منطق الأشجار
ثمّة سرّ وراء نجاح كتاب ما أو فشله،
والطريف في أمر الكتب أنّ سيرها الذاتية ذات خطّ بيانيّ متعرّج، خطّ فيه الكرّ
والفرّ، والمدّ والجزر، ولا أظنّ أنّ علما واحدا يكفي لدراسة دلالات خطّه البيانيّ.
معرفة أسباب النجاح تتطلّب مشاركة مجموعة
من العلوم: نفسيّة، إجتماعيّة، إقتصاديّة، إعلانيّة، لغويّة، روحيّة، بيئيّة.
والكتاب الذي أتناول بعضا من محتوياته العلمية يعود نجاحه المستطير في قسم منه فيما أظنّ إلى الخوف
على البيئة التي نشوّهها، ونلوّثها، ونفتك بنظامها البديع، وننهش في لحمها، ويعود
أيضاً إلى الوعي البازغ بضرورة إعادة النظر في تعاملنا الذي لا يخلو من عنجهية
نافرة مع الكائنات التي تشاركنا حياتنا على الأرض، وتحدّد أيضاً مصيرنا النهائيّ.
كتاب لم يخطر ببال مؤلّفه نفسه أنّه سيكون له
صدى يتعدّى حدوده اللغويّة والجغرافيّة. فهو يحمل عنواناً جاذباً لكلّ من يهتمّ
بعالم الأسرار وعالم الأشجار: " حياة الأشجار السرية"، مع عنوان فرعيّ
أو متمّم : " ما تحسّ به الأشجار، وكيف تتواصل فيما بينها". لاقى كتاب الألمانيّ
بيتر فولبين Peter Wohllben رواجا عظيما، فبيع منه أكثر من 650 ألف نسخة في
ألمانيا وحدها كما ترجم إلى أكثر من ثلاثين لغة، وصار من الكتب الأكثر مبيعا في
الولايات المتحّدة. صاغه الكاتب وكأنّه حكواتيّ ماهر يروي حياة
الأشجار الاجتماعية في الغابة، معتمداً على أسلوب لغويّ
حيويّ وسلس فيه أنسنة مترفة للطبيعة، فالأشجار كائنات حيّة تعيش كالآدميين، تفكّر
وتخطّط لتأمين مستقبلها ومستقبل أبنائها وتسعى لتأمين لقمة عيشها، من دون أن تمنع
أنسنة الغابة بأشجارها ونباتها وفطرها من قيمة الكتاب العلمية.
المؤلّف يعمل في غابة. نعرف ان الغابات
والمحميات تحتاج إلى من يرعاها ويهتمّ بها. ولم يكن المؤلّف في بداية عمله يعرف،
كما يقول، عن الأشجار إلاّ ما يعرفه الجزّارعن الحياة العاطفية للحيوانات. ولكن
سرعان ما انتابه، مع الوقت، شغف آسر، والشغف سرّ اكتشافات كثيرة، شغف ولّد في نفسه
فضولاً أدّى به إلى وضع مكتشافاته العلميّة في هذا الكتاب حول تفاصيل حياة الأشجار
في الغابة. وما يقوله عن الأشجار كنت قد قرأت نصّا عنه بلسان هندي أحمر جاء
فيه:" هل تعلم أنّ الأشجار تتكلّم؟ نعم، انها تتكلم، تتكلّم فيما بينها،
وتتكلّم معك إن كنت ممّن يتمتّع بحسن الإصغاء. المشكلة هي أنّ الإنسان الأبيض لا
يحسن الإصغاء. لم يسمع صوت اخوانه الهنود، فكيف يسمع صوت الطبيعة؟ تعلمت كثيرا من
الاشجار، فهي تخبرني عن الزمان والحيوان وقوى الكون الخفيّة". هذا النص وجهه
احد زعماء الهنود الحمر واسمه ولكينغ بوفالو إلى الرجل الأبيض الذي انتهك بشجعه
حرمة الطبيعة.
الكتاب وليد عشرة عمر بين المؤلف بيتر
فوليبن وأشجار الغابات. اكتشف أشياء كثيرة، اكتشف أنّ الشجرة ليست أنانيّة،
فأنانيتها تجعلها لقمة سائغة للريح أو للأمطار أو للشمس الحارقة، فالأشجار تدرك
أنّ التعاون فيما بينها شرط لمقاومة مزاج الطقس ونزق المناخ، واكتشف أنّ للشجرة
عواطف تشبه عواطف البشر، فهي تحبّ وتعشق، تفرح وتحزن، وتحتفظ بذكرياتها ، وتتألّم
إن أصابها جرح، وتعرف كيف تضمّد جراحها، أو تصرخ
مستغيثة من وجع ، ولكن موجات صراخها تحت
صوتية ultrasonore يتعذّر على
أذن البشر سماعها، واكتشف أن الشجرات الراشدة تحنو على
الشتلات ذات العظم الطريّ أو الجذوع الطرية، وحين تمرض شجرة ولا تقوى على القيام
بإطعام نفسها وتأمين حاجاتها تقوم زميلاتها بتزويدها بالطعام والشراب إلى أن
تستردّ صحتها أو تقضي نحبها. وقد لا تعيش شجرة طويلا بعد أن تموت صديقتها التي
عاشت معها، على الحلوة والمرّة ، حتى بلغت من العمر عتيا، فتموت حزنا عليها.
يروي الكاتب إحدى الطرق التي تعتمدها
الأشجار للدفاع عن نفسها، فيقول إنّ مجموعة
من العلماء لاحظت في العام ١٩٧٠ سلوكاً طريفاً للزرافات في السهوب الإفريقية. كانت
الزرافات تقضم أوراق شجرة أكاسيا ثمّ تتوقّف عن الأكل وتذهب إلى شجرة أخرى غير تلك
المجاورة لها لتتابع وجبتها الورقية.
تساءل العلماء عن سرّ انتقال الزرافة
من شجرة إلى أخرى رغم وفرة الأوراق في الشجرة التي كانت تأكلها. كشف
هذا التساؤل البسيط عن سرّ سلوك الزرافة، وعن سرّ كانت تخفيه الأشجار. فالشجرة تعتبر ان التهام أوراقها بمثابة
اعتداء شخصيّ ، ومن حقّها الدفاع عن نفسها بما أوتيت من وسائل ، ولا يخلو كائن حيّ
نباتي أو حيواني من وسيلة دفاع عن النفس، وسلاحها الذي تملكه للدفاع عن نفسها هو
سلاح كيماويّ فتّاك بالأفواه! تبين للعلماء ان الشجرة تبدأ بفرز مادة
سمية تنشرها في عروقها وصولا إلى أوراقها فتصير خطرة على الزرافة، وهذا ما يجعلها
تكفّ عن التهام الأوراق ولكنها اي الزرافة لا تذهب الى الشجرة المجاورة للشجرة
الأولى، وانما تذهب مسافة مائة متر تقريبا عن الشجرة الأولى .
هل أوراق الشجرات المجاورة لا تفتح
شهية الزرافات؟ ما الذي يدفع الزرافة الى تجنب الشجرات الواقعات في محيط الشجرة
الأولى؟ يبدو ان الشجرة ليست أنانية، فهي تدافع عن نفسها وتدافع ايضا بحسب
المستطاع عن بنات جنسها إذ تقوم بإبلاغ جارتها بخبر الهجوم عليها لتقوم جارتها
بتبديل تركيبة نسغها وتسميمه. وتتوسل الشجرة الهواء كوسيلة نقل
للمعلومة الشمّية. فالشجرة
تبث رائحة تحملها الريح عن طيب خاطر الى الشجرات الأخريات، والزرافة ليست غبية،
ولا تسمح للشجرة أن تتذاكى عليها أو تضحك على شفتيها فتمشي أحيانا عكس مجرى الريح
وتتابع الطعام مطمئنة لأنّها تعرف ان الريح لن يكون بمقدورها حمل الخبر المشموم أو
الرسالة الشمية التي تحسن الأشجار فكّ شيفرتها.
وفي الكتاب فصل طريف عن الفطر الذي يؤدّي، كما
يقول المؤلف، دور الشبكة العنكبوتية التي
تربط بين جذور الأشجار لتعزيز التواصل، وإرسال الرسائل الكيميائية وأجوبتها بين
الأشجار، فالفطر ذو طبيعة مغايرة للنبات وللحيوان على السواء، فمادّة الكيتين chitine
تشكّل الهيكل الصلب الذي يغطي أجسام الحشرات والعديد من مفصليات الأرجل
وبعض الحيوانات، ولكنّها أيضاً تشكّل المركّب الأساسيّ لخلية الفطريات، أي أنّ
الفطر هو الوحيد في مملكة النبات الذي يحتوي على مركّبات حيوانيّة، ويروي المؤلّف
أشكال التحالفات بين الفطر والشجر، والتعاون المثمر بين الطرفين، فالفطر همزة
وصل لنقل الأخبار بين الأشجار عبر شبكة
عنكبوتيّة عملاقة تلعب فيه الجذور دور الألياف الضوئية.
يطوي القارىء صفحات الكتاب الأخيرة، ولسان حاله يقول: من الغباء اتّهام
الشجر بالغباء!
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق