الثلاثاء، 27 مارس 2018

الحواسّ في الدراسات السرديّة




الحواسّ في الدراسات السرديّة

ما لم يُدرس أكثر بكثير ممّا درس، ولكن على المرء أن يخرج من الدروب المطروقة والتسكّع في دروب مهملة لا يعيرها الناس كثير اهتمام، أو طرق " قادوميّة" في الدراسة.لا يمكن للمرء أن يذهب إلى دروب غير مطروقة إلاّ من طرق مطروقة. وليس هناك أشدّ متعة من أن يكون ما هو مألوف طريق المرء إلى ما هو غير مألوف. مثلاً يمكنك أن تدخل إلى وجه من وجوه السرد في رواية، أو تعمد إلى دراسة تشكيل المعنى  في الأدب المنثور او المنظوم من خلال الكيفية التي يتعامل بها الكاتب مع عالم الحواس.
ما هو الدور الذي تؤديه حاسة اللمس مثلا، أو حاسّة الشمّ في مفاصل هذه الرواية أو هذه القصيدة؟ كيف توظّف الحواس في رسم ملامح المعنى؟
أحياناً نذهب الى المضمون فننسى الطريق التي أخذتنا إلى المضمون في حين أن الطريق هي جزء من المضمون، تماماً كما أن الطريق إلى الرحلة هي جزء من الرحلة، وهذا ما يحدث كثيرا في القراءة، أي انني حين آخذ المضمون وحده بعين الاعتبار تسقط منّي أشياء كثيرة، فحين يقول مثلا ابو نوّاس " الصهباء" وتصل الى أذني أو عيني أو أنفي! " الخمرة" فهذا يعني أنها لم تصل تماما، أو هذا، في الأقلّ، احتمال وارد. تطير الصاد والهاء والباء والألف والهمزة، وهي حروف اختارها الشاعر ولم يختر غيرها، ولم يقلها اعتباطا. انه اختارها، والاختيار معنى. وكثيرون يقعون ضحايا عبارة " الضرورة الشعرية"، وهي عبارة تعمي الأبصار، فيكفّ القارىء أو الناقد عن مساءلة هذه الضرورة، ولا يحاول القارىء أن يتساءل لماذا اختار الشاعر هذه الضرورة، وهي عمليا، ليست ضرورة، إذ لا احد " يفرض " عليه أن يختار الضرورة إلاّ تصوّراته ومراداته.
قلت : ينسى الطريق، والطريق "أسلوب" الرجل. الاختيار اللغوي للشاعر تحديدا هو من لبّ الشعريّة!
يمتعني وأنا أقرأ رواية أو قصيدة البحث عن الأبواب التي يمكن الدخول منها الى عالم الرواية أو القصيدة، وهي أبواب بعضها يشبه الأبواب السرية. والحواس أبواب الى المعنى المتواري. فهناك شخصية شمية وأخرى ترجّح حاسة النظر وثالثة ذوقية ورابعة لمسيّة وخامسة تنشّط حاسة السمع لديك.
لقد اصطاد الروائي الفرنسي مارسك بروست ذكرياته وزمنه المفقود عبر رمي حاسّة الشمّ في أوقيانوس الذاكرة! وعليه، هل يمكن لنا أن نقرأ بروست ونحن في حالة زكام أو دون أن ندسّ أنفنا في ما كتب؟

سفينة أبي العتاهية

ترجو النجاةَ ولم تسلكْ مسالكها
إنَّ السفينة لا تجري على اليَبَسِ

كلامي هنا سيكون فقط على الشطر الثاني من البيت المنسوب لأبي العتاهية . "السفينة لا تجري على اليَبَس" تعبير واقعي، فلم يسبق لأحد منّا أن رأى باخرة تمخرعباب شيء آخر. التعبير منطقيّ، لا تنكره العين، بل لا يخطر ببال العين أن ترى ما يخالفه. وبقي هكذا حال هذا القول إلى أن جاء محمّد الفاتح ونقض قول أبي العتاهية. وقصة سقوط القسطنطينية على يد السلطان العثمانيّ لا يمكنها أن تغيّب دور السفن . كانت الدفاعات البحرية تمنع سفن السلطان العثماني من القيام بدورها البحريّ. خطرت ببال محمد الفاتح خطّة جهنّمية وهي أن تغيّر السفن طبيعتها فبدلا من أن تمخر عباب البحر وجدها صالحة لأن تمخر عباب الجبال، أي أنّه تخيّل الجبال شكلا من أشكال البحر، نظرته الاستراتيجية غيّرت طبيعة البحر وطبيعة الجبل فقرّر ان يمشّي سفنه البحرية في الجبال، السفينة تجري - بخلاف ما قاله أبو العتاهية - على اليبس، فغيّر محمد الفاتح بسلوكه  مصير القسطنطينيّة ومجرى التاريخ! ونزل على أعدائه من مكان لا يخطر ببال. وما لا يخطر ببال غيرك سلاح فتّاك بين يديك!
تعبير أبي العتاهية يدعو الى الاستسلام للواقع. الرضوخ للواقع مدعاة للخمول، قرّر محمد الفاتح نسف القول بالبرهان، والتمرّد على ما نعتبره تحصيل حاصل،  فخلق واقعا جديدا.
السفينة تمشي على اليابسة، وتتسلّق الجبال من وجهة نظر محمد الفاتح !

في التضمين
" التضمين" مصطلح بلاغيّ وهو شكل من أشكال التناصّ، أي إدخال نصّ في نصّ آخر، والتضمين قد يكون كلمة وقد يكون جملة أو أكثر.
وسأعطي مثالاً :
جبل التوباد حيّاك الحيا
وسقى الله صبانا ورعى
هذا البيت من مسرحية " مجنون ليلى" التي وضعها أحمد شوقي. أخذ الشاعر المصري الراحل أمل دنقل هذا البيت وجعله على الوجه التالي:
جبل التوباد حياك الحيا
وسقى الله ثرانا الأجنبي.
لو لم ينوجد بيت شوقي لما وجد بيت دنقل. ولكن نلحظ ان التضمين لم يكن، هنا، تضمينا تاما. "الثرى الأجنبي" أعطى بعدا جديدا للبيت وجارحا، ليصف تغير الأحوال وواقع الاحتلال  الأجنبي للثرى العربيّ.
وكان أمل دنقل ماهراً في استخدام هذه الحلية البلاغية بقصد تبليغ رسالته الهجائية للواقع العربي. والتضمين قد يكون كاملا أحياناً، ولكن حتى الكامل بمجرد وضعه في سياق جديد يكتسي دلالة جديدة هي بنت علاقاته المستجدة مع بيئته المستحدثة.

في المترادفات
المترادافات لها عدّة وظائف في الاستعمال اللغوي. المترادفات هي مترادفات أحيانا بالمعنى لا بالاستعمال، فكلمتان مترادفتان لا يعني بالضرورة أنّه يمكن استبدال واحدة بواحدة دون أن يتغيّر المعنى المتعدد: اجتماعي، نفسي، عاطفي، فكري، عقائدي... هناك مترادفات يفصل بينها العمر: فكلمة أبي تعني بابا وتعني پاپّي. فبابا هي پاپي، ولكن بابا ليست پاپّي، تخيّل رجلا، بالغا، جدّيّاً، عاقلا، يرى والده فيقول له : أهلاً پاپي! سيتحوّل القول هنا إلى مقطع كوميدي جارح!
أردت هنا ان اشير الى الحدود العمرية التي تبيح أو تمنع المترادفات. الزمن نقطة مهمة في فهم استخدام المترادفات سواء كانت المترادفات من جذر واحد أو من جذور مختلفة. هذا الاختلاف في دلالات المترادفات يعطي القائل أو الكاتب مروحة من الأساليب ومن الخيارات.
الاستخدام اللغوي للمترادفات لعبة يجيدها كلّ الناس في درجات متفاوتة فهي أي المترادفات ضرورة حياتية وضرورة لغوية إذ من المتعذّر أن تجد لغة لا تتعاطى مع المترادفات . وهي - أي المترادفات - تدخل في حيّز الاستخدام الهزلي والجدّي، أي أنّه يمكن للممثّل الهزليّ أن يستثمرها لتوليد قهقهة في شفاه السامعين!

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق