أحدث تعريف لعلم اللغة الحديث لم يحد قيد أنملة عن
التعريف الذي وضعه ابن جنّي بقوله: " اللغة أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن
أغراضهم"، وهو تعريف حصيف وكثيف ورد في كتاب " الخصائص" وهو أحد
أهمّ كتب التراث في اللغة العربيّة. والأصوات صور لما يجول في الأذهان من أفكار،
أو كما يقول ابن خلدون إن الأصوات اللغوية هي رموز لترجمة ما في الأفكار، وحين
ينتقل إلى المجال الكتابي يتساءل ابن خلدون ما إذا كانت الحروف المكتوبة رموزا
للأفكار أم رموزا للأصوات؟ فيعتبر أنّ الحرف،
وكلمة حرف تحيل في أغلب الأحيان إلى الشكل المكتوب للصوت اللغوي الواحد،
فـصورة صوت الباء في العربية مثلاً هي حرف " ب" بتجلّياته المختلفة. فالحرف
العربيّ الواحد يتغيّر، كتابة ، بتغير السياق الذي هو فيه، فحاله في أوّل الكلمة
ليس كحاله في وسطها، وليس كحاله في آخر الكلمة. ويسمّي ابن خلدون الحرف " رمز
الرمز"، فالصوت رمز الفكرة، والحرف رمز الصوت، من هنا ينتقل الحرف الى كونه
رمزا من الدرجة الثانية، وليس رمزا من الدرجة الأولى، وهذا ما يقوله ابن جني حين
يأتي الى تعريف اللغة إذ به يذهب الى ذكر الصوت وليس الى ذكر الحرف في تعريف اللغة.
تستطيع اللغة أن تقوم بواجباتها على أكمل وجه دون أن
تستعين بالكتابة. الكتابة حالة طارئة على اللغة. وإلى الآن فإنّ اللغات غير
المكتوبة هي أكثر بكثير من اللغات المكتوبة، فهناك بحسب تقديرات علماء اللغة ما
يزيد عن خمسة آلاف لغة في العالم، ويعيش أهل اللغات غير المكتوبة دون مشاكل
كلامية. هذا طبعا لا ينفي على الإطلاق أهمية الكتابة، بل انّ ما رسم الحدود بين
التاريخ وما قبل التاريخ هو الكتابة التي كانت منعطفا في مسار الإنسان. ولكن أردت فقط الإشارة إلى أنّ الكتابة شيء،
واللغة شيء آخر. الصوت شيء، والحرف شيء آخر.
وعالم الكتابة يدخلنا في عالم الطرافة، وعالم النزاعات،
وعالم الأيديولوجيّات، وأقصد بعالم الكتابة، هنا، الشكل الذي تعتمده اللغات في
التجسيد المرئيّ لأصواتها، قد تقرّر لغة من اللغات أن تجسّد المعنى وليس الصوت كما
حال الكتابة الفرعونية أو الكتابة الصينيّة التي لم تعتمد على الألفباء في
الكتابة، وكثيراً ما يخطىء المرء في التعبير وهو يسأل عن عدد حروف اللغة الصينية،
ولا يكون سؤاله حول حروف اللغة الصينية وإنما حول كلماتها. الجهل بالشيء يبلبل
التصوّرات. فحروف كلّ لغة من اللغات عدد محدود جدا، كعدد حروف الأبجدية العربية
يزيد أو ينقص قليلاً بخلاف عدد الكلمات الفائق الذي يفيض دائما على دفّتي المعجم.
ولا أظنّ أن هناك معجما يمكنه الادعاء أنه يحتضن كلّ مفردات لغة. وكان اللغويّ
العربي ابن فارس يقول لا يعرف اللغة العربية إلاّ نبيّ، أي لا يمكن لأيّ امرء أن
يعرف اللغة بكل مفردتاتها وأشكال تراكيبها إلاّ إذا كان مزوّدا بمقدرة خارقة هي
النبوّة، وهو اعتراف منه، بشكل من الأشكال، أن الإنسان أعجز من أن يستوعب اللغة
بكل طاقاتها، وما يقوله عن العربية يمكن ان يقوله المرء عن أية لغة أخرى.
داخل كلّ لغة نظامان: نظام مفتوح ، ونظام مغلق، وفي كل
لغة ثنائيات كثيرة. ولا تختلف اللغة في هذه المسألة عن الطبيعة نفسها، فالطبيعة
تكتظّ بالثنائيات: ليل ونهار، أنثى وذكر، كبير صغير، وهكذا..، النظام المفتوح هو
نظام الكلمات، فليس لمفردات لغة حدّ أو عدد تقف عنده، فهي تزيد باستمرار، فدار
التوليد اللغوية دار لا تهدأ! والنظام المغلق في اللغة، هو ما نراه في حروف الجرّ
مثلا، إذ لا يمكن لنا أن نضيف حروف جرّ جديدة لأنّ التطوّر فرض علينا أن نزيد حرف
جرّ جديد، وكذلك الأمر في النظام الألفبائيّ، ويقال أنّ مقتل اللغات هو في اللعب
بأنظمتها المغلقة وليس بأنظمتها المفتوحة، فاقتراض مفردة لا يزعزع أركان اللغة.
كلّ لغة مكتوبة تختار شكلاً ألفبائيا أو صوريا ليكون
صورتها ومرآتها ورمزاً لأصواتها. وهكذا
تصير الكتابة ميدانا لغويا وايديولوجيا.
ومن هنا تدور حول الكتابة صراعات واغراءات تترجم الواقع غير اللغويّ لشعب
من الشعوب. وهنا سأتوقف عند حالة طريفة، وهي ليست حالة خاصة يتبعها شعب واحد،
فاللغة الكرواتية واللغة الصربية هما لغة واحدة، وكانتا تكتبان بشكل واحد في زمن
الوحدة بينهما، ولكن لأسباب غير لغوية بعد الانفصال بينهما وتفتت الاتحاد
اليوغسلافيّ اختارت كل واحدة منهما شكلا لتجسّد فيه أصوات لغتها ، فالكرواتية
اختارت الحرف السيريليّ بينما اختارت الدولة الصربية الحرف اللاتيني، والاختيار لم
يكن عبثيا. وهكذا صار للغة الواحدة شكلان مكتوبان : شكل سيريليّ ( الروسيّ) وشكل
لاتينيّ، وهذا التغيير على مستوى الشكل اللغويّ هو تغيير أيضا على مستوى الانتماء
السياسيّ او المعتقد الدينيّ.
تستخدم الشعوب الكتابة كمجال لتجسيد الخلاف السياسي او
الديني او الايديولوجيّ، وما حصل في صربيا وكرواتيا حديثا هو نفسه ما حصل في
الهند، فاللغة الهندية واللغة الباكستانية هما لغة واحدة في الأساس، ولكن لأسباب
دينية وليس لأسباب لغوية صار لهما شكلان مختلفان، فالكتابة الهندية تعتمد الحرف ذا
الأصول السسنسكريتية، بينما اللغة الباكستانية ( الأرديّة) اعتمدت الحرف العربيّ
لتعلن انتماءها الى عالمها الاسلامي، والدين كان مبرّر انفصالها عن محيطها
الهندوسيّ، باعتبار الحرف العربيّ رمزاً اسلاميا بامتياز وهذا ما أعطى الحرف
العربيّ فرصة ذهبية للانتشار خارج حدوده اللغوية. وعدد من الدول الاسلامية في
الاتحاد السوفياتي بعد انهياره عاش لحظة حيرة كتابية، وبعض هذه الدول فكّر في تبني
الحرف العربي على غرار باكستان أو إيران، ولكن العرب لم يتلقفوا هذه الفرصة التي
تعزّز من حضور حرفهم في العالم. وهو حضور ناصع، فالحرف العربي يحلّ في المرتبة
الثانية، عالميّا، بعد الحرف اللاتيني،
وأنا هنا اتكلّم على الحرف العربيّ لا على اللغة العربية. وحيث يوجد الحرف العربيّ
يكون حكماً حضور اللغة العربية مختلفاً ويكون الباب أمام مفردات اللغة العربية،
أيضا، مفتوحاً للدخول في لغات الآخرين. فمن ينكر أن عدد المفردات العربية قد تقلّص
في اللغة التركية بعد انقلابها على الحرف العربيّ لصالح مفردات الكلمات التي تكتب
بالحرف اللاتيني؟
الحرف بوّابة لغويّة أو مرفأ لاستيراد وتصدير الكلمات.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق