الخميس، 12 فبراير 2015

من التاريخ: الإمبراطور تشي هوانغ داي عن جريدة الشرق الاوسط

د. محمد عبد الستار البدري
تابعنا في الأسبوع الماضي كيف استطاع ملك إمارة «كين» المعروف باسم ينج زينج في غرب الصين الصعود إلى سدة الحكم والقضاء على كل المنافسة التي كانت أمامه، وكيف أنه استطاع أن يُحجم أمه وعشيقها ويقضي على محاولتهما وضع ابنهما في سدة الحكم بدلا منه من خلال انقلاب من داخل القصر، وهكذا أصبح الرجل هو الحاكم القوي والوحيد لهذه الدويلة. وكما تابعنا، فقد استطاع الرجل أن يجهز جيشه ويطوره بشكل فتح له المجال للبدء في تنفيذ حلمه بتوحيد الدويلات الصينية السبع تحت حكمه وأسرته من بعده، وهو الجهد العسكري الذي سمح له بتأمين حدوده مع دويلة «زهاو» الشمالية ثم قيامه بغزو دويلة «هان» الغربية، وهو ما بات يهدد باقي الدويلات بشكل مزعج للغاية، فتحالفت هذه الدويلات ضده بأسرع مما كان يتصور، ولكنه استطاع بهدوء ورجاحة عقل أن يستولي عليها الواحدة تلو الأخرى بمزيج من الدبلوماسية والقوة العسكرية، فلقد قام بشكل منظم بتوجيه جهده الحربي في المرحلة التالية نحو ولاية «ويي» الغربية التي أصبحت في أحضان دولته بعدما استولى على الدويلتين في شمالها وجنوبها، فصارت محاصرة وأصبح الاستيلاء عليها مسألة وقت لا غير. وقد اقترف الملك الكثير من المجازر خاصة مع السجناء لمحاولة كسر عزيمة المقاومة للجيوش التي أصبحت أمامه. وقد جاءت هذه المجازر بأثر عكسي على خطط الملك؛ حيث أصبحت الجيوش الأخرى تخشى أن تلقى المصير نفسه، فزادت من استبسالها وصمودها في مواجهة جيشه، ولكن قوته كانت أكبر واقتصادات بلاده كانت أقوى من منافسيه، خاصة بعد ضم 3 دويلات إلى دولته، فوجه جهده بعد ذلك إلى أقوى الدويلات المتبقية، ولكنها استعصت عليه في البداية وهزمته عسكريا في عام 224 قبل الميلاد، ولكنه استطاع حشد مزيد من القوات، وعاد لينتصر عليها، ثم دانت له ولاية «كيي» بعدما فقدت الأمل في أي مناصرة أو تحالف. وبهذا استطاع الملك أن يوحد الصين في عام 221 قبل الميلاد، فدانت له البلاد تماما وأصبح هو موحد الصين، وبمجرد أن حقق هذا الحلم، قرر الرجل أن يمنح نفسه لقبا إمبراطوريا وهو تشي هوانج داي.

وعلى الفور بدأ الرجل في اتخاذ سلسلة من القرارات الفورية الهادفة إلى السيطرة الكاملة على الدولة الجديدة، فلقد رفض الرجل استبدال إقطاعيين من رجاله وجنرالاته بقيادات نظام الإقطاع، فقد أصبح الملك يتشكك كثيرا فيمن حوله، وكان يخشى الانقلاب عليه أو منح رجاله الكثير من السلطة بما يمكنهم من الانقلاب عليه، خاصة بعد تجربته التعيسة مع أمه وعشيقها، لذلك آثر الاستبدال بهذا النظام نظام الحاكم المركزي الذي يخضع لإمرته المباشرة من خلال تقسيم الصين إلى محافظات وأقاليم وقرى.. إلخ، التي خضعت بدورها لحكمه من خلال تعيين المحافظين بشكل مركزي، ومع ذلك، فهو لم يستطع القضاء على النظام الإقطاعي بوصفه كيانا اقتصاديا، لا سيما على ضوء عدم وجود نظام بديل له، ولكنه طوعه بشكل مركزي قضى من خلاله على فرص القلاقل السياسية. وقد بدأ الرجل سلسلة من الإصلاحات الداخلية هدفت لشق الطرق لربط الإمبراطورية الجديدة بعضها ببعض، كما قام بكثير من الإصلاحات في مجال الري وشق القنوات وغيرها من المشروعات المهمة التي ضمنت نوعا من الاستقرار الاقتصادي.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن الإمبراطور تشي هوانج داي رغم أن مشروعه التوسعي مصدره الأساسي شعوره بالعظمة ورغبته في إعلان نفسه إمبراطورا على الصين الموحدة، فإنه بشكل أو بآخر وضع اللبنة الأولى لوحدة الدولة الصينية من خلال كثير من الخطوات المهمة، وعلى رأسها قيامه بتوحيد الكتابة الصينية وتعميمها في كل ربوع الدولة الموحدة، ووضع نظام موحد للعملة الصينية، وكذا وضع نظاما موحدا للمقاييس حفاظا على الوحدة الاقتصادية والتكامل بين أجزاء الدولة الجديدة، وهو ما كان له أكبر الأثر في التوحد الصيني فيما بعد بعيدا عن الأنظمة المختلفة التي تبعته.

وإمعانا في تأمين هذا الهدف، فقد دأب الرجل على محاولة احتواء مملكته الجديدة من خلال بناء سور الصين العظيم الذي كان يمثل فاصلا بين دولته والعالم الخارجي، خاصة أمام القبائل المتنقلة، وهنا استخدم الرجل ما يقرب من مليون عامل صيني بالسخرة أو العبودية لبناء هذا الصرح الضخم في وقت قياسي، فبناء سور بارتفاع قرابة عشرة أمتار لمسافة تقارب خمسة آلاف كيلومتر لم يكن بالمشروع الهين، ولكن الرجل بأساليبه القسرية والعنيفة استطاع على حساب ما يقارب ربع مليون صيني أن يحقق هدفه الثمين.

وعلى الرغم من أن الإمبراطور استطاع أن يحقق حلمه وهو في سن مبكرة، تماما مثلما حدث مع الإسكندر الأكبر، فإن كل المصادر التاريخية تجمع على أن تاريخ الرجل وتجاربه باتت تؤثر على توازنه النفسي والانفعالي بشكل ملحوظ، فلقد بدأ الرجل يشعر بأن ما حققه ليس كافيا، خاصة إذا ما تلازم مع ذلك شعور بالعظمة الممزوج بنوع من «البارانويا» بسبب كثرة المؤامرات ومحاولات الاغتيال، وهو ما ساهم في تشكيل نفسية غير سوية مع مرور الوقت، فلقد بدأ الرجل يسعى مثل الإسكندر إلى تحدى الموت، وإذا ما كان الإسكندر قد اقتنع بأنه كان سيموت في عمر مبكر لأن الآلهة ستسمح له بتحقيق العظمة في سن مبكرة، فإن شيي هيوانج داي لم يكن على هذه القناعة نفسها، فلقد أراد الرجل أن يعيش عمرا أطول مما هو مكتوب له، فكانت محاولاته المستميتة لإيجاد وسيلة تسمح له بعمر مديد، وهو ما قربه من الروحانيين والعرافين الذين اقترحوا عليه كثرة معاشرة النساء لمد عمره فضلا عن تجرع جرعات من «الزئبق» التي كانوا يعتقدون أنها ستمد عمره، وهو ما أتى بنتائج عكسية تماما، حيث ساهم ذلك في إضعاف جسد الرجل تدريجيا إلى أن مات في عام 210 قبل الميلاد.

وهنا كرر التاريخ نفسه بعد موته، فسرعة التوحيد وعدم ترسيخ النظام الجديد لسنوات طويلة غالبا ما يكون من نتائجه تلاشي الحلم الذي بنيت من أجله الدولة الجديدة في وقت سريع، وهذا ما حدث؛ فلقد وقعت الدولة فريسة لمؤامرات القصر، حيث إن رئيس الوزراء لم يكن يميل لأن يتولى ابنه فوسو الحكم من بعد أبيه لأنه كان يأمل في أن يزيد من سلطاته من خلال السيطرة على الابن الأصغر للملك، ولكن في أقل من ثلاث سنوات انهارت الدولة الصينية الأولى، ولكن ليس قبل أن تكون قد رسخت في العقلية الصينية الدولة واللغة والثقافة والعملة الموحدة، وهي المكونات الأساسية التي تبنى عليها القومية في أي دولة.

أما على الصعيد الخاص بموحد الصين، فلقد ثبت من خلال تجربة هذا الرجل أن الاضطراب النفسي كثيرا ما يصاحب القوة التي لا يراجعها أحد والتي تتعرض للموت والمؤامرات، فسرعان ما حولت هذه العوامل الرجل إلى شخص مضطرب عانت من قيادته البلاد في أواخر أيامه أكثر مما استفادت، حيث بلغت به «البارانويا» آفاقا متقدمة، ولعل أكبر رموزها كان المقبرة العظيمة التي بناها الملك لنفسه تخليدا لحياته في العالم الآخر، وهي المقبرة التي تم اكتشافها في عام 1974 والتي احتوت في داخلها على خريطة مصنوعة للصين الموحدة، ومقبرة برونزية له، وما يقرب من سبعة آلاف تمثال لجيشه بالحجم الطبيعي، والمعروفة بالـ«Terracota»، مضافا إليها رفات كثيرين ممن شاركوا في بناء المقبرة والعالمين بمداخلها ومخارجها حفاظا على سرها، فضلا عن كثير من عشيقاته اللاتي آثرن الموت معه أو فرض عليهن الموت ليخففوا عن الملك آلام العالم الآخر وليوفرن له الاستقرار النفسي، وهذه من الحالات التي لم يأت فيها حب الملوك والتقرب منهم بفائدة عليهن!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق