الاثنين، 23 يوليو 2018

النصّ #حرباء


النص المكتوب نصّ مفتوح على دلالات عدّة. ومهما كان النصّ بسيطا فإنّه ليس من السهل اكتشاف مراميه. حين لا تعرف كاتب النصّ لا يمكنك معرفة النصّ. ولا يكفي أن تعرف كاتب النصّ لتلقط معنى النصّ. لسانيّات الخطاب من أعقد الدراسات اليوم. عليك أن تعرف خلفيّات من كتب النصّ، حالته النفسية، ظروفه الاجتماعية، ميوله السياسية والروحية.
عبارة واحدة يختلف معناها باختلاف قائلها: اعزب، متزوج، أرمل، مطلّق، مصاحب، عاشق، استاذ، تلميذ، غني، فقير، صغير ، كبير، بنت، صبي. عبارة " المال ليس كلّ شيء" تخرج من فم فقير لا تحمل المعنى نفسه الذي تحمله لو خرجت من فم غنيّ. وعبارة " أنا جائع" تقال من فم مسلم في رمضان لا تحمل المعنى الذي تحمله في الايام العادية، وقد تخرج من فم مسلم صائم، ولكنّها يمكن ان تخرج من فم مسلم غير صائم في رمضان. كيف اعرف ما تحمل العبارة على بساطتها؟ فقد يكون الناطق بها مسنّا ومريضا ويعجز عن الصيام، أو طفلا صغيرا غير مطلوب منه الصيام، وقد يقولها المسلم الصائم في صباح اليوم الرمضاني فيكون معناها غير ما تعنيه قبل الافطار بقليل بعد أن يكون الجوع قد فعل فعله معه. وقد يقولها الشخص كنوع من الاستفزاز. هل اعرف معنى العبارة اذا كنت ايضا لا اعرف الى من هي موجهة، ومن هو السامع لها؟
احيانا اجد عبارة مكتوبة على " تويتر" أو " الفايبسبوك" " وأتفاجأ أنّها نالت إعجاب شخصين وهما على طرفي نقيض فكري او سياسي او ديني. طرفان ؟ ما الذي وحّد بينهما غير ان كلّ واحد منهما رآها من منظاره الخاصّ، وفهمها على طريقته الخاصّة.
الإبهام قوّة للعبارة. الإبهام إيهام بالوضوح. ومن هنا قوّة الأمثال والأقوال المأثورة التي تتجرّد من سياقها، وتحرّر من ظروف القول، فيصير " جسمها لبّيساً" بسبب " الالتباس" الذي تحتمي به.
في علم اللغة الحديث درس جديد، شديد الحيوية، هو ما يسمّى بالدراسة البراغماتية او التداولية ويقصد به دراسة الكلام على ضوء استخدامه. من استخدمه؟ اين استخدمه؟ كيف استخدمه؟ لماذا استخدمه؟ مع من استخدمه؟ في اي وقت استخدمه؟ كل هذه الأسئلة هي الإطار الذي يبلور المعنى، بل يبلور حيّزا من المعنى ولا يفرج عن كلّ مراميه.
وهذه الدراسات اللغوية البراغماتية جمعت بين كلّ العلوم اللغوية، فالنحو وحده لا يقول شيئاً، والمعنى المعجمي وحده قد يكون أبكم، هي دراسات أزالت الحدود المصطنعة بين العلوم اللغوية والبلاغية والنفسية والاجتماعية.
اللغة بهلوان، وهي تحتاج الى علم يملك القدرات البهلوانية نفسها التي تمتلكها اللغة، علم متمرّس بألعاب الخفّة، والمشي على الحبال، علم يمتلك جسد حيّة، وشفافية قنديل البحر، وليونة اخطبوط.
أذكر في الختام كلمة كان ينهي علماؤنا القدامى الأفاضل بها كلامهم، وهي " والله أعلم"، والعبارة تليق بهذا العلم اللغويّ الذي لا يزال على فتوحاته المذهلة في السنوات الأخيرة يحبو على يديه وركبتيه.
فاللغة سرّ كالنفس البشرية، سرّ يزلق كالزئبق من بين أصابع اللاقط.
والمعنى روح القول، والروح من أمر ربّي!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق