كتبهابلال عبد الهادي ، في 26 نيسان 2011 الساعة: 18:58 م
جرى عند ابن سعدان يوماً كلام في الأخلاق، وحضره
جماعة منهم عيسى بن ثقيف الرومي أبو السمح، وغير هؤلاء من مشايخ النصارى، وكانوا
متحرمين بالفلسفة ومحبين لأهلها، وكان محصول ذلك: من أراد أن يكسب نفسه هيئة جميلة،
وسجية محودة، بتهذيب الأخلاق وتقويمها وتطهير من الأدناس التي نعتريها، تقسمه أمران
متباينان: أحدهما عسر ذلك وإباؤه، وتعذره والتواؤه، فيظن لذلك أن الأمر الذي يحاوله
معجوز عنه، وأنه غير مقدور عليه، وأن الوصول إليه محال. والآخر استجابة ذلك
وانقياده، ومطاوعته وإمكانه، فيظن ذلك أن الغاية التي يؤمها باجتهاده وقصده نظافة
بدنه، وتدليك أعضائه، وتقليم أظافره، ونفي القذى عن عينيه، وتسريح شعره، وترجيل
جمته، وتنقية أرفاغه وإزالة الدرن عن مغابنه بيده ويد غيره، والقيم في الحمام
وغيره، وقدر على ذلك ووجد السبيل إليه سهلاً حتى يخرج من الحمام ناضر البدن نقي
الأطراف قد اكتسب صاحبه صباحة ونظافة وضياء وخفة ظاهرة من ثقل ما كان راكبه وملازمه
من الوسخ والدرن، فإن أراد بعد ذلك أن يحول فطس أنفه قفاً، وزرقة عينه حوراً، ولفف
لسانه استمراراً، أراد المحال، وحاول المعجوز عنه، وقرف بسوء الاختيار، وحكم عليه
ببوار السعي وبطلان الاجتهاد. ومع هذا فليس له أن ييأس من إصلاح ما هو مستطاع،
ليأسه من إصلاح ما هو غير مستطاع. وليس له أيضاً أن يرجو إصلاح ما ليس بمستطاع،
لاقتداره على إصلاح ما هو مستطاع.
قطب هذه المذاكرة في الأخلاق، على أن تهذيبها وتطهيرها وردها إلى مقارها، وتسويتها وتعديلها من الصعب المتعسر، والممتنع المتعذر، لكنها مع هذا كله ممكنة من نفسها في أشياء خاصة، وفي مواضع معلومة، بعض الإمكان، وضامنة الاستحالة فيها بعض الضمان، فعلى هذا لا ينبغي أن يطمع في إصلاحها كل الطمع، ولا يقطع الرجاء عن إصلاح الممكن منها كل القطع.
وكان في كلامهم حشو كثير حصلت خالصة زبدته ما أعدت ههنا، وذكرته في جملة الكلام والناس من أول الدهر إنما يتكلمون في الأخلاق، على هذا تدل الكتب السالفة، والأشعار المتقدمة، والمواعظ القائمة، والمزاجر المترددة، ومع ذلك كله من طبع على الجبن ليس يجيء منه شجاع، ومن طبع على الغيرة لم يمكنه أن يغفل، ومن وجد في سوسه شيئاً أبداه، ومن كان في قوته شيء أظهره، ومن استكن في مزاجه شيء أبانه والأصل طالع على رابية الأيام، والاختيار في الأشياء قوة ضعيفة جداً لا ثبات لها مع الضرورة التي ترد قاهرة، وتوافي مجبرة، فإن الاختيار أيضاً في الأول من جملة تلك الضرورة في عرض القسمة السماوية، إن أذن له بدا وظهر، وسعى وسفر؛ وإن تكن الآخر بطل حكمه ورسمه، وارتفع عيبه وفعله. وقد شاهدنا من يمدح الجود ويحث عليه، ويحسنه ويدعو إليه، وهو أبعد الناس من العمل به، والقيام بحكمه. وقد وجدنا من يلوم التغافل في الحرمة وما يجري معها، ويبعث على الغيرة والصرامة فيها، وخوض الدم من أجل عارض في بابها، وهو أشد الناس انحلالاً فيها، وأظهرهم اختلالاً عليها. فكأن ما يقوله أحدهم ذاماً ومادحاً، هو غير ما ينبغي أن يأتيه أو يتركه مجتنباً.
وكان أبو سليمان يقول: كثير من أخلاق الإنسان تخفى عليه، وتطوى عنه؛ وذلك جلي لصاحبه وجاره وعشيره. وهو يدرك أخفا من ذلك على صاحبه وجليسه ومعامله وقريبه وبعيده، وكأنه في عرض هذه الأحوال عالم جاهل، ومتيقظ غافل، وجبان شجاع، وحليم طائش. يرضى عن نفسه في شيء هو المغتاظ على غيره من أجله. قال: وهذا كله دليل على أن الخلق في وزن الخلق وعلى نساجه، يعسر منه ما يعسر من هذا، ويسهل من هذا ما يسهل من ذاك.
قلت له عند التفاف الكلام في هذا الحد: ما الخلق? قال: شعار.
قلت: فما المحمود منه? قال: ما أنشأته النفس الفاضلة في ذي المزاج المعتدل.
قلت: فما المذموم منه? قال: ما توريه الطبيعة في ذي المزاج المتفاوت.
والكلام في الأخلاق مطرب، وكل هذا الكتاب فيها، ولهذا ما يجب أن يخطى، وإن أمكن عدت إليها في أثناء غيرها. فالغرض كله تقديرها بالقسطاس، وتطهيرها من الأدناس، التي عليها جمهور هذا الخلق.
قطب هذه المذاكرة في الأخلاق، على أن تهذيبها وتطهيرها وردها إلى مقارها، وتسويتها وتعديلها من الصعب المتعسر، والممتنع المتعذر، لكنها مع هذا كله ممكنة من نفسها في أشياء خاصة، وفي مواضع معلومة، بعض الإمكان، وضامنة الاستحالة فيها بعض الضمان، فعلى هذا لا ينبغي أن يطمع في إصلاحها كل الطمع، ولا يقطع الرجاء عن إصلاح الممكن منها كل القطع.
وكان في كلامهم حشو كثير حصلت خالصة زبدته ما أعدت ههنا، وذكرته في جملة الكلام والناس من أول الدهر إنما يتكلمون في الأخلاق، على هذا تدل الكتب السالفة، والأشعار المتقدمة، والمواعظ القائمة، والمزاجر المترددة، ومع ذلك كله من طبع على الجبن ليس يجيء منه شجاع، ومن طبع على الغيرة لم يمكنه أن يغفل، ومن وجد في سوسه شيئاً أبداه، ومن كان في قوته شيء أظهره، ومن استكن في مزاجه شيء أبانه والأصل طالع على رابية الأيام، والاختيار في الأشياء قوة ضعيفة جداً لا ثبات لها مع الضرورة التي ترد قاهرة، وتوافي مجبرة، فإن الاختيار أيضاً في الأول من جملة تلك الضرورة في عرض القسمة السماوية، إن أذن له بدا وظهر، وسعى وسفر؛ وإن تكن الآخر بطل حكمه ورسمه، وارتفع عيبه وفعله. وقد شاهدنا من يمدح الجود ويحث عليه، ويحسنه ويدعو إليه، وهو أبعد الناس من العمل به، والقيام بحكمه. وقد وجدنا من يلوم التغافل في الحرمة وما يجري معها، ويبعث على الغيرة والصرامة فيها، وخوض الدم من أجل عارض في بابها، وهو أشد الناس انحلالاً فيها، وأظهرهم اختلالاً عليها. فكأن ما يقوله أحدهم ذاماً ومادحاً، هو غير ما ينبغي أن يأتيه أو يتركه مجتنباً.
وكان أبو سليمان يقول: كثير من أخلاق الإنسان تخفى عليه، وتطوى عنه؛ وذلك جلي لصاحبه وجاره وعشيره. وهو يدرك أخفا من ذلك على صاحبه وجليسه ومعامله وقريبه وبعيده، وكأنه في عرض هذه الأحوال عالم جاهل، ومتيقظ غافل، وجبان شجاع، وحليم طائش. يرضى عن نفسه في شيء هو المغتاظ على غيره من أجله. قال: وهذا كله دليل على أن الخلق في وزن الخلق وعلى نساجه، يعسر منه ما يعسر من هذا، ويسهل من هذا ما يسهل من ذاك.
قلت له عند التفاف الكلام في هذا الحد: ما الخلق? قال: شعار.
قلت: فما المحمود منه? قال: ما أنشأته النفس الفاضلة في ذي المزاج المعتدل.
قلت: فما المذموم منه? قال: ما توريه الطبيعة في ذي المزاج المتفاوت.
والكلام في الأخلاق مطرب، وكل هذا الكتاب فيها، ولهذا ما يجب أن يخطى، وإن أمكن عدت إليها في أثناء غيرها. فالغرض كله تقديرها بالقسطاس، وتطهيرها من الأدناس، التي عليها جمهور هذا الخلق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق