ما من أحد، فيما أتصور، لا يعرف حكاية علي بابا الواردة في الكتاب الفاتن "ألف ليلة وليلة" الذي لم يعترف به العرب، إلى الآن، كما يجب، ( كأغلب الكتب الشعبية، من سيرة عنترة إلى سيرة الزير سالم، وغيرهما من الأدب الموسوم بالشعبيّ، أي الأدب من الدرجة الثانية) باعتباره ينتمي إلى الأدب الهابط أو المكشوف. من هنا فإن عين الرقيب دائماً عليه، تعمل فيه حذفاً وتهذيباً، لأنّه، في نظرها، كتاب لقيط مجهول النسب، ليس له أمّ أو أب، وغير مهذّب، فيه بذاءات يعفّ عنها، حسب ظنّها، الأدب الرسمي. وهذا ما يدحضه، في أيّ حال، الأدب الرسميّ نفسه. ولكنّ المسألة كانت مسألة لغوية، فأسلوب الليالي "الركيك"، من منظور الطبقيّة اللغوية، هو الذي حرّم على "الليالي" الملوّنة الارتقاء إلى مصافّ الأدب الرفيع. والعرب أرغموا، فيما يبدو، على الاعتراف به ليس لأنّه " ألف ليلة وليلة"، ولكن فقط لأنّه أثار إعجاب الغربيين حيث قاموا بترجمته وتحويل بعض حكاياته إلى أفلام ومسلسلات ورسوم متحركة. هل تخلو، حاليّاً، لغة حضارية من حكايات "ألف ليلة وليلة"؟
والكتاب منجمٌ لغويٌّ فضلاً عن قيمته الحكائية الرائعة. إنّه لحظة نزول اللغة إلى الشارع وتبني لغة الناس العادية وتراكيبهم المرنة والخياليّة الفذّة في عملية السرْد. إنّه، لغوياً، على نقيض مقامات بديع الزمان والحريريّ. يطلق اللغة من عقالها "العاجيّ"، ولا يكتّفها أو يكبّلها بالكلمات التي لا تفضي بمدلولاتها إلاّ عن طريق راشد أو مرشد لغويّ. (هل يمكن، مثلا، قراءة مقامات الحريريّ بلا وجود هوامش لغويّة تقوم بدور الدليل الذي يمهّد درب القراءة في ذيل الصفحات؟). وظيفة "ألف ليلة وليلة" ليست في تحويل القارىء إلى قاموس للمفردات الغريبة، وإنّما تخصيب خياله وتدريبه على ممارسة حقوقه الطبيعية من خلال تركيب أجنحة لقرّاء لا يتقنون التحليق بأجنحتهم الذاتية.
أشياء كثيرة في "ألف ليلة وليلة" تستحق القراءة. وهنا أتوقف عند نقطة من حكاية "علي بابا" هي دور جاريته مرجانة في إنقاذ حياته، عبر زرع الضباب الكثيف في عيون الأربعين حراميّاً، بفضل ما تمتلكه من حنكة باهرة، ودهاء سيميائيّ ( أي قدرة على تحويل الأشياء إلى نصوص قابلة للقراءة وفق أبجدية خاصّة).
حين علمت العصابة أنّ علي بابا هو من قام بسرقتها، على اعتبار أنّ "سرقة أولاد الحرام حلال" على قولة أديب طنجة محمد شكري في كتابه "الخبز الحافي"، أرادت الانتقام منه واسترداد ممتلكاتها السليبة. ولكن مكان إقامته بالنسبة لها مجهول، لا بدّ من التحري لمعرفة بيته. عرفت العصابة، بعد طول بحث، مكان إقامته، ولكن لا تريد العصابة أنْ تثير الانتباه والشبهات، فما كان منها إلا أن "علّمت" باب بيت علي بابا بعلامة فارقة تميزه من بقية البيوت الكثيرة المتشابهة كوجوه الصينيّين! لتقوم بالانتقام في جنح الظلام. انتبهت مرجانة للعلامة، ودور مرجانة في الحكاية هو دور المساعد. ولا تخلو حكاية من مساعد، بحسب تحليل فلاديمير بْرُوْبْ المميّز في كتابه: "مورفولوجيا الحكاية". الإنسان مستطيع بغيره على ما كان يردّد أبو العلاء المعرّي، و"اليد الواحدة لا تصفق" كما يقول المثل، وكانت مرجانة يد علي بابا اليمنى التي تصفّق وتكتب تفاصيل الحكاية. كيف تنقذ مرجانة باب بيت وليّ نعمتها من العلامة، وتنقذ بالتالي سيدها، ولحم كتفيها من خيره؟
إزالة العلامة ليست حلاًّ مأمون العاقبة، وإن كان من المعروف أنّ فقدان العلامة، على قول النحاة، علامة. وكلّ إنسان يتعامل بالفطرة مع العلامة الغائبة على أنّها علامة حاضرة ودالّة. هذا ما نراه حتى في اللغة أيضاً، فالسكون هي علامة على غياب الحركات بمعنى العلامات، أيْ أنّها علامة سالبة وغائبة. هل تعمد مرجانة إلى محو العلامة لتضليل الحراميّة؟ لم تلجأ مرجانة إلى استراتيجية المحو، فقد يترك محو العلامة آثاراً ظاهرة لا تغيب عن عيون الحراميّة تكون بمثابة علامة توصل اللصوص بالهيّن إلى رأس علي بابا. لقد اتبعت مرجانة خطّة بسيطة هي محْو العلامة من غير اللجوء إلى أيّ عملية محْوٍ، أي المحْو عن طريق استنساخ العلامة. قامت مرجانة بتقليد عمل اللصوص فراحت ترسم العلامة نفسها على كلّ باب في حارة علي بابا. حين عاد اللصوص إلى بيت علي بابا مسترشدين بالعلامة الفارقة، وجدوا أنّ كلّ بيت هو بيت علي بابا، لأنّ على كلّ باب علامة، أي أنّ الوصول إلى بيت علي بابا صار أشبه بالخروج من متاهة مضلّلة كالسراب لتناسل العلامة وتكاثرها.
وهكذا أنقذت مرجانة علي بابا من انتقام الحراميّة. ولكن للحكاية تتمّة، فاللصوص لم ييأسوا، وكانت مرجانة في كلّ مرّة تفكّ أحابيلهم عن طريق إيقاعهم في ما نصبوه من أحابيل.
لولا مرجانة لتغيّرت ملامح وجه الحكاية. وفي حكايات كثيرة تغيّر امرأة ( وهنا، امرأة ناقصة! بحكم كونها جارية أو حجراً كريماً وهي "مرجانة" - والاسم نمّام- تباع وتشترى، أي لا تملك مقادير أمرها) مسير حكاية ومصير رجل هو، هنا، على نقيض تامّ لها، حرّ، كامل الحرية والسيادة.
ولكنْ حين يكون خلاصُ حرٍّ على يد غيرِ حرٍّ فأيٌّ منهما يكون، عمليّاً، الحرّ ؟ لم تكن من هموم الحكاية هذه المسألة التي لم تدر في بال مرجانة الجارية الوفيّة التي كان كلّ همّها إنقاذ وليّ نعمتها علي بابا من لصوص المغارة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق