مؤسف أن يعلو ضجيج «داعش» الدموي على كل ما عداه، وأن يخسف صوت أدونيس وبهاء طاهر وجمال الغيطاني، وكل أولئك الذين يحاولون أن يقولوا كلمة مفكرة في وجه الفعل الغريزي الخارج من مكبوتات متوحشة. التنظيم الذي سطا على أراض توازي مساحة بريطانيا بالسلاح وبث الذعر، خطورته تفوق قدرته على استنفار الغرائز إلى سطوته على شواغل الأرواح.
ما قاله أدونيس في «معرض القاهرة للكتاب»، وبصرف النظر عن رأينا في موقفه السياسي، كان يتوقع أن يفتح بابا واسعا لنقاش عربي حارّ، كان ينتظر أن يحدث ضجة ما. الرجل فضّل في هذا الظرف العصيب، مستضافا في إحدى أكبر التظاهرات الثقافية السنوية العربية، أن يتحدث كمفكر له رأي في ما يؤرق أمّته، رغم أحلامه الكبار بأن يفتح له الشعر أمجاد العالمية وأبواب نوبل الموصدة. لكن لا آراء أدونيس الجدلية، التي يفترض أنها استفزازية لكثيرين، ولا الفكر الفذ لمحمد عبده الذي اختير «شخصية المعرض» لهذا العام، استطاعا أن يخترقا فظائع «داعش» ولا مشهد حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، وجهود خاطفيه في تحويل قتله الهوليوودي إلى حدث يزعزع الوجدان.
ينجح «داعش» إذن بأن يجعل البشاعة الإجرامية جزءا من يومياتنا، بدل أن نشغلها بالتقاط الأنفاس، واستعادة العقل. تداوُل الشريط المريع، بالكثافة التي شهدنا، كان هدفا مقصودا لذاته بلغ غاياته بمهارة.
كان أدونيس في معرض الكتاب يتحدث تحديدا عن سبل قطع دابر العنف بالخروج من السياق التاريخي العفن الذي نعيش. قد توافق الرجل على القطع مع القراءة السائدة للدين، وتشكيل جبهة علمانية عربية موحدة لإعادة النظر في الموروث، وقد تعترض، لكن من الخطر والمثير فعلا أن يصبح مثقفو الأمة، مهما علت نبرتهم، مجرد ثرثرة فولكلورية لا طائل تحتها، وليس من يهتم حتى لمحاججتهم.
تطرف من نوع آخر تعيشه فرنسا، كاتب مثير للفتنة من صنف ميشال وولبيك، يصدر رواية تستند إلى الواقع لتعمر بناء خياليا يبث الذعر في المجتمع الفرنسي، يتحول إلى نجم الشاشات. وولبيك مجرد روائي، أو هكذا يفترض أن يكون، لكنه تحول إلى ضيف معزز على نشرات الأخبار، لتصوراته التخيلية في روايته الجديدة «الاستسلام» التي تتوقع أن فرنسا ستحكم عام 2022 من المسلمين متخلية عن قيمها التي بنتها وكدّت في سبيلها. وولبيك يستضاف ويسأل وكأن خيالاته ستصير واقعا لا محالة. شيء يشبه استضافة المنجمة ليلى عبد اللطيف أو ميشال حايك في نشرات الأخبار اللبنانية. وولبيك، الذي صار الأكثر مبيعا، لجهوده في استشراف المستقبل، يستحق أيضا دخول الأكاديمية الفرنسية وأن يجلس في مصاف العظماء، وهو يسعى لذلك وليس بعيدا أن يفلح تماما كما العنصري آلان فنكلكروت الذي نصب على أحد تلك المقاعد المخصصة لكبار المفكرين والعظماء.
لا نطلب أن يستضاف الروائي بهاء طاهر منظرا سياسيا، ليتحدث عن حبه لجمال عبد الناصر، وما يراه معايب يتوجب تفاديها، ولا أن تصبح الروائية حنان الشيخ ممن يعاملون وكأنهم يملكون كتابة أسرار الغد. العالم يجل كتّابه، ويلتفت إليهم في لحظات الشدة، أقله لمتنوّريهم، للاستفادة مما قرأوه وخبروه وربما أصابوا في إدراك بعضه.
العودة إلى الأموات كما الأحياء من أهل الفكر واجبة. ألبير كامو، اعتبرته مجلة «لوبوان» الفرنسية، مؤخرا، المفكر الأهم في القرن الحادي والعشرين رغم رحيله منذ أكثر من نصف قرن، جان كوكتو، سارتر، وحتى أرسطو، يعودون ليتصدروا غلافات كبريات المجلات. إدوارد سعيد، كأنما غاب وإلى الأبد، قسطنطين زريق تشعر رغم عروبته المنفتحة أنه صار ديناصورا، هشام شرابي مَن يذكره؟
يأتيك مهرج صهيوني، له إصبع في كل خراب، مثل برنار هنري ليفي، يكتب ويتكلم كمن أصيب بجنون الدفاع عن حقوق الإنسان، فينصب في فرنسا فيلسوفا كبيرا، يحتل الصدارة في البرامج الحوارية وفي الصحف، وحتى في السياسة الخارجية الفرنسية.
فوضى التصنيف والتعريف تعم العالم. من يستحق أن يقرأ ويسمع، ومن هم المثقفون المرتزقة. الغربلة باتت عصية، بعد أن دخلت السياسة وإغواءات المال في الفلسفة والشعر وحتى الرسم التجريدي والمسرح.
المخرج العراقي جواد الأسدي في بيروت يغلق مسرحه «بابل» الذي حلم بأن يجعله بيتا للفن والإبداع. يعترف بحزن بالغ بأنه لم يعد يحلم بمدينة بيروت، متنفسا للعطاء الثقافي. «قبل 15 أو 20 عاما، كان لفظ اسمي تشيخوف وبيكيت بالغ الوقع على المسرح. لكن الجمهور لم يعد يستسيغ العظمة». هكذا ينعى الأسدي العاصمة التي جمعت شعراء ومفكري العرب في الستينات والسبعينات، لأن الناس باتوا اليوم «يتسابقون على مسارح الضحك الكابوسي المبتذل، والقفشات الجنسية الضحلة».
أمة تغلق مسارحها، وتنسى مفكريها، وتبتذل مثقفيها، وتحاول أن تقضي على من تبقى منهم، بإغرائهم بالارتزاق تارة وبالتهميش تارة أخرى، هي أمة لا تريد أن تفكر إلا في السباحة في مستنقع الشيطان.
ما قاله أدونيس في «معرض القاهرة للكتاب»، وبصرف النظر عن رأينا في موقفه السياسي، كان يتوقع أن يفتح بابا واسعا لنقاش عربي حارّ، كان ينتظر أن يحدث ضجة ما. الرجل فضّل في هذا الظرف العصيب، مستضافا في إحدى أكبر التظاهرات الثقافية السنوية العربية، أن يتحدث كمفكر له رأي في ما يؤرق أمّته، رغم أحلامه الكبار بأن يفتح له الشعر أمجاد العالمية وأبواب نوبل الموصدة. لكن لا آراء أدونيس الجدلية، التي يفترض أنها استفزازية لكثيرين، ولا الفكر الفذ لمحمد عبده الذي اختير «شخصية المعرض» لهذا العام، استطاعا أن يخترقا فظائع «داعش» ولا مشهد حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، وجهود خاطفيه في تحويل قتله الهوليوودي إلى حدث يزعزع الوجدان.
ينجح «داعش» إذن بأن يجعل البشاعة الإجرامية جزءا من يومياتنا، بدل أن نشغلها بالتقاط الأنفاس، واستعادة العقل. تداوُل الشريط المريع، بالكثافة التي شهدنا، كان هدفا مقصودا لذاته بلغ غاياته بمهارة.
كان أدونيس في معرض الكتاب يتحدث تحديدا عن سبل قطع دابر العنف بالخروج من السياق التاريخي العفن الذي نعيش. قد توافق الرجل على القطع مع القراءة السائدة للدين، وتشكيل جبهة علمانية عربية موحدة لإعادة النظر في الموروث، وقد تعترض، لكن من الخطر والمثير فعلا أن يصبح مثقفو الأمة، مهما علت نبرتهم، مجرد ثرثرة فولكلورية لا طائل تحتها، وليس من يهتم حتى لمحاججتهم.
تطرف من نوع آخر تعيشه فرنسا، كاتب مثير للفتنة من صنف ميشال وولبيك، يصدر رواية تستند إلى الواقع لتعمر بناء خياليا يبث الذعر في المجتمع الفرنسي، يتحول إلى نجم الشاشات. وولبيك مجرد روائي، أو هكذا يفترض أن يكون، لكنه تحول إلى ضيف معزز على نشرات الأخبار، لتصوراته التخيلية في روايته الجديدة «الاستسلام» التي تتوقع أن فرنسا ستحكم عام 2022 من المسلمين متخلية عن قيمها التي بنتها وكدّت في سبيلها. وولبيك يستضاف ويسأل وكأن خيالاته ستصير واقعا لا محالة. شيء يشبه استضافة المنجمة ليلى عبد اللطيف أو ميشال حايك في نشرات الأخبار اللبنانية. وولبيك، الذي صار الأكثر مبيعا، لجهوده في استشراف المستقبل، يستحق أيضا دخول الأكاديمية الفرنسية وأن يجلس في مصاف العظماء، وهو يسعى لذلك وليس بعيدا أن يفلح تماما كما العنصري آلان فنكلكروت الذي نصب على أحد تلك المقاعد المخصصة لكبار المفكرين والعظماء.
لا نطلب أن يستضاف الروائي بهاء طاهر منظرا سياسيا، ليتحدث عن حبه لجمال عبد الناصر، وما يراه معايب يتوجب تفاديها، ولا أن تصبح الروائية حنان الشيخ ممن يعاملون وكأنهم يملكون كتابة أسرار الغد. العالم يجل كتّابه، ويلتفت إليهم في لحظات الشدة، أقله لمتنوّريهم، للاستفادة مما قرأوه وخبروه وربما أصابوا في إدراك بعضه.
العودة إلى الأموات كما الأحياء من أهل الفكر واجبة. ألبير كامو، اعتبرته مجلة «لوبوان» الفرنسية، مؤخرا، المفكر الأهم في القرن الحادي والعشرين رغم رحيله منذ أكثر من نصف قرن، جان كوكتو، سارتر، وحتى أرسطو، يعودون ليتصدروا غلافات كبريات المجلات. إدوارد سعيد، كأنما غاب وإلى الأبد، قسطنطين زريق تشعر رغم عروبته المنفتحة أنه صار ديناصورا، هشام شرابي مَن يذكره؟
يأتيك مهرج صهيوني، له إصبع في كل خراب، مثل برنار هنري ليفي، يكتب ويتكلم كمن أصيب بجنون الدفاع عن حقوق الإنسان، فينصب في فرنسا فيلسوفا كبيرا، يحتل الصدارة في البرامج الحوارية وفي الصحف، وحتى في السياسة الخارجية الفرنسية.
فوضى التصنيف والتعريف تعم العالم. من يستحق أن يقرأ ويسمع، ومن هم المثقفون المرتزقة. الغربلة باتت عصية، بعد أن دخلت السياسة وإغواءات المال في الفلسفة والشعر وحتى الرسم التجريدي والمسرح.
المخرج العراقي جواد الأسدي في بيروت يغلق مسرحه «بابل» الذي حلم بأن يجعله بيتا للفن والإبداع. يعترف بحزن بالغ بأنه لم يعد يحلم بمدينة بيروت، متنفسا للعطاء الثقافي. «قبل 15 أو 20 عاما، كان لفظ اسمي تشيخوف وبيكيت بالغ الوقع على المسرح. لكن الجمهور لم يعد يستسيغ العظمة». هكذا ينعى الأسدي العاصمة التي جمعت شعراء ومفكري العرب في الستينات والسبعينات، لأن الناس باتوا اليوم «يتسابقون على مسارح الضحك الكابوسي المبتذل، والقفشات الجنسية الضحلة».
أمة تغلق مسارحها، وتنسى مفكريها، وتبتذل مثقفيها، وتحاول أن تقضي على من تبقى منهم، بإغرائهم بالارتزاق تارة وبالتهميش تارة أخرى، هي أمة لا تريد أن تفكر إلا في السباحة في مستنقع الشيطان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق