السبت، 28 يوليو 2018

حارسُ المقبرة قصة للكاتب الصيني: لي جيان وو ترجمتها عن الصينية: يارا المصري




كان حارسُ المقبرة هذا مثل زهرةٍ صفراء أعلى القبر توغلت في حياتي بدون جهد، ونشرت عطرَها المثيرَ الفواح، وسلبت روحي المدينية. وفي هذا الربيع المزهر، كان هذا الشيخ القروي الأحمق وكأنه أذابَ نهراً جليدياً، مُبدداً كآبتي بخفة وسرعة، وبغموضٍ أيضاً. كان غريباً عني تماماً، لكن الأمر بدا وكأننا عملنا معاً منذ سنوات ولنا إيقاعٌ واحد.

 لم أقترب منه بل تفحصته بنظري وكأنني أتأملُ شجرةَ سرو، تأملتُ رفيقَ المقابر الذي يشبه شجرة السرو في تمايل عوده المستقيم، وكأنَّه لا يرى بعينيه، بل ينصتُ بقلبه، ينصتُ إليَّ أنا الذي أشبه عصفورَ صباحٍ هائم، يترك أنشودةً صامتةً في غابات الصنوبر والسرو. وهو، شجرة السرو العتيقة، قال بلا مبالاة وفتور، كما لو كان يستقبلُ زيارة العصفور كل صباح، وبحرارة ذلك، وكأنه يحيِّي سمساراً يرتاد القرية دوماً:
ــ صباح الخير!
 بدت تحيته وكأنها أطولُ فاصلةٍ في جُملةٍ في حياته، انسابت بلطفٍ من بين شفتيه. لم يكن في حاجة لأن أجيبه، ولم أجبه كذلك، بل أومأتُ إليه برأسي وتركته إلى حيث يقبع قبرٌ صغيرٌ لا تزال تربته مائلةً إلى الصُّفرِة، ثم انحنيت تجاه القبر متأملاً شاهده القصير، فقال لي الحارس هامساً:

ــ لقد نمت الحشائش ولم يُدفن إلَّا العام الماضي فحسب!
صبيٌّ عمره أربعة عشر عاماً، لم يُحفر على شاهدِ القبر غيرُ اسمه. مات في نضارةِ صباه ولم يتذوق طعمَ الحياة، لأنه ما أن بدأ يختبرها حتى وافته المنية، تاركاً خلفه بضع كلماتٍ ـــ بضعَ كلماتٍ مُعمَّمةٍ بعاطفةٍ إنسانية لا حدود لها، وحزن والديه، ودموع إخوته، إشارةٌ لتخميناتنا. ثم ما الأقل صلابة من شاهد القبر؟ ما الأقل خلوداً من الكلمات؟ ما الذكرى الأقل قسوة من الولع؟ “نمت حشائش!” هذه أخبارُ الحياةِ الوحيدة. وبعد أن تمر العديد من السنوات، سيتآكل شاهدُ القبر، وستفنى الكلمات، ويتبدد الولع، إلَّا العشب الأخضر لن يتوقف عن النمو، سينمو سنةً تلو الأخرى، إلى أن يحجب تآكلَ الشاهد، ويحلُّ محلَّ قوةِ الإنسان كلها.

لقد أطاح ذلك بقبعاتنا المختالة ذات الشُّرَّابةِ الحمراء، وكشفت عن كون الحياة شيئاً ما أجرد. وربما يُضيِّع المرءُ سنواته عبثاً في صخب الحياة، لكن حين تأتي ساعةُ الموت، يلومُ السماءَ والناسَ ويصبح كثيرَ التذمر، قائلاً إنَّه لم يحقق شيئاً في حياته، ومن ثم يسكب دموعاً مُرَّة. ثم ما أن يلفظ أنفاسَه الأخيرة ــــ ولذلك يُدفن هنا، يكون تلك المَرَّة وحيداً حقاً، ولكن قبل أن يمر عامٌ على موته، تغطى قبره الحشائش، وكأنها تخبرنا بدلاً عنه، أنَّ له أهميةً الآن. والطبيعة قادرة على فعل أي شيء، أي إنها قادرة أن تحول قبحها إلى لطفها، وتشكل وقاراً ذا منزلةٍ سامية. وفي سكينة لا يمكن وصفها، أحسستُ بسلام الطبيعة، وهدأت روحي وكأنني خرجت من حفلٍ موسيقي مهيب.
ثم هل ثمة ما يبعث على السكينة أكثر من هذا كله؟ هل ربما حارس المقبرة الغامض ذاك؟ الذي يحرس مقابر غيره وهو على وشك أن يتحول إلى كومة من تراب، وسيموت بهدوء كما عاش حياته. ولعله عديم فائدة، مثل شجر الصنوبر، وشواهد القبور، والعشب الأخضر، وضوء الشمس، تلك الأشياء التي تزين المقبرة الكئيبة. ربما عمل طوال حياته مثل الجاموس في الحقل إلى أن شاخ، ولم يتذكره أحد وكأنه صديق قديم مات منذ سنوات عديدة حقرناه ووضعناه في خانة الأموات. أما هو فقد تقبَّل حظَّه العاثر، ورضي بقدره، لأنه كان في البدء مثل الحيوان، أو، لا، مثل النباتات، تعيش فجأة، وتموت فجأة. ثم هل هناك مَن هو أقرب من الطبيعة منه؟ أليس هو الطبيعة بذاتها؟
هو ليس بحاجة إلى الحكمة، ولا إلى النتاج الثانوي التي تخلفه الحكمة ـــ الوجاهة الزائفة. وهو كمثل المخلوقات الأخرى، له القدرة على الاعتناء بنفسه، لكن القدرة والزمن يتلاشيان في الوقت ذاته، أو كمثل المخلوقات الأخرى أو الأمواج، تتبدد تدريجياً في تيار الطبيعة، تبدد في تيار الطبيعة الهادئ العظيم! هو ليس موجوداً، فالطبيعة تمثل وجوده. وإن عاش، فهو يمثل أعجوبة الطبيعة، وإن مات، فهو يُكمِلُ جمالها. وهو يقوم بمهامه مثل حركة الشمس والقمر والنجوم في مدارها، مثل تعاقب الليل والنهار، بدون أن يترك أي أثرٍ في العالم.
لهذا تقدمتُ نحوه وجلست على المذبح إلى جانبه، وشرعت أتفحص وجهه الأسمر وكأنني أتفحص كائناً غريباً. لم يكن ثمة شيء ما مثير في ملامحه، كان مثل غيره من كبار السن الكادحين في الريف؛ وجهه مسكون بالتجاعيد العميقة، له عينان حزينتان ذات نظرةٍ لا مبالية، ووجه نحيل ذو ملامح حادة. ماذا يمكنني أن أستشف من هذه الملامح الفجة؟ هل يخبئ حزن رجل وحيد مثلي أنا القادم من المدينة؟ نبهتني حركته أنه أكثر من تجسيد للطبيعة، أنَّ له خبرةً روحية، وأنني وهو نملكُ درجةَ تَقَبُّلِ الفرح والألم ذاتها، لهذا لم أتمالك نفسي وسألته:
ـ أين تعيش؟
نظرت إلى جهة الغرب حيث أشارت يده، إلى قطعة أرض قريبة من المقبرة، بها كوخ من القش مربع بعض الشيء، وثمة سور منخفض من أعواد الذرة الرفيعة والذرة يحيط به.
ــ هل تعيش بمفردك؟
تردد برهة، من ثم حكّ رأسه وأشار إلى رسمة بقرة وغمغم قائلاً:” أعيش معهما.”
كان ثمة بقرة صفراء عجفاء تسحب جرافة عريضة وتُقلِّب تربة الشتاء المتجمدة، وصبيٌّ عمره ثلاثة أو أربعة عشر عاماً يتبعها.
ــ أليس هذا ابنك؟
ــ ليس لدي أبناء.
ومن نبرته الجافة أدركت أنني كنتُ متطفلاً، وجرحت إحساسه الذي جاهد في كتمانه قدر ما استطاع، لذا لزمنا الصمت، وكأن كلَّاً منا يضمرُ عداوةً للآخر، متربصاً بالفرصة ليظهر انتصاره على الآخر. وشيئاً فشيئاً شعرت بالتعاطف يغمرني ، ولم أشأ أن أُظهره، بل التفتُ وتأملتُ الكوخ قبالتي المُعرض للتهدم في أي وقت.
يا له من انسجام! حيث كل شيء خلاب ونابض بالحياة. لكن حزن المرء لا يمتدُ إلى إشقاء نفسه فحسب، بل يمتزج حزنه بالطبيعة ويخلق  حزناً باهتاً مُكتملاً. لم أجرؤ على سؤاله مرة أخرى، فقد كنت أعلم على كل حال أنَّ الروح ستظل هائمةً أبداً، والجسد الذي تكمن فيه الروح سيظل جميلاً أبداً، مثل الطبيعة ستكون في انسجام أبداً. أما الإنسان، هذا الذي يهيم وحيداً في الكون وسط غيره، فليس ثمة فرق بينه وبينهم. وإذ أغادر حارس المقبرة الخرف، شعرتُ أنني انتكهت خصوصيته، أنا الغريب الذي أنتمي إلى عالم آخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق