإن كنت حبستهم بحق فالعفو يسعهم‏.‏

العتبي قال‏:‏ وقعت دماء بين حيين من قريش فأقبل أبو سفيان فما بقي أحد واضع رأسه غلا رفعه فقال‏:‏ ما معشر قريش هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق قالوا‏:‏ وهل شيء أفضل من الحق قال‏:‏ نعم العفو فتهادن القوم واصطلحوا‏.‏

وقال هزيم بن أبي طحمة ليزيد بن عاتكة بعد ظفره بيزيد بن المهلب‏:‏ ما ظلم أحد ظلمك ولا نصر نصرك فهل لك في الثالثة نقلها قال‏:‏ وما هي قال ولا عفا عفوك‏.‏

وقال المبارك بن فضالة‏:‏ كنت عند أبي جعفر جالساً في السماط إذ أمر برجل أن يقتل فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا كان يوم القيامة نادى مناد بين يدي الله‏:‏ ألا من كانت له عند الله يد فليتقدم فلا يتقدم إلا من عفا عن مذنب‏.‏

فأمر بإطلاقه‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب ‏"‏ وتقول العرب في أمثالها‏:‏ ملكت فأسجح وارحم ترحم وكما تدين تدان ومن بر يوماً بر به‏.‏

بعد الهمة وشرف النفس دخل نافع بن جبيرة بن مطعم على الوليد وعليه كساء غليظ وخفان جاسيان فسلم وجلس فلم يعرفه الوليد فقال لخادم بين يديه‏:‏ سل هذا الشيخ من هو‏.‏

فسأله فقال له‏:‏ اعزب فعاد إلى الوليد فأخبره فقال‏:‏ عد إليه واسأله فعاد إليه فقال له مثل ذلك‏.‏

فضحك الوليد وقال له‏:‏ من أنت قال‏:‏ نافع بن جبير بن مطعم‏.‏

وقال زياد بن ظبيان لابنه عبيد الله ألا أوصي بك الأمير زياداً قال‏:‏ يا أبت إذا لم يكن للحي إلا وصية فالحي هو الميت‏.‏

وقال معاوية لعمرو بن سعيد‏:‏ إلى من أوصى بك أبوك قال‏:‏ إن أبي أوصى إلي ولم يوص بي قال وبما أوصى إليك قال‏:‏ أن لا يفقد إخوانه منه إلا وجهه‏.‏

وقال مالك بن مسمع لعبيد الله بن زياد بن ظبيان‏:‏ ما في كنانتي سهم أنا به أوثق مني بك قال‏:‏ وإني لفي كنانتك‏!‏ أما والله لئن كنت فيها قائماً لأطولنها ولئن كنت فيها قاعداً لأخرقنها‏.‏

وقال يزيد بن المهلب‏:‏ ما رأيت أشرف نفساً من الفرزدق هجاني ملكاً ومدحني سوقة‏.‏

وقدم عبيد الله بن زياد بن ظبيان على عتاب بن ورقاء الرياحي - وهو والي خراسان - فأعطاه عشرين ألفاً فقال له‏:‏ والله ما أحسنت فأحمدك ولا أسأت فألومك وإنك لأقرب البعداء وأحب البغضاء‏.‏

وعبيد الله بن زياد بن ظبيان هذا هو القائل‏:‏ والله ما ندمت على شيء قط ندمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيته برأس مصعب بن الزبير فخر لله ساجداً أن لا أكون قد ضربت عنقه فأكون قد قتلت ملكين من ملوك العرب في يوم واحد‏.‏

ومن أشرف الناس همة عقيل بن علفة المري‏.‏

وكان أعرابياً يسكن البادية وكان تصهر إليه الخلفاء وخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لأحد أولاده فقال له‏:‏ جنبني هجناء ولدك‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز لرجل من بني أمية كان له أخوال في بني مرة‏:‏ قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مرة‏.‏

فبلغ ذلك عقيل بن علفة فأقبل إليه فقال له قبل أن يبتدئه بالسلام‏:‏ بلغني يا أمير المؤمنين أنك غضبت على رجل من بني عمك له أخوال في بني مرة فقلت‏:‏ قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مرة وأنا أقول قبح الله ألأم الطرفين ثم انصرف‏.‏

فقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ من رأى أعجب من هذا الشيخ الذي أقبل من البادية ليست له حاجة إلا شتمنا ثم انصرف فقال له رجل من بني مرة‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما شتمك وما شتم إلا نفسه وقومه نحن والله ألأم الطرفين‏.‏

أبو حاتم السجستاني عن محمد بن عبد الله العتبي قال‏:‏ سمعت أبي يحدث عن أبي عمرو المري قال‏:‏ كان بنو عقيل بن علفة بن مرة بن غطفان يتناقلون وينتجعون الغيث فسمع عقيل بن علفة بنتاً له ضحكت فشهقت في آخر ضحكها فاخترط السيف وحمل عليها وهو يقول‏:‏ فرقت إني رجل فروق بضحكة آخرها شهيق وقال عقيل‏:‏ إني وإن سيق إلي المهر ألف وعبدان وذود عشر أحب أصهاري إلي القبر وقال الأصمعي‏:‏ كان عقيل بن علفة المري رجلاً غيوراً وكان يصهر إليه الخلفاء وإذا خرج يمتار خرج بابنته الجرباء معه‏.‏

قال‏:‏ فنزلوا ديراً من ديرة الشام يقال لها دير سعد فلما ارتحلوا قال عقيل‏:‏ قضت وطراً من دير سعد وطالماً على عرض ناطحنه بالجماجم ثم قال لابنه‏:‏ يا عملس أجز فقال‏:‏ ثم قال لابنته‏:‏ يا جرباء أجيزي فقالت‏:‏ كأن الكرى سقاهم صرخدية عقاراً تمشى في المطا والقوائم قال‏:‏ وما يدريك أنت ما نعت الخمر‏!‏ فأخذ السيف وهوى نحوها فاستعانت بأخيها عملس فحال بينه وبينها‏.‏

قال‏:‏ فأراد أن يضربه‏.‏

قال‏:‏ فرماه بسهم فاختل فخذيه فبرك ومضوا وتركوه حتى إذا بلغو أدنى ماء للأعراب قالوا لهم‏:‏ إنا أسقطنا جزروا فأدركوها وخذوا معكم الماء فإذا عقيل بارك وهو يقول‏:‏ إن بني زملوني بالدم شنشنة أعرفها من أخزم من يلق أبطال الرجال يكلم والشنشنة‏:‏ الطبيعة وأخزم‏:‏ فحل معروف وهذا مثل للعرب ومن أعز الناس نفساً وأشرفهم همماً الأنصار وهم الأوس والخزرج ابنا قيلة لم يؤدوا إتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك وكتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته ويتوعدهم إن لم يفعلوا أن يغزوهم‏.‏

فكتبوا إليه‏:‏ العبد تبع كم يروم قتالنا ومكانه بالمنزل المتذلل إنا أناس لا ينام بأرضنا عض الرسول ببظر أم المرسل فغزاهم تبع أبو كرب فكانوا يقاتلونه نهاراً ويخرجون إليه القرى ليلاً فتذمم من قتالهم ورحل عنهم‏.‏

ودخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك فقال له‏:‏ من أنت وتجهم له كأنه لا يعرفه‏:‏ فقال له الفرزدق‏:‏ وما تعرفني يا أمير المؤمنين قال‏:‏ لا قال‏:‏ أنا من قوم منهم أوفى العرب أسود العرب وأجود العرب وأحلم العرب وأفرس العرب وأشعر العرب‏:‏ قال‏:‏ والله لتبينن ما قلت أو لأوجعن ظهرك ولأهدمن دارك قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة الذي رهن قوسه عن جميع العرب فوفى بها‏:‏ وأما أسود العرب فقيس بن عاصم الذي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسط له رداءه وقال‏:‏ هذا سيد الوبر وأما أحلم العرب فعتاب بن ورقاء الرياحي وأما أفرس العرب فالحريش بن هلال السعدي أما أشعر العرب فأنذا بين يديك يا أمير المؤمنين فاغتم سليمان مما سمع من فخره ولم ينكره وقال‏:‏ ارجع على عقبيك فما لك عندنا شيء من خير‏.‏

فرجع الفرزدق وقال‏:‏ أتيناك لا من حاجة عرضت لنا إليك ولا من قلة في مجاشع وقال الفرزدق في الفخر‏:‏ بنو دارم قومي ترى حجزاتهم عتاقاً حواشيها رقاقاً نعالها وقال الأحوص في الفخر وهو أفخر بيت قالته العرب‏:‏ ما من مصيبة نكبة أرمى بها ألا تشرفني وترفع شاني وإذا سألت عن الكرام وجدتني كالشمس لا تخفى بكل مكان وقال أبو عبيدة‏:‏ اجتمعت وفود العرب عند النعمان بن المنذر فأخرج إليهم بردي محرق وقال‏:‏ ليقم أعز العرب قبيلة فليلبسهما فقام عامر بن أحيمر السعدي فاتزر بأحدهما وارتدى بالآخر فقال له النعمان‏:‏ بم أنت أعز العرب قال‏:‏ العز والعدد من العرب في معد ثم في نزار ثم في تميم ثم في سعد ثم في كعب ثم في عوف ثم في بهدلة فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني فسكت الناس‏.‏

ثم قال النعمان‏:‏ هذه حالك في قومك فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك قال‏:‏ أنا أبو عشرة وخال عشرة وعم عشرة وأما أنا في نفسي فهذا شاهدي ثم وضع قدمه في الأرض ثم قال‏:‏ من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل‏.‏

فلم يقم إليه أحد فذهب بالبردين‏.‏

ففيه يقول الفرزدق‏:‏ فما ثم في سعد ولا آل مالك غلام إذا ما سيل لم يتبهدل لهم وهب النعمان بردي محرق بمجد معد والعديد المحصل وفي أهل هذا البيت من سعد بن زيد مناة كانت الإفاضة في الجاهلية‏.‏

ومنهم بنو صفوان الذين ولا يريمون في التعريف موقفهم حتى يقال أجيزوا آل صفوانا ما تطلع الشمس إلا عند أولنا ولا تغيب إلا عند أخرانا وقال الفرزدق في مثل هذا المعنى‏:‏ ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا وكانت هنيدة بنت صعصعة عمة الفرزدق تقول‏:‏ من جاءت من نساء العرب بأربعة كأربعتي يحل لها أن تضع خمارها عندهم فصرمتى لها‏:‏ أبي صعصعة وأخي غالب وخالي الأقرع بن حابس وزوجي الزبرقان بن بدر فسميت ذات الخمار‏.‏

وممن شرفت نفسه وبعدت همته‏:‏ طاهر بن الحسين الخراساني وذلك أنه لما قتل محمد بن زبيدة وخاف المأمون أن يغدر به امتنع عليه بخراسان ولم يظهره خلعه‏.‏

وقال دعبل بن علي الخزاعي يفتخر بقتل طاهر بن الحسين محمداً لأنه كان مولى خزاعة ويقال إنه خزاعي‏:‏ أيسومني المأمون خطة عاجز أوما رأى بالأمس رأس محمد توفي على روس الخلائق مثل ما توفي الجبال على رؤوس القردد إني من القوم الذين هم هم قتلوا أخاك وشرفوك بمقعد وقال طاهر بن الحسين‏:‏ غضبت على الدنيا فأنهبت ما حوت وأعتبتها مني بإحدى المتالف قتلت أمير المؤمنين وإنما بقيت عناء بعده للخلائف وأصبحت في دار مقيما كما ترى كأني فيها من ملوك الطوائف وقد بقيت في أم رأس فتكة فإما لرشد أو لرأي مخالف فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة‏:‏ عتبت على الدنيا فلا كنت راضيا فلا أعتبت إلا بإحدى المتالف فمن أنت أو ما أنت يا فقع قرقر إذا أنت منا لم تعلق بكانف فنحن بأيدينا هرقنا دماءنا كثول تهادى الموت عند التزاحف ستعلم ما تجني عليك وما جنت يداك فلا تفخر بقتل الخلائف وقد بقيت في أم رأسك فتكة سنخرجها منه بأسمر راعف وقال عبد الله بن طاهر‏:‏ مدمن الإغضاء موصول ومديم العتب مملول أقصري عما لهجت به ففراغي عنك مشغول سائلي عمن تسائلني قد يرد الخير مسئول أنا من تعرف نسبته سلفي الغر بالبهاليل سل بهم تنبيك نجدتهم مشرفيات مصاقيل كل عضب مشرب علقا وغرار الحد مفلول مصعب جدي نقيب بني هاشم والأمر مجبول وحسين رأس دعوتهم بعده الحق مقبول وأبي من لا كفاء له من يسامي مجده قولوا صاحب الرأي الذي حصلت رأيه القوم المحاصيل حل منهم بالذرى شرفاً دونه عز وتبجيل نفصح الأنباء عنه إذا أسكت الأنباء مجهول سل به الجبار يوم غدا حوله الجرد الأبابيل وهبوا لله أنفسهم لا معازيل ولا ميل ملك تجتاح صولته ونداه الدهر مبذول نزعت منه تمائمه وهو مرهوب ومأمول وتره يسعى إليه به ودم يجنيه مطلول فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة وكان من أصحابه وآثرهم عنده ثم اعتذر إليه وزعم أنه لم يدعه إلى إجابته إلا قوله‏:‏ من يسامي مجده قولوا فأمر له بمائة ألف وزاده أثرة ومنزلة‏:‏ لا يرعك القال والقيل كل ما بلغت تضليل ما هوى لي كنت أعرفه بهوى غيرك موصول أيخون العهد ذو ثقة لا يخون العهد متبول حملتني كل لائمة كل ما حملت محمول واحكمي ما شئت واحتكمي فحرامي لك تحليل وبدت يوم الوداع لنا غادة كالشمس عطبول تتعاطى شد مئزرها ونطاق الخصر محلول شملنا إذ ذاك مجتمع وجناح البين مشكول ثم ولت كي تودعنا كحلها بالدمع مغسول أيها البادي بطيته ما لأغلاطك تحصيل قد تأولت على جهة ولنا ويحك تأويل إن دليلاك يوم غدا بك في الحين لضليل قاتل المخلوع مقتول ودم القاتل مطلول قد يخون الرمح عامله وسنان الرمح مصقول وينال الوتر طالبه بعد ما تسلو المثاكيل بأخي المخلوع طلت يداً لم يكن في باعها طول وبنعماه التي كفرت جالت الخيل الأبابيل إن خير القول أصدقه حين تصطك الأقاويل مراسلات الملوك العتبي عن أبيه قال‏:‏ أهدى ملك اليمن عشر جزائر إلى مكة وأمر أن ينحرها أعز قريشي‏.‏

فقدمت وأبو سفيان عروس بهند بنت عتبة فقال له‏:‏ أيها الرجل لا يشغلنك النساء عن هذه المكرمة التي لعلها أن تفوتك فقال لها‏:‏ يا هذه دعي زوجك وما يختاره لنفسه والله ما نحرها غيري إلا نحرته‏.‏

فكانت في عقلها حتى خرج أبو سفيان في اليوم السابع فنحرها‏.‏

زهير عن أبي الجويرية الجرمي قال‏:‏ كتب قيصر إلى معاوية‏:‏ أخبرني عما لا قبلة له وعمن لا أب له وعمن لا عشيرة له وعمن سار به قبره وعن ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم وعن شيء ونصف شيء ولا شيء وابعث إلي في هذه القارورة ببزر كل شيء فبعث معاوية بالكتاب والقارورة إلى ابن عباس‏.‏

فقال ابن عباس‏:‏ أما مالا قبلة قبله له فالكعبة وأما من لا أب له فعيسى وأما من لا عشيرة له فآدم وأما من سار به قبره فيونس وأما ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم‏:‏ فكبش إبراهيم وناقة ثمود وحية موسى وأما شيء فالرجل له عقل يعمل بعقله وأما نصف شيء فالرجل ليس له عقل ويعمل برأي ذوي العقول وأما لا شيء فالذي ليس له عقل يعمل به ولا يستعين بعقل غيره وملأ القارورة ماء وقال‏:‏ هذا بزر كل شيء‏:‏ فبعث به إلى معاوية فبعث به معاوية إلى قيصر‏.‏

فلما وصل إليه الكتاب والقارورة قال‏:‏ ما خرج هذا إلا من أهل بيت النبوة‏.‏

نعيم بن حماد قال‏:‏ بعث ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً فيه‏:‏ من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك والذي تحته ابنه ألف ملك والذي مربطه ألف فيل والذي له نهران ينبتان العود والألوة والجوز والكافور والذي يوجد ريحه على مسيرة اثني عشر ميلاً إلى ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئاً أما بعد فإني قد بعثت إليك بهدية وما بهدية ولكنها تحية وأحببت أن تبعث إلي رجلاً يعلمني ويفهمني الإسلام والسلام يعني الهدية الكتاب‏.‏

الرياشي قال‏:‏ لما هدم الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم‏:‏ إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها فإن كان صواباً فقد أخطأ أبوك وإن كان خطأ فما عذرك فكتب إليه‏:‏ ‏"‏ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً ‏"‏‏.‏

وكتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان‏:‏ أكلت لحم الجمل الذي هرب عليه أبوك من المدينة لأغزينك جنوداً مائة ألف ومائة ألف‏.‏

فكتب عبد الملك إلى الحجاج أن يبعث إلى عبد الله بن الحسن ويتوعده ويكتب إليه بما يقول ففعل فقال عبد الله بن الحسن‏:‏ إن الله عزل وجل لوحاً محفوظاً يلحظه كل يوم ثلثمائة لحظة ليس منها لحظة إلا يحيي فيها ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء وإني لأرجو أن يكفينيك منها بلحظة واحدة‏.‏

فكتب به الحجاج إلى عبد الملك بن مروان وكتب به عبد الملك إلى ملك الروم فلما قرأه قال‏:‏ ما خرج هذا إلا من كلام النبوة‏.‏

بعث ملك الهند إلى هارون الرشيد بسيوف قلعية وكلاب سيورية وثياب من ثياب الهند فلما أتته الرسل بالهدية أمر الأتراك فصفوا صفين ولبسوا الجديد حتى لا يرى منهم إلا الحدق وأذن للرسل فدخلوا عليه فقال لهم‏:‏ ما جئتم به قالوا‏:‏ هذه أشرف كسوة بلدنا فأمر هارون القطاع بأن يقطع منها جلالاً وبراقع كثيرة لخيله فصلب الرسل على وجوههم وتذمموا من ذلك ونكسوا رؤوسهم ثم قال لهم الحاجب‏:‏ ما عندكم غير هذا قالوا له‏:‏ هذه سيوف قلعية لا نظير لها‏.‏

فدعا هارون بالصمصامة سيف عمرو بن معد يكرب فقطعت به السيوف بين يديه سيفاً سيفاً كما يقط الفجل من غير أن تنثني له شفرة ثم عرض عليهم حد السيف فإذا لا فل فيه فصلب القوم على وجوههم ثم قيل لهم‏:‏ ما عندكم غير هذا قالوا‏:‏ هذه كلاب سيورية لا يلقاها سبع إلا عقرته فقال لهم هارون‏:‏ فإن عند سبعا فإن عقرته فهي كما ذكرتم ثم أمر بالأسد فأخرج إليهم‏:‏ فلما نظروا إليه هالهم وقالوا‏:‏ فنرسلها عليه وكانت الأكلب ثلاثة فأرسلت عليه فمزقته فأعجب بها هارون وقال لهم‏:‏ تمنوا في هذه الكلاب ما شئتم من طرائف بلدنا قالوا‏:‏ ما نتمنى إلا السيف الذي قطعت به سيوفنا قال لهم‏:‏ ما كنا لنبخل عليكم ولكنه لا يجوز في ديننا أن نهاديكم بالسلاح ولكن تمنوا غير ذلك ما شئتم قالوا‏:‏ ما نتمنى إلا السيف قال‏:‏ لا سبيل إليه ثم أمر لهم بتحف كثيرة وأحسن جائزتهم‏.‏

أبو جعفر البغدادي قال‏:‏ لما انقبض طاهر بن الحسين بخراسان عن المأمون وأخذ حذره أدب له المأمون وصيفاً بأحسن الآداب وعلمه فنون العلم ثم أهداه إليه مع ألطاف كثيرة من طرائف العراق وقد واطأه على أن يسمه وأعطاه سم ساعة ووعده على ذلك بأموال كثيرة‏.‏

فلما انتهى إلى خراسان وأوصل إلى طاهر الهدية قبل الهدية وأمر بإنزال الوصيف في دار وأجرى عليه ما يحتاج إليه من التوسعة في النزالة وتركه أشهراً‏.‏

فلما برم الوصيف بمكانه كتب إليه‏:‏ يا سيدي إن كنت تقبلني فاقبلني وإلا فردني إلى أمير المؤمنين فأرسل إليه وأوصله إلى نفسه‏.‏

فلما انتهى إلى باب المجلس الذي كان فيه أمره بالوقوف عند باب المجلس وقد جلس على لبد أبيض وقرع رأسه وبين يديه مصحف منشور وسيف مسلول فقال‏:‏ قد قبلنا ما بعث به أمير المؤمنين غيرك فإنا لا نقبلك وقد صرفناك إلى أمير المؤمنين ولي عندي جواب أكتبه إلا ما ترى من حالي فأبلغ أمير المؤمنين السلام وأعلمه بالحال التي رأيتني فيها‏.‏

فلما قدم الوصيف على المأمون وكلمه بما كان من أميره ووصف له الحال التي رآه فيها شاور وزراءه في ذلك وسألهم عن معناه فلم يعلمه واحد منهم فقال المأمون‏:‏ لكني قد فهمت معناه‏:‏ أما تقريعه رأسه وجلوس على اللبد الأبيض فهو يخبرنا أنه عبد ذليل وأما المصحف المنشور فإنه يذكرنا بالعهود التي له علينا وأما السيف المسلول فإنه يقول‏:‏ إن نكثت تلك العهود فهذا يحكم بيني وبينك أغلقوا عنا باب ذكره ولا تهيجوه في شيء مما هو فيه‏.‏

فلم يهجه المأمون حتى مات طاهر بن الحسين وقام عبد الله بن طار بن الحسين مكانه فكان أخف الناس على المأمون‏.‏

وكتب طاهر بن الحسين إلى المأمون في إطلاق بن السندي من حبسه وكان عامله على مصر فعزله عنها وحبسه فأطلقه له وكتب إليه‏:‏ أخي أنت ومولاي فما ترضاه أرضاه وما تهوى من الأمر فإني أنا أهواه لك الله على ذاك لك الله لك الله قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عَبد ربِّه‏:‏ قد مضى قولًنا في مُخاطبة الملوك ومقاماتهم وما تفنَّنوا فيه من بديع حِكَمهم والتزلّف إليهم بحسن التوصل ولطيف المعاني وبارع مَنطقهم واختلاف مذاهبهم ونحن قائلون بحمد الله وتوفيقه في العلم والأدب فإنهما القُطبان اللذان عليها مَدار الدين والدنيا وفَرْقُ ما بين الإنسان وسائر الحيوان وما بين الطَّبيعة المَلَكية والطبيعة البهيمية‏.‏

وهما مادَّة العقل وسراج البدن ونُور القَلب وعماد الرُّوح وقد جَعل الله بلطيف قُدْرته وعظيم سُلطانه بعضَ الأشياء عَمَداً لبعض ومُتولِّدًا من بعض فإجالة الوَهم فيما تُدْركه الحواسّ تَبعث خواطر الذِّكر وخواطر الذكر تنبه رؤية الفِكْر وروية الفِكْر تثير مكامِن الإرادة والإرادة تُحْكم أسباب العمل فكلُّ شيء يقوم في العقل وُيمثل في الوهم يكون ذِكْرِا ثم فِكْرا ثم إرادة ثم عملا‏.‏

والعقل متقبل للعِلْم لا يعمل في غير ذلك شيئاَ‏.‏

والعلم علمان‏:‏ علم حُمِل وعلم استُعمل فما حُمل منه ضرّ وما استُعمل نَفع‏.‏

والدليل على أن العقل إنما يعمل في تقبل العُلوم كالبصر في تقبل الألوان والسمع في تقبل الأصوات أن العاقل إذا لم يُعلَّم شيئا كان كمن لا عقل له والطِّفل الصغير لو لم تعرِّفه أدبا وتُلقنه كتابا كان كأبله البهائم وأضلِّ الدواب فإن زَعم زاعمِ فقال‏:‏ إنا نجد عاقلا قليلَ العِلم‏:‏ فهو يَستعمل عقله في قلّة علمه فيكون أشدَ رأياَ وأنبه فِطنةً وأحسنَ مواردَ ومَصادِرَ من الكثير العِلم مع قَلّة العَقْل فإنَّ حُجَّتنا عليه ما قد ذكرناه من حَمْل العِلْم واستعماله فقليل العِلْم يستعمله العَقل خَيرٌ من كثيره يحفظه القلب‏.‏

قيل للمُهلِّب‏:‏ بِمَ أدركتَ ما أدركتَ قال‏:‏ بالعِلم قيل له‏:‏ فإن غيرك قد عَلم أكثر مما عَلِمتَ ولم يُدرك ما أدركت قال‏:‏ ذلك عِلم حُمِل وهذا علم استُعْمل‏.‏

وقد قالت الحكماء‏:‏ العِلمُ قائد والعَقل سائق والنَّفس ذَوْد فإذا كان قائد بلا سائق هلكت ‏"‏ الماشية ‏"‏ وإن كان سائق بلا قائد أخذتْ يميناً وشمالا وإذا اجتمعا أنابت طَوْعاً أو كَرْهاً‏.‏

فنون العلم قال سهل بن هارون يوماً وهو عند المأمون‏:‏ مِن أصناف العلم مالا ينبغي للمُسلمين أن يَرْغبوا فيه وقد يُرغب عن بعض العِلم كما يُرغب عن بَعض الحلال فقال المأمون‏:‏ قد يُسمِّي بعضُ الناسِ الشيءَ عِلماً وليس بعلمِ فإن كان هذا أردتَ فوَجْهُه الذي ذَكرتُ ولو قلتَ أيضاَ‏:‏ إِنّ العلم لا يُدْرَك غوْرُه ولا يُسْبر قَعْره ولا تُبلغ غايتهُ ولا تُستقىَ أُصوله ولا تَنْضَبط أجزاؤُه صدقتَ فإن كان الأمر كذلك فابدأ بالأهمِّ فالأهمّ والأوكد فالأوكد وبالفَرْض قبل النَّفل يكن ذلك عَدْلا قصداً ومذْهباً جَمِيلاَ‏.‏

وقد قال بعضُ الحُكماء‏:‏ لستً أَطلب العلْم طمعاً في غايته والوقوف على نِهايته ولكن التماسَ مالا يسع جَهلُه فهذا وَجهٌ لما ذكرت‏.‏

وقال آخرون‏:‏ عِلْم المُلوك والنَّسب والخَبَر وعِلمُ أصحاب الحُروب درْس كُتبِ الأيَّام والسِّير وعِلم التجَّار الكِتاب والحساب فأما أن يُسمَّى الشيء عِلماً وًينهى عنه من غير أن يُسأل عما هو أنفع منه فلا‏.‏

وقال محمد بن إدريس رضي الله عنه‏:‏ العِلم علمان‏:‏ عِلم الأبدان وعِلم الأديان‏.‏

وقال عبد الله بن مُسلم بن قُتيبة‏:‏ من أراد أن يكون عالماً فليطلب فنًا واحداً ومن أراد أن يكون أديباً فَلْيتسع في العلوم‏.‏

وقال أبو يوسُف القاضي‏:‏ ثلاثة لا يَسلمون من ثلاثة‏:‏ مَن طلب الدِّين بالفلسفة لمِ يَسلم من الزَّنْدَقَة ومَن طلب ‏"‏ المالَ ‏"‏ بالكِيمياء لم يَسلم من الفَقْر ومن طلب غرائبَ الحديث لم يَسلم من الكذب‏.‏

وقال ابن سِيرين رحمه اللهّ تعالى‏:‏ العِلْم أكثرُ من أن يُحاط به فخُذوا من كلِّ شيء أحسنه‏.‏

وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما‏:‏ كَفَاك من عِلم الدِّين أن تَعرف مالا يسع جهلُه وكفاك من عِلم الأدب أن تَرْوِي الشاهد والمَثل قال الشاعر‏:‏ وما من كاتب إلا ستبقى كِتابتهُ وإن فنيت يدَاه فلا تكتب بكفِّك غير شيء يَسرّك في القِيامة أن تَراه وقالوا‏:‏ مَن أكثر من النَّحْو حَمّقه ومن أكثر من الشعر بذَّله ومن أكثر من الفِقه شرَفه‏.‏

وقال أبو نُواس الحسن بن هانئ‏:‏ كم من حَديث مُعْجِب عندي لكا لو قد نبذتَ به إليك لسركا ممَّا تَخَيَّره الرواة مُهذّب كالدُّرِّ مُنتظماً بِنحْرٍ فَلَّكَا أَتتبع العُلماءَ أكتبُ عنهمُ كيما أُحدِّثَ من لقيتُ فَيَضْحكا الحض على طلب العلم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يزال الرجلُ عالماً ما طَلب العِلم فإذا ظَنَّ أنه قد عَلِم فقد جَهل‏.‏

وقال عليه الصلاةُ والسلام‏:‏ الناسُ عالمٌ ومُتعلِّم وسائرهم هَمَج‏.‏

وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ الملائكة لتَضَع أجنحتَها لطالب العِلم رِضاً بما يَطلب وَلمِدَاد جَرت به أقلامُ العُلماء خيرٌ من دماء الشّهداء في سبيل اللّه‏.‏

وقال داود لابنه سُليمان عليهما السلام‏:‏ لفَّ العِلْم حولَ عُنقك واكتُبه في ألواح قَلبك‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ اجعل العِلْم مالَكَ والأدب حِلْيتك‏.‏

وقيل لأبي عمرو بن العَلاء‏:‏ هل يَحْسُن بالشَيخ أن يتعلًم قال‏:‏ إن كان يَحسن به أن يعيش فإنه يحسن به أن يتعلم‏.‏

وقال عُرْوة بن الزُّبير رحمه اللهّ تعالى ‏"‏ لبنيه ‏"‏‏:‏ يا بنيَّ اطلبوا العِلم فإن تكونوا صِغار ‏"‏ قوم ‏"‏ لا يُحتاج إليكم فعسى أن تكونوا كبارَ قوم آخرين لا يستغني عنكم‏.‏

وقال ملك الْهِند لولده وكان له أربعون ولداً‏:‏ يا بني أكثِروا من النظر في الكتب وازدادوا في كل يوم حرفاً فإن ثلاثةً لا يَستوْحشون في غُربة‏:‏ الفقِيه العالم والبَطَل الشجاع والحُلوُ اللسان الكثير مخارج الرأي‏.‏

وقال المُهَلّب لبَنِيه‏:‏ إياكم أن تجلسوا في الأسواق إلا عند زَرَّاد أو وَرَّاق أراد الزرَّاد للحرب والورَّاق للعلم‏.‏

وقال الشاعر‏:‏ نِعْمَ الأنيسُ إذا خلوْتَ كِتَابُ تَلْهو به إن خانَكَ الأحبابُ لا مُفْشِياً سرّا إذا استودعتَه وتُفاد منهُ حكمةٌ وصَوَابُ وقال ‏"‏ آخر ‏"‏‏:‏ ولكلِّ طالب لذّة مُتنزَه وألذُّ نُزهة عالمٍ في كُتْبهِ ومَرَّ رجل بعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر وهو جالس في المَقْبرة وبيده كتاب فقال له‏:‏ ما أَجلسك هاهنا قال‏:‏ إنه لا أوْعظَ ‏"‏ مِن ‏"‏ قبر ولا أَمتع من كتاب‏.‏

وقال رُؤْبة بن العجَّاج‏:‏ قال لي النسِّابة البَكْري‏:‏ يا رُؤبة لعلك من قوم إن سَكَتُّ عنهم لم يَسأَلوني وإن حَدَّثتُهم لم يَفْهموني قلتُ‏:‏ إني أرجو أن لا أكون كذلك‏.‏

قال‏:‏ فما آفة العلم ونَكَده وهُجْنته قلت‏:‏ تُخبرني قال‏:‏ آفتُه النسيان ونَكَده الكذب وهُجْنته نشره عند غير أهله‏.‏

وقال عبد اللهّ بن عبَّاس رضوان الله عليهما‏:‏ مَنْهومان لا يَشبعان‏:‏ طالِب علم وطالب دنيا‏.‏

وقال‏:‏ ذَلَلتُ طالباً فعَزَزْتُ مطلوباً‏.‏

وقال رجل لأبي هُريرة‏:‏ أُريد أن أطلب العِلْم وأخاف أن أضيِّعه قال‏:‏ كفاك بترك طَلَب العِلم إضاعةً له‏.‏

وقال عبد اللهّ بن مسعود‏:‏ إن الرجل لا يُولد عالماً وإنما العِلم بالتعلّم‏.‏

وأخذه الشاعر فقال‏:‏ تَعَلم فليسَ المرء يُولد عالماً وليس أخو عِلم كمن هو جاهلُ ولآخر‏:‏ ولآخر‏:‏ ولم أر فرعاً طال إلا بأصْلهِ ولم أرَ بَدْءَ العِلم إِلا تَعَلّما وقال آخر‏.‏

العِلْم يُحْي قُلوبَ الميِّتِين كما تَحْيا البلادُ إذا ما مَسَّها المَطَرُ والعِلم يَجْلو العَمَى عن قَلْب صاحِبه كما يُجَلِّي سوادَ الظُّلْمة القمَر وقال بعضً الحكماء‏:‏ اقصِد من أصناف العِلم إلى ما هو أشهى لنفسك وأخفُّ على قَلبك فإنّ نفاذَك فيه على حَسب شَهوَتك له وسُهولتِه عليك‏.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق