السبت، 28 يوليو 2018

العرب وعصر المعلومات



ليست القوة اليوم في العالم لمن يملك أكثر، وإنما لمن يعرف أكثر. ومن الأمور اللافتة للنظر ان أثرى أثرياء العالم اليوم هم من أولئك الذين يعملون في ميدان البرمجيات وعلى رأسهم بيل غيتس رئيس شركة ميكروسوفت. وهذه القوة يفتقدها العالم العربي بل بيننا وبينها فجوات كثيرة لا بدّ من ردمها للقبض على "قوّة العصر"و"روح العصر". هذا ما يصرح به كتاب "الفجوة الرقمية، رؤية عربية لمجتمع المعرفة" الصادر عن سلسلة "عالم المعرفة" في الكويت، للدكتور نبيل علي والدكتورة ناديا حجازي.
الكتاب شامل وعميق وغني بالمعلومات والإحصاءات والرسومات البيانية التي تظهر مدى الوهن في الجسد العربي. يرى البعض ان انتقاد الذات هو بمثابة جلد لها في حين يرى الكاتبان ان عدم نقد الذات هو أشبه بدفن الرؤوس في الرمال، وابقاء الحال على ما هو عليه. والمعركة الأهم اليوم التي يجب ان يخوضها العرب هي المعركة الرقمية، فثمة تعاون بين الموساد ووكالة الاستخبارات الأمريكية لتفخيخ معدات تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات ببرامج التلصص الالكتروني التي يتم تصديرها للمنطقة العربية، مما يعني ضرورة التخلص من التبعية الرقمية. ويشير الكاتبان إلى تخلّفنا الرقمي الشديد بالنسبة لإسرائيل التي تأتي بالمرتبة الأولى في العالم من حيث نسبة حجم الإنفاق على البحوث العلمية وتطوير التقنيات الرقمية، وفي المرتبة الثانية في عدد المهندسين بالنسبة إلى عدد السكان بعد ألمانيا والمرتبة الأولى في تطوير نظم حماية امن البيانات وتحصين مواقع الانترنت ضد الاختراق، وفيما يخص النشر العلمي فان إسرائيل تنشر ما يعادل 12 بحثا لكلّ عشرة آلاف شخص بينما يبلغ هذا المعدل ثلث بحث لا أكثر لكل عشرة آلاف شخص في العالم العربي. وعلى صعيد الترجمة، وهي من الأسلحة الضرورية لردم الفجوات المعرفية والرقمية، فان عدد الكتب المترجمة لكل مليون شخص يبلغ 100 كتاب في إسرائيل بينما ينحدر هذا الرقم إلى ثلاثة كتب مترجمة لكل مليون شخص في العالم العربي. كما ان إسرائيل اليوم من أوائل الدول في استغلال الانترنت معرفيا واقتصاديا وإعلاميا.
وبالنسبة لهجرة العقول العربية أو نزيف الأذهان العربية، يشير المؤلفان إلى الفارق الجوهريّ بين إسرائيل والعرب من حيثُ استثمار رأس المال البشريّ المدرّب الخلاّق القادر على توليد المعرفة، وعدم تركه لمغريات الهجرة. ورغم ان إسرائيل تعاني اليوم من تخمة العناصر البشرية ذات المهارات العالية إلا أنها لا تفرط فيهم على شاكلة الدول العربية، بل تحتفظ بهم كرصيد استراتيجي عملا بقول حاييم وايزمان:"ان العلم هو سلاحنا، ومصدر قوتنا ودرعنا " بانتظار ان تنجح في اختراق مؤسسات البحوث والتطوير العربية، بينما بعض الدول العربية تغري على هجرة الرؤوس لتمويل الخزينة بالعملة الصعبة متجاهلة ما يستتبع ذلك من "فقر دم" فكريّ.
كما انها أدخلت تعليم الكمبيوتر على كلّ مراحل التعليم الرسميّ من الحضانة انتهاء بالجامعة، وإدخال مفهوم التعليم المستمر، على امتداد مراحل العمر من خلال التعلّم عن بعد والبثّ الإذاعيّ والتلفزيونيّ.كما ان إسرائيل التفتت إلى المعلّم وشجعته على مواصلة التعليم وفتحتْ أمامه الطريق ويسرت له السبل للحصول على أعلى الدرجات العلمية حتى درجة الدكتوراه،بخلاف ما نرى في بلادنا من تقليص العلم إلى شهادة ضامرة تطلب لغايات وظيفية أكثر مما تطلب لغايات علمية، مع ما ينتجه ذلك من ضرر فادح من خلال ما يسمى بالأمية الوظيفية.
ويشير الكاتبان إلى تجارب بعض الدول النامية التي لم تكن إلى زمن قريب أفضل حالا منا إلا أنها صنعت المعجزات في فترة زمنية قصيرة كالهند ويذكر الكاتبان مشروعها الطريف والذكي وهو ما يسمى ب "ثقب في الجدار" الذي يقوم على نشر مجموعة من الكمبيوترات في القرى النائية تثبت في الجدران وتزود بعصا تحكم شبيهة بتلك المستخدمة في برامج الألعاب لكسر الرهاب من الكمبيوتر لدى البسطاء والأطفال والتعلّم بالاكتشاف من خلال التجربة والخطأ وفي غضون ساعات قليلة كان أطفال القرى المتحمسون يتصفحون الانترنت، ويبحرون في فضاء العصر.
ويستعرض الكاتبان تجربة ماليزيا التي انتقلت من تصدير المطاط إلى تصدير منتجات التكنولوجيا المتقدمة، من خلال اتباع سياسة حكيمة ومبتدعة حيث اعتمدت على المحلي والعولمي بشكل متكامل، وربطت بين الحضري والريفي، وبيت الاقتصادي والثقافي، مع إعطاء عناية فائقة للعنصر البشري من خلال التعليم والتدريب، في حين ان الفجوة التعليمية التي يعاني منها العالم العربي بسبب سياسة التلقين والتدجين المعرفي واستراتيجية التعليم القائم على التسلسل الخطي بدلا من ان يكون شبكة مفتوحة من مسارات التعلم وتداخلها، بعد ان ظهر مجددا التخصص البينيّ الذي هو على نقيض التخصص الضيق والبربريّ كما يسميه المؤلفان. والكاتبان يريان ان بناء جدار عازل بين العلوم الإنسانية والعلوم المحضة ما هو إلا من قبيل بناء جدار بين شقي الدماغ البشري في حين أننا نحتاج إلى علماء جدد في العلوم الإنسانية ذوي ميول علمية والى علماء ومهندسين وبيولوجيين ذوي صلة بالعلوم الإنسانية، بعد ان أضحى الفصل بين الاثنين مضرّا بالطرفين معا.
ويتوقف أيضا عند المعلم الذي لا بد من ان يغير استراتيجية التعامل مع الطلاب من خلال حثه على التعلم الذاتي المستدام، لا ان ينغلق في كتب التعليم، يقول بصوت عال ما يقوله الكتاب بصوت خفيض، وبإكساب مهنته طابعا بحثيا، وان لا نعطيه منهجا سابق التجهيز ومنهجيات صارمة لا تسمح بالتفلت منها.فالمدرسة بعقليتها الراهنة هي بنت العصر الصناعيّ،ولا بد من تغيير استراتيجياتها لتلائم العصر الرقمي حيث المعلومة متحركة ومتجددة باستمرار. ويتوقف الكاتبان عند استثمار التعلّم العرضي وهو غير متوفر بشكل سليم في بلادنا كالمتاحف والمكتبات والمعارض. ومن مساوىء التعليم عندنا عدم التنسيق والتكامل بين أدوات المعرفة في المجتمع كالأداة الإعلامية والثقافية، وعدم الاهتمام بتعريب التعليم، والاهتمام بمحو الأمية الأبجدية دون الالتفات إلى محو الأمية الوظيفية مع ما يسببه ذلك من خسائر مادية لا يستهان بها.
كما ان الكتاب يتناول فجوة العقل الرازح تحت تبعية مزدوجة: تبعية للماضي أو للغربيّ. فالعقل العربي اليوم إما انه صنيعة السلف وإما انه صنيعة الغربي. فالعقل العربي أوكل مشاريع تنميته إلى مقاولي الخارج، كما أوكل تعريب نظم معلوماته إلى الشركات المتعددة الجنسيات مما يعنى ازدياد الفجوة الرقمية اتساعا، واعتمد إلى خبراء أجانب لإيجاد حلول له مع جهلهم للواقع العربي الثقافي والانتروبولوجي مما يجعل اقتراحاتهم غير قابلة للتحقق، كما انفصلت نخبه عن عامته تاركة إياها لقمة سائغة للقوى الرمزية الضارية، وللإيمان بحلول خرافية، أو للاستكانة والرضوخ للفكر الغيبي، وتظهر العمليات الإحصائية لقياس فجوة العقل ان العربي دون المعدل الوسطي العالمي. ويعتبر المؤلفان ان اغلب الفجوات التي يعانيها الإنسان العربي نتيجة واقع لغوي أيضا، والإنسان هو الذي يقرر تحويل لغته إلى حصن أو إلى سجن. ويبدو ان العالم العربي لم يستطع إلى اليوم تحويل لغته إلى حصن علمي. وان كان التعليم هو المنطلق لرأب الفجوة الرقمية، فلا بدّ من أن يكون التعليم باللغة الأم بخلاف ما عليه الحال في أغلب الدول العربية حيث الجفوة بين العربيّ ولغته تعمق من الفجوة العلمية. ويعتبر المؤلفان ان التعليم باللغات الأجنبية للمواد العلمية لا ينم عن ذكاء بقدر ما ينم عن جهل بأهمية اللغة الأم. والمجتمع العربي بنخبه التربوية والفكرية والسياسية منقسم على نفسه حول هذه القضية انقساما ندفع ثمنه علميّا. فالبعض يرى ان العربية قاصرة عن تعريب المواد العلمية (وكأنّ العجز في اللغة وليس في مستعمل اللغة)، أو ان تعريب التعليم سوف يفصل بين العربي ومراكز التطور العلمي، إلا ان ما ورد في تقرير التنمية الإنسانية لعام 2004 يظهر بالأرقام ان الإنتاج العلمي ممثلا بعدد براءات الاختراع لكل مليون فرد يزيد في الدول التي تعلم بلغاتها القومية عن تلك التي تعلم باللغات الأجنبية، ويؤكد الكاتبان ذلك بالإشارة إلى تقارير عن تفوق الأطباء السوريين في امتحانات التأهل في الجامعات الأوروبية والأمريكية على أقرانهم العرب ممن تلقوا الطب باللغات الأجنبية. قد يفترض القارىء ان الكاتبين يخففان من دور اللغة الأجنبية وهما يتكلمان عن التعريب الا أنهما يردفان كلامهما عن فجوة الترجمة بل يقترح الكاتبان بأن تقوم الجامعات العربية بتكليف طلاب الدراسات العليا، ترجمة كتاب إلى العربية كلّ في مجال تخصّصه، ويرى المؤلفان ان توطين المعرفة في العالم العربي لا يمكن تحققه إلا بالاهتمام الكثيف بالترجمة, وهي لا تزال ضامرة إلى اليوم، حيث ان ما يترجمه العالم العربي من كتب قد لا يزيد على خمس ما تترجمه دولة أوروبية صغيرة مثل اليونان التي يقلّ عدد سكانها عن 5% من سكان الوطن العربي.
قد يظنّ القارىء ان الكاتبين متشائمان بسبب تسليط الأضواء على الخلل المعرفي العارم، إلا انه سرعان ما يلحظ ان أغلب العلاجات التي يقترحانها هي اقتراحات ليست عصية ولكنها تحتاج إلى إرادة واعية كفيلة بتغيير ملامح الوجه الباهت للراهن العربي، إذا كنا لا نريد ان نبقى مجرد رقم مبهم وغفل في هذا الزمن الرقميّ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق