الإنسان لا يمكنه أن يعيش، فيما يبدو، بعيداً
عن عالم الأساطير. الأسطورة متعة الجهلاء والعقلاء على السواء. وحين يعترض على
قولي " عقلانيٌّ" متمرّسٌ أحيله إلى كتب كثيرة، ليس منها كتب الأساطير
القديمة، ككتاب "كليلة ودمنة" مثلاً أو "ألف ليلة وليلة"، أو "عجائب
المخلوقات وغرائب الموجودات" للقزوينيّ وإنّما أحيله إلى أساطير شديدة
الحداثة، فأفلام هاري بوتر بنت الحضارة الحديثة، وأفلام الرجل العنكبوت ليست من
مخترعات العصور السحيقة. شبابيك التذاكر أفواه لا تكذب، فالأساطير التي ينتجها
الخيال الهوليوديّ تمسّ ناحية إنسانيّة لا يزال العلم يقف مكتوف الأيدي أمامها.
هناك أساطير لا تزال متشبّثة بأسطوريتها، ولكن
هناك أساطير كشف العلم المحض عن واقعيتها وحقيقيتها وانتزعها من عالم الأساطير بعد
أن أثبت إنّها كانت كالحدوس السابقة لأوانها.
الانسان لا يكف عن انتاج الأساطير، وكثيرا ما
كنت أتساءل ما السبب الذي دفع الكاتب الفرنسي اللامع رولان بارت الى وضع كتاب
اختار له عنوان " أساطير" وهو يتناول أموراً أبعد ما تكون من حيث الظاهر
عن الأساطير، كالملاكمة، والدمية، والحليب، والنبيذ، والبفتيك، والبطاطا المقلية،
والدعاية، والصورة. أشياء من حياة الناس اليومية ولكن تعامل معها باعتبارها أساطير،
وقد تنظر العين العجول إلى هذه العناوين "البارتيّة" نظرة ساخرة، هل
لإيمان بارت بأنّ الإنسان بلا أساطير يفقد
" أغذيته الماديّة" نكهتها
الروحيّة والماورائيّة؟
فاتحة كلامي على الأسطورة أسبابه نباتيّة
محض. في الإعلام كانوا يدرسون جملة بسيطة لإظهار الفارق بين الخبر العادي والخبر
غير العادي. فجملة " عضّ الكلب رجلا" جملة عادية، ليست غريبة عن أشداق
الكلاب ومسامع الناس، ولكن جملة " عضّ الرجل كلبا" ليست عادية، وهي فضلاً
عن ذلك تنسف سؤالاً كان قد قاله احد الشعراء القدامى في معرض الهجاء:
يَشْتُمُنِي عَبْدُ بَنِي مِسْمَعِ فَصُنْتُ
عنهُ النّفْسَ وَالْعِـرْضَا
وَلَمْ أجِبْهُ لاحْتِقَارِي لَهُ وَمنْ ذَا يَعَضُّ الْكَلْبَ إنْ عضَّا
فالضرورات ، في أي حال ، تبيح المحظورات
وتبيح أيضا العضّ. هناك تعابير تعبر
الآذان دون أن تثير الاستغراب، فلن يستغرب أحد عبارة "بقرة تأكل العشب"،
ولكنّه قد يستغرب عبارة " نبتة تلتهم ضفدعة"، أو " زهرة تفترس فأرة"، وقد يظنّ انها عبارة سوريالية، أو من كتاب
خياليّ، أو من فيلم خيالي، ولا يزال عالقاً من أيام الطفولة في ذاكرتي مشهد
سينمائيّ عن نبتة متوحّشة عملاقة تلتهم الرجال كما تفعل الحيّة العملاقة التي لا
تغصّ بغزال أو تمساح!
كان دارون من أوائل من تحدّث عن ظاهرة غريبة
في عالم النبات، وهي متعة بعض النباتات في التهام اللحم، وكتب عنها بحثا بعنوان " النباتات آكلة
الحشرات" واعتبرها من عجائب الدنيا. وأطلق عن هذا النوع اسم النبات اللاحم.
ووقع بين يدي، ذات يوم ،كتاب بالفرنسيّة عن هذا النبات المفترس، ورحت أقرأه كما لو
أنّه رواية بوليسيّة، ولم أكن أعرف شيئا عن هذا الموضوع، ظننت بداية أنّ العنوان
مجرّد لعبة لإيقاع القارىء في شراك الشراء، ولكن سرعان ما بدا لي أنّ الأمر حقيقة.
فالنبتة صيّاد، صيّاد ماهر، وله ألاعيب وأساليب في الصيد تفوق أحياناً ألاعيب صيّاد
محترف.
والفريسة التي تسيل لعاب النبتة تنتمي الى
عالم النمل، الذباب، والبعوض، والعناكب، والفراشات، والعصافير الصغيرة، والضفادع
وصولا إلى الفئران. ويعتبر البعض ان فيلم "
Little Shop of Horrors"
الذي أخرجه في العام 1986 فرانك أوز هو من وحي نبتة تمّ اكتشافها في بريطانيا لقطت
وهي تلتهم فأراً. تعتمد هذه النباتات على حيل متعددة لخداع فريستها، والحرب خدعة،
وخداع حواسّ الحيوانات إحدى المكائد التي تعتمدها النباتات لإغواء الطرائد
بالمجيء، الشهوة شبكة صيد، والنباتات تعتمد على إثارة شهوة الحيوانات الجنسية،
ولهذه الحيوانات قدرة على تبديل روائحها كما تبدّل الحية جلدها، وكما تبدّل
الحرباء لونها، بعض هذه النبابات لها شكل الأكواب أو الأقماع كالزنابق. تملأ هذه
النباتات جسمها المفتوح بسائل تفوح منه رائحة ذكر حيوان ما أو انثى حيوان ما،.وتكون
هذه الرائحة الأخّاذة والنفّاذة أشبه بنداء شبقيّ أحمر يجذب الحشرة المطلوبة أو
الضفدعة المرغوبة التي أسكرتها الشهوة أو الرغبة فتقفز الى النبتة ولكن لا يكون
بانتظارها الا ذلك السائل الذي يقوم بدور الانزيمات الهاضمة فتلفظ الضفدعة أنفاسها
في هذا السائل الشره، ثمّ تقوم النبتة بعصر الفريسة لتأخذ خواصّها ثمّ تمتصّ الماء
الدسم كما الحساء، ومن ثمّ تعيد فرز سائل يدفع ببقايا الجثمان خارج النبتة، وقد
تقوم النبتة باستراتيجية أخرى هي إبهار الحشرات بالألوان. ويبدو أن بعض الحشرات
تفتنها الألوان، فتقوم هذه النبابات بعرض عضلاتها اللونية كما تفعل بعض ذكور
الطيور حين تعرض ريشها الملوّن لجذب الإناث، أما النباتات فليس همّها جذب الإناث
وإنما جذب الفريسة لتحويلها إلى طبق شهيّ، ويكون بدنها أشبه بالصمغ، فما إن يلمس
طرف من أطراف الحشرة بدن النبتة حتّى يلصق جسد الحشرة الغضّ ومن ثمّ تطبق النبتة
فكّيها وأشواكها التي تنشب كالأنياب في أجساد الحشرات وتضغط على جسد الضحية لتشرب ما
يقيم أودها.
الحاجة أمّ الاختراع، والجوع كافر، ولكنه، في
الوقت نفسه، ذو خيال واسع يسمح له باختراع مآكل جديدة. كنت قد قرأت، ذات يوم، في
كتاب يدرس انتروبولوجيا الطعام، واستوقفني فصل طريف عن المآكل التي اخترعها الجوع. الجوع " شيف" من طراز رفيع، ألا يقال " الجوع أمهر
الطباخين؟". الجوع مكتشف مذاقات
جديدة كما الصيام . هل يمكن نكران دور الصيام المسيحيّ في إنجاب مآكل نباتية مثلا،
أو إنكار دور الديانة الهندوسية في توليد مذاقات نباتيّة هي بنت الموقف من اللحوم.
وثمّة نباتات تعيش في تربة فقيرة بالنيتروجين والأملاح المعدنيّة ممّا يعني أنّها
ستبتكر وسائل جديدة أو مآكل جديدة تبعد بها عن أغصانها شبح الجوع ، وهذا ما دفعها إلى
الاستعانة بأجساد الحشرات الدسمة لتأمين حاجتها من البروتيّنيّات.
ولا تخلو حياة هذه النباتات من صراعات ودسائس
أيضاً في ما بينها، فحين يكثر عددها تتقلّص حصّة النبتة من المواد الغذائية فتقوم
برسم خطط ونصب مكائد لإزاحة خصومها من
طريقها عبر تسميمها.
أدّى اكتشاف هذه النباتات إلى تكليفها بوظيفة
منزليّة جديدة، أو قل إلى تعاون مشترك بينها وبين الإنسان، إذ باتت في أمكنة كثيرة
تستخدم كنباتات منزلية يتمّ الاعتناء بها لاصطياد البعوض والذباب بدلا من المبيدات
الكيماويّة.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق