أسباب الطلاق كثيرة قد تكون بعدد أسباب الموت، هناك أسباب تدخل في الرأس، ولكن بعضها يفوق الخيال، ويلامس الخبال. قد يكون ما يرد في هذا المقال من قبيل الرسم الكاريكاتوري، إلاّ أنّه رسم مأخوذ حبره من مداد هذا العالم العربي، ومأخوذة ملامح وجهه من صور كثيرة تنبت من أطراف شفاه عربية.
معروف على مستوى العالم أنّ إنساناً لا يحترم لغته لا يمكن أن يُحترم، وأمة لا تتعامل مع لغتها بودّ لا تستحق الحياة، ولكن، في الوقت نفسه، ثمة أمم كثيرة في لحظات من تاريخها تعيش فترة فقدان التوازن وضياع البوصلة، والأمة العربية بقضها وقضيضها تمرّ بمرحلة فقدان التوازن، على الأقل التوازن اللغوي. يكفي أن ترى الأفواه الملوثة التي لا تحسن نطق الحروف حتى بالعامية اللبنانية فما بالك بالفصحى! تفخّم المرقّق وترقّق المفخّم، أفواه لا ترى الحدود التي تفصل بين التاء والطاء، وبين الدال والضاد، ولا تعرف أين تنتهي حدود القاف وأين تبدأ حدود الكاف. أفواه كثيرة لا تعرف حرمة اللهجات! تسمع "بدّي روح جيب ابني من الإيكول Ecole"، "اشتريت بلانت Plante"، "ما بقرا إلا فرانسيه Français". والعبارات من هذا القبيل تفوق الحصر.
إنّ من يعود إلى عصر النهضة يرى أنّ الاهتمام الأول انصبّ على اللغة، لأنه يستحيل أن تنهض أمة باستعارة ألسنة غيرها، أو تحلّق في أجواء التطور والتحضر بأجنحة غيرها.ادرك رجالات النهضة ذلك، وحاولوا أن ينهضوا. فشلت النهضة، في العمق، وما الواقع العربي اليوم إلاّ صورة من صور إخفاقات النهضة، لأننا لم نعرف كيف نتعامل مع لغتنا. ولكن الفشل لا يعني اليأس.الدنيا دولاب لا يكف عن الدوران.واليأس عاجز عن إيقاف دولاب الدنيا.
هل هناك أمة تحترم نفسها وتنتمي إلى العالم المتحضر لا تحترم لغتها ولا تعمل على نشرها وتثبيت أقدامها في الأرض؟ هل أميركا التي يراها البعض رمزاً للتحضر لا تحترم لغتها؟ هل تدير فرنسا ظهرها للغتها ولفرنكوفونيتها؟ لا ينتقص من لغته إلا ناقص، وعقد النقص عندنا كثيرة، ويصل البعض من بني جلدتنا إلى الافتخار بعدم معرفته العربية. هل يعرف نفسه من لا يعرف لغته؟
سأحكي حكاية لغوية، دارت أحداثها في مصر، مقرّ الأزهر، وجامعة الدول العربية، ومجمع اللغة العربية. والحكاية تناولتها الصحف المصرية في شهر تشرين الأول من العام الماضي.
امرأة لا تريد أن تعيش مع زوجها، حياتها الزوجية لم تعد تطاق، ليس لأنّ زوجها خانها، أو ضربت عينه على غيرها، أو لأنّه يضربها ويعذبها، أو لأنه خارج من صفحات "بخلاء" الجاحظ، سيد النثر العربي، ولا لأنه عاقر سوف يحرمها من متعة الأمومة، ولا لأنّه سكّير أو مدمن على الميسر. كلّ هذه الأسباب ليست وجيهة في رأيها للطلاق، والزوجة لا تنكر أنّ زوجها رجل لطيف المعشر وكريم المحتد واليد.
الزوجة خريجة الجامعة الاميركية، وهي تحبّ اللغة الإنجليزية، حبّ اللغات ليس عيباً! بل هو مشروع وضروريّ. علينا أن نحبّ لغات الآخرين ونتعمّق أسرارها، لأنّ في ذلك غنى معرفياً ممتعاً. وليس هناك من لغة في العالم لا تحمل مخزونا كبيراً من الشعر والمجازات والاستعارات والإبداعات اللطيفة. إنّ الله لم يحرم لغة من نعمة الجمال، ومن لا يرى في لغات الآخرين مسحة من جمال عليه أنّ يشكّ في أذنيه وليس في اللغات. إنّ الزوجة خرّيجة الجامعة الأميركية، كان من الممكن جدّاً أن تكون متخرجة من الجامعة الأميركية وأن تكون طبيعية. وبالمناسبة، في حفلة تخرج طلاب الجامعة الأميركية في بيروت، قام جون واتربوري رئيس الجامعة بعملية توازن دالّة يشكر عليها وهو أنّه ألقى خطابه بالعربية والإنجليزية على السواء! الغريب أن يحترم رئيس الجامعة الاميركية لغة لبنان ولا تحترمها ممثلّة خرّيجي الجامعة الأميركية.
إنّ الزوجة طلبت الطلاق فقط لسبب واحد أحد هو أنّ زوجها العربيّ يرفض أن يحكي معها، وهي العربية أباً عن جد،ّ بالإنجليزية. كانت تثور وتغضب لأنّه يتكلم معها أمام زميلاتها بالعربية، فكانت تتقلص وتنكمش وتشعر بعار لا يطاق أمام أعين زميلاتها، وخصوصاً أنها اشترطت عليه قبل الزواج أن تكون علاقتهما اللغوية إنجليزية. طيش الهوى سحب من فم الرجل الموافقة، ولكنه لم يستطع أن يلتزم بالشرط، خانه لسانه، عاد إلى طبيعته اللغوية العربية. قالت الزوجة:"تحاملت على نفسي شهرين كاملين وكلماته العربية تفتك بصدري و تمزّق قلبي، إلا أنني سئمت الحياة معه بسبب إصراره على الحديث باللغة العربية". الطريف في الأمر أن الزوجة خريجة كلية الترجمة، أي انه يفترض بها أن تعرف ما معنى اللغات وما دور اللغة الأم في التوازن النفسي.
حكمت المحكمة بالخلع، ربحت المثقفة العربية خريجة الجامعة الاميركية في القاهرة لسانها الإنجليزي وخسرت زوجها بعد شهرين فقط من الزواج. شعرت أنها كانت في جحيم لغوي عربي لا يطاق، أين منه جحيم الخيانة الزوجية، أو جحيم التعايش مع ضرة تحت سقف واحد؟
حالة فردية بالتأكيد، حالة نادرة، شاذّة، ولكنها حالة لا أظنّ أنها تحصل إلاّ في عالم مهزوم، يشكو ضعفاً شديداً في النظر لأنّه يرى سحنته السمراء، في المرآة، شقراء بلون بشرة كلوديا شيفر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق